علم ضبط النفس: هل تستطيع زيادة قوة إرادتك؟

هل سبق أن قررت البدء بالاستيقاظ باكراً، لكن بمجرد أن يرنَّ المنبه في الصباح تضغط زر الغفوة وتعود إلى النوم؟ هل تريد أن تبدأ بنظام غذائي صحي، لكن سرعان ما تعاود تناول الوجبات السريعة؟ هل ترغب في ممارسة الرياضة والتخلص من الوزن الزائد، لكن بعد يومٍ شاق في العمل ينتهي بك الأمر مستلقياً تشاهد التلفاز؟



لا بأس، أنت لست وحدك، يتمنى معظمنا لو تمتع بإرادة أقوى، لكن هل من الممكن تعزيز قوة إرادتنا؟ وما هي أفضل طريقة للقيام بذلك؟ يقدِّم العلم بعض الإجابات التي قد تفاجئك.

لماذا يجب أن نهتم بقوة الإرادة؟

يقول الباحث في مجال ضبط النفس "روي بوميستر" (Roy Baumeister): "معظم المشكلات التي يعانيها المجتمع المعاصر مثل الإدمان والإفراط في تناول الطعام والجرائم والعنف المنزلي والتحيُّز والديون والفشل التعليمي وتراجع الأداء الدراسي والمهني والتبذير وعدم الالتزام بممارسة الرياضة؛ تنتج بشكل أو بآخر عن فشل في ضبط النفس. 

يُعدُّ علم النفس الذكاء وضبط النفس من أهم الصفات التي تعود بالنفع على الفرد، وعلى الرَّغم من عقودٍ من الأبحاث والمحاولات لم يجد العلماء طرائق فاعلة لزيادة ذكاء البشر؛ لكنَّهم وجدوا أنَّه من الممكن تعزيز القدرة على ضبط النفس؛ لذا يُعدُّ ضبط النفس فرصة علماء النفس لإحداث فرق إيجابي ملموس في حياة الناس العاديين".

تؤكِّد أبحاث ضبط النفس أنَّ تعزيز قوة إرادة الفرد تؤثِّر تأثيراً إيجابياً في جميع جوانب حياته؛ إذ غالباً ما يكون الأشخاص الأكثر قدرة على ضبط النفس أكثر صحة وسعادة وثراءً ونجاحاً في حياتهم المهنية، كما أنَّ علاقاتهم أقوى وأكثر إرضاءً؛ لذا قد يكون الالتزام بالعمل على تعزيز قوة إرادتك من أفضل القرارات التي تستطيع اتخاذها.

ما هي قوة الإرادة؟

يجب أولاً من أجل فهم آلية عمل قوة الإرادة، توضيح معنى هذه الكلمة من وجهة نظر العلم، ما الذي يحدِّده العلماء المختصون على أنَّه قوة إرادة؟

تتحدث البروفيسورة "كيلي ماكجونيجال" (Kelly McGonigal) في كتابها قوة الإرادة القصوى (Maximum Willpower) عن ثلاثة جوانب مختلفة لقوة الإرادة:

  • قوة الامتناع عن الفعل: القدرة على مقاومة الإغراءات.
  • قوة الفعل: القدرة على القيام بما يجب القيام به.
  • قوة الرغبة: وعي المرء بأهدافه ورغباته على الأمد الطويل.

تنطوي قوة الإرادة وفقاً للبروفيسورة "كيلي" على تسخير هذه القوى الثلاث من أجل تحقيق أهدافك وتجنُّب المشكلات.

شاهد بالفيديو: ملخص كتاب سيطر على حياتك للدكتور إبراهيم الفقي

لماذا يتمتع البشر بقوة الإرادة؟

تُعدُّ قوة الإرادة ظاهرة رائعة، ويَعدُّها بعض العلماء أهم ما يميز البشر عن غيرهم من الكائنات؛ إذ لا تمتلك أي كائنات أُخرى مثل هذه القدرة المتطورة على التحكُّم في دوافعها.

لقد عاش البشر الأوائل في بيئة يعتمد فيها الفرد اعتماداً أساسياً على الجماعة التي يعيش فيها من أجل النجاة؛ فكان يتحتم عليه أن يكون قادراً على التحكم في دوافعه من أجل التوافق والانسجام مع أفراد الجماعة الآخرين، وهذا دفع أدمغة البشر إلى تطوير وسائل للسيطرة على دوافع الفرد تفادياً لأيَّة مشكلات تهدد وجوده، وإنَّ قدرتنا الحالية على التحكم بدوافعنا هي نتيجة لآلاف السنين من التكيُّف مع بيئة اجتماعية متزايدة التعقيد.

قوة الإرادة بالنسبة إلى العقل البشري: 

قشرة الفص الجبهي هي منطقة من الدماغ تقع خلف العينين والجبهة مباشرة، وقد كانت مسؤولة طوال تاريخنا التطوري عن التحكم في الحركات الجسدية مثل المشي، والجري وغيرها، وبمرور الوقت ازدادت هذه المنطقة اتساعاً، وزاد ارتباطها بمناطق الدماغ الأخرى كما أصبحت تتولى بعض الوظائف الجديدة، والآن تُعدُّ قشرة الفص الجبهي مسؤولةً عن التحكم بأفعالك وأفكارك وحتى مشاعرك.

توجد ثلاث مناطق مختلفة من قشرة الفص الجبهي، يتحكم كلٌّ منها بأحد الجوانب الثلاثة لقوة الإرادة:

  • المنطقة اليسرى من قشرة الفص الجبهي مسؤولة عن القدرة على القيام بما يجب القيام به.
  • المنطقة اليمنى من قشرة الفص الجبهي مسؤولة عن القدرة على مقاومة الإغراءات.
  • المنطقة السفلى الوسطى من قشرة الفص الجبهي مسؤولة عن وعي الفرد بأهدافه ورغباته على الأمد الطويل.

تهبنا هذه المناطق الثلاث مجتمعة القدرة على ضبط النفس والوعي الذاتي؛ أي بعبارة أخرى هي ما تمنحنا قوة إرادتنا.

تُعدُّ حالات الأشخاص الذين تعرَّضوا لإصابات أثَّرت في هذا الجزء من الدماغ من أفضل الأمثلة التي توضح أهمية قشرة الفص الجبهي؛ ففي عام 1848 كان "فينياس غيج" (Phineas Gage) شخصاً هادئاً ومحترماً ومجتهداً يعمل بصفته رئيس عمَّال، وللأسف تعرَّض لإصابة خطيرة في الدماغ ألحقت أضراراً بقشرة الفص الجبهي لديه لم يَعُد بعدها لسابق عهده أبداً، فقد تحوَّل إلى شخص مندفع وغير صبور.

تُعدُّ حالة "فيناس" من الأمثلة الكثيرة لأعراض تلف قشرة الفص الجبهي، وهذا يوضح أنَّ قوة الإرادة ليست أمراً غير ملموس؛ بل من وظائف الدماغ البشري العديدة.

إقرأ أيضاً: كيف تمحو الذكريات السيئة من الدماغ؟

لماذا كان أجدادنا أكثر انضباطاً منا؟

من أكثر الاكتشافات إثارة للصدمة فيما يتعلق بضبط النفس هو أنَّ قوة الإرادة مثل العضلات؛ تتعب عند المبالغة باستخدامها، وقد أجرى الباحث "روي بوميستر" (Roy Baumeister) تجارب عديدة في بيئة خاضعة للرقابة، طلب فيها من الناس ضبط أنفسهم ومحاولة مقاومة تناول الحلويات والتحكم بالغضب، ووضع اليد في ماء مُثلَّج لأطول مدة ممكنة وما إلى ذلك.

لقد اتَّضح أنَّ الأشخاص الذين اضطروا إلى استخدام قوة إرادتهم في جميع التجارب السابقة قد عانوا انخفاضاً في قدرتهم على التحكم بأنفسهم، وقد تجلَّى ذلك بطرائق مختلفة؛ فالأشخاص الذين طُلِب منهم التحكم بعواطفهم كانوا أكثر عرضة للتبذير وشراء منتجات غير ضرورية، بينما أدَّت مقاومة الحلويات إلى التسويف.

توصَّل "روي" أخيراً إلى استنتاج مفاده أنَّ قوة الإرادة تنخفض كلَّما استخدمناها، إضافة إلى ذلك تشير الأبحاث إلى أنَّ أموراً عديدة تستنزف قوة إرادتنا دون أن نعي ذلك، مثل حضور الاجتماعات المملة ومحاولة إبهار الجنس الآخر، وعدم التأقلم في بيئة العمل، وكلُّ هذه أشياء تستنزف قوة إرادتك؛ ففي كلِّ مرة يتعين عليك مقاومة دافع ما أو اتخاذ قرار مهما كان تافهاً، تستخدم قوة إرادتك؛ ومن ثَمَّ تستنفد احتياطي قوة الإرادة لديك.

إقرأ أيضاً: 7 طرائق تمكن رواد الأعمال من إتقان الوعي الذاتي

تقول بروفيسورة التسويق في "جامعة مينيسوتا" (University of Minnesota) "كاثلين فونز" (Kathleen Vohns): "تشير بعض الأبحاث إلى أنَّ الناس ما زالوا يتمتعون بقدرة أجدادنا القدماء نفسها على ضبط النفس؛ لكنَّنا نغرق بالمغريات كلَّ يوم أكثر فأكثر، ولم يعتد نظامنا النفسي على التعامل مع كلِّ هذا الإشباع الفوري المحتمل".

قد نحسد الأجيال السابقة على انضباطهم الذاتي؛ لكنَّ تراجع انضباط جيلنا مقارنة بالأجيال السابقة لا يتعلَّق بالضرورة بعيوب شخصية؛ بل بما يحيط بنا من مغريات، هل كان سيمارس القدماء الانضباط الذاتي الذي مارسوه لو كان لديهم الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي مثلاً؟

تعزيز قوة الإرادة: التأمُّل

الجانب المشرق هو تعزيز قوة إرادتنا إن التزمنا بتدريب عقولنا على ضبط النفس بانتظام، لقد تبيَّن أنَّ التأمُّل هو من أكثر الطرائق فاعلية لتعزيز قوة الإرادة؛ إذ تشير الأبحاث إلى أنَّ ثلاث ساعات من التأمُّل كفيلة بزيادة ضبط النفس والقدرة على التركيز، وبعد إحدى عشرة ساعة من التأمُّل تستطيع ملاحظة تغييرات واضحة في دماغ الفرد، ويعود السبب في فاعلية التأمُّل إلى قدرته على زيادة تدفق الدم إلى قشرة الفص الجبهي.

يتفاعل الدماغ مع التدريب مثلما تتفاعل العضلات مع الرياضة، على سبيل المثال بممارسة تمرينات الضغط تقوي عضلات ذراعيك، وبالتأمُّل تحسِّن الروابط العصبية بين مناطق الدماغ المسؤولة عن ضبط النفس.

ما هي أفضل طريقة للتأمل إذا رغبت في تعزيز قوة إرادتك؟

تقول البروفيسورة "كيلي ماكجونيجال" (Kelly McGonigal): "إنَّ تقنية التأمُّل التالية تُعزِّز تدفق الدم إلى قشرة الفص الجبهي، وهي أسرع وسيلة لتسريع عملية التطور والاستفادة القصوى من إمكانات دماغنا":

1. الجلوس والحفاظ على وضعيتك:

تستطيع الجلوس على كرسي ووضع قدميك على الأرض، أو الجلوس على الأرض ووضع إحدى ساقيك فوق الأخرى.

حاول مقاومة أيِّ دافع للتحرك، واختبر ما إن استطعت تجاهل شعور الحكة أو الإلحاح لتغيير وضعية جلوسك؛ إذ يُعدُّ الجلوس بلا حراك جزءاً هاماً من التأمُّل؛ لأنَّه يعلِّمك ألَّا تتبع دوافعك تلقائياً.

إقرأ أيضاً: 8 خطوات تساعد المبتدئين على تعلُّم رياضة التأمل

2. تحويل انتباهك إلى أنفاسك:

أغمض عينيك وركِّز على تنفسك، وقل في نفسك كلمة "شهيق" مع كلِّ شهيق و"زفير" مع كلِّ زفير، وحين تجد نفسك مشغولاً بأفكارٍ أخرى، توقَّف واستمر في التركيز على تنفسك؛ فينشِّط ذلك قشرة الفص الجبهي ويُهدئ مراكز التوتر والرغبة في دماغك.

3. ملاحظة مشاعرك:

 بعد بضع دقائق، توقف عن قول كلمات "شهيق" و"زفير" عندما تتنفس، وركِّز فقط على الإحساس بالتنفس، وقد تميل إلى الشرود أكثر دون هذه الكلمات، ومع ذلك حين تلاحظ أنَّك تفكر في شيء آخر، أعد انتباهك إلى التنفس.

إن وجدت صعوبة في استعادة تركيزك تستطيع معاودة قول "شهيق" و"زفير" عندما تتنفس بضع مرات، ويساعدك ذلك على التدرب على كلٍّ من الوعي الذاتي وضبط النفس.

قد تجد التأمُّل صعباً جداً حين تبدأ بممارسته لأول مرة، وهذا أمر طبيعي تماماً؛ إذ تَصعُبُ ملاحظة مدى تشتت أذهاننا في حياتنا اليومية؛ لكنَّ الجلوس ومحاولة التركيز على التنفس يلفت انتباهنا إلى هذه الفوضى الذهنية، وتُثبت الأبحاث أنَّ حتى خمس دقائق من التأمُّل يومياً تساعد على زيادة ضبط النفس والوعي الذاتي.

في الختام:

لا تقسُ على نفسك؛ فمن أهم استنتاجات البحث الحالي عن قوة الإرادة هو ضرورة التوقف عن الشعور بالذنب وإلقاء اللوم على أنفسنا في كلِّ مرة نفشل فيها في ضبط أنفسنا؛ ففي بعض الأحيان تكون كيمياء دماغنا هي السبب وراء افتقارنا إلى قوة الإرادة وليست عيوباً شخصية.

مثلما تعي أنَّ عضلاتك عاجزة عن تقديم طاقة غير محدودة، من غير المعقول أن تتوقع من عقلك تقديم قدر غير محدود من قوة الإرادة، وتذكَّر أنَّه يجب التدرُّب لتعزيز قوة إرادتك مثلما تتدرب لتعزيز قوتك البدنية.




مقالات مرتبطة