صدمة الطفولة: كيف نتعلم الكذب والاختباء وتزييف الحقائق؟

نسعى نحن البشر - بشكل طبيعي - إلى البحث عن الحقيقة، ونهدف أيضاً إلى قول الحقيقة، ومع ذلك، يكون معظم الناس غير صادقين ومنافقين للغاية، فيشعرون بالقلق الزائد بشأن آراء الآخرين فيهم ويكذبون باستمرار بوصفهم بالغين أحياناً بوعي وغالباً دون وعي، وإذا نظرت إلى طفل صغير جداً، إلى من لم يُصَب بالصدمات ولم يختبر أيَّة أذية نفسية، فستلاحظ من خلاله أنَّ الأطفال قد يكونون صادقين بشكل استثنائي.



في هذه الأثناء، يكون الرضع والأطفال الصغار كائنات صادقة للغاية؛ وذلك لأنَّ ردود أفعالهم العاطفية وأفكارهم نقية وصادقة، فإذا كانوا سعداء، يبتسمون ويضحكون، ويعبِّرون عن فرحهم بصدق، ويشعرون بالحماسة والدافع والفضول والإبداع، وإذا أُصيبوا بأذى، يبكون ويعزلون أنفسهم، ويثورون، ويبحثون عن المساعدة والحماية، ويشعرون بالخيانة والحزن والخوف والوحدة والعجز، فإنَّهم لا يختبئون وراء قناع.

للأسف، يرى البالغون في كثير من الأحيان هذه الظاهرة الطبيعية على أنَّها إزعاج أو سذاجة أو حتى مشكلة، إضافة إلى ذلك، من أجل التكيف والبقاء على قيد الحياة في بعض البيئات، يكون الكذب هو أفضل استراتيجية، ثم يكبر جميع هؤلاء الأطفال، بما في ذلك نحن، ضمن مجتمع؛ فيه الكذب وعدم الصدق والزيف وعدم الأصالة أمور طبيعية؛ لذا لنستكشف لماذا يكذب الأطفال ويخبئون أفكارهم ومشاعرهم الحقيقية، ثم ينمون ليصبحوا بالغين منافقين.

معاقبة الأطفال عادةً عندما يقولون الحقيقة:

على سبيل المثال، إذا رأى الطفل شيئاً قد يجعل الكبار غير مرتاحين، يُشجَّع عليه عدم قول أي شيء، وفي بعض الأحيان، تتم معاقبته أو رفضه أو تجاهله بسببه، وكثير من مقدمي الرعاية يضحون بصدق الطفل من أجل راحة الكبار.

تناقض المعايير:

ليس فقط أنَّ قول الحقيقة غالباً ما يكون ممنوعاً؛ بل في بعض الأحيان يتعين على الطفل الامتثال لمعايير متناقضة، وفي بعض الحالات، يُتوقَّع من الطفل أن يقول الحقيقة، لكن في حالات أخرى يُحَثُّ بشدة على عدم القيام بذلك.

على سبيل المثال، يُتوقَّع من الطفل أن يقول الحقيقة عن مكان ذهابه، وما يقوم به، وأمور شخصية مماثلة، وهنا، يُعَدُّ قول الحقيقة والصدق أمراً جيداً، ومع ذلك، في معظم الأسر، إذا رأى الطفل على سبيل المثال أنَّ الأب يعود لمعاقرة الكحول مرة أخرى أو أنَّ الأم تبكي بشكل هستيري أو أنَّ الوالدين يتشاجران، يُتوقَّع منه عدم الحديث عن ذلك.

من ثمَّ يصبح الطفل مرتبكاً بشأن قيمة الصدق، وكثيراً ما يصبح مرتبكاً بشأن الواقع نفسه، ويتعلم الطفل أيضاً أنَّه في بعض الأحيان يكون من المجدي تجاهل الواقع، أو على الأقل أنَّ مشاركة ملاحظاته مع الآخرين تُعَدُّ أمراً غير آمن.

عدم الإيمان أو عدم التصديق:

كثيراً ما لا يأخذ الكبار الأطفال على محمل الجد، ولنقدِّم مثالاً شائعاً، ولكنَّه مؤلم؛ فقد يتعرض الطفل للإساءة أو للتحرش وعندما يحاول أن يخبر الكبار في حياته عن ذلك، فإنَّه لا يُصدَّق أو يُعامَل بجدية، وهذا يُلحِق ضرراً هائلاً بالطفل؛ وذلك لأنَّه ليس فقط تعرض للإساءة؛ بل لم يتلقَ القبول والراحة والدعم بسبب ذلك، وهذا يجعل عملية التعافي من الإساءة صعبة للغاية إن لم تكن مستحيلة.

إضافة إلى ذلك، يتعلم الطفل أنَّه لا يمكنه الثقة في مقدِّم الرعاية خاصته، وأنَّ الآخرين لا يهتمون به، وأنَّه يجب أن يتعامل مع ألمه وحده، وفي بعض الحالات، يبدأ الطفل بالشك فيما إذا كانت الأمور حقيقية، فهي تلحق ضرراً كبيراً بتقدير الشخص لذاته.

شاهد بالفديو: 8 ممارسات لتزرع الثقة في نفس طفلك

معاقبة الأطفال على تجربة مشاعر معينة:

في الطفولة، غالباً ما يمنع الكبار الأطفال من تجربة بعض المشاعر، على سبيل المثال، يُمنَع التعبير عن الغضب تجاه مقدمي الرعاية ويُعاقَب عليه، أو يُشجَّع على عدم تجربة الحزن، وحتى عندما يتأذى الطفل، يتعرض في بعض الأحيان لانتقادات أو يُلام أو حتى يُستهزَأ به؛ إذ ينتقد الكبار الأطفال قائلين لهم: "هذا كله ذنبك!" أو "يجب أن تكون أكثر حذراً!"، ومن ثمَّ يتعلم الطفل أنَّ التعبير أو حتى تجربة بعض المشاعر ممنوع وخطير، وهنا، يتعلم الشخص كيف يمحو ذاته.

القدوة السيئة:

يتعلم الأطفال أيضاً أن يكذبوا ويكونوا غير أصيلين لأنَّهم يرون أمثلة سيئة في مقدمي الرعاية والآخرين، وللأسف، لا يرى الكبار أنَّ كذبهم على الأطفال أمر هام؛ بل في كثير من الأحيان يُنظَر إلى ذلك على أنَّه أمر مضحك؛ إذ يمزح الكبار ويربكون الأطفال، أو يبتكرون قصصاً وتبريراتٍ، أو يكذبون عليهم من أجل الراحة العاطفية والاجتماعية؛ لأنَّه من المؤلم جداً التحدث عن بعض الأمور، وأحياناً يرى الأطفال الكبار يكذبون على الآخرين للحصول على ما يريدون؛ لذا يتعلمون القيام بالشيء نفسه.

استراتيجيات عن كيفية معالجة الكذب:

1. توجيه الحوار لتعزيز الصدق مع الأطفال:

إذا كنت تعرف الإجابة، فلا تسأل ولا توفر فرصاً لطفلك أن يكذب، وإذا كنت تعرف حقيقة أنَّه فعل شيئاً خاطئاً، فلا تسأله إذا كان قد ارتكب خطأ

على سبيل المثال، بدلاً من السؤال "هل ضربت هذا الطفل؟" عندما تعرف أنَّ الجواب هو "نعم"، قل: "رأيت أنَّك ضربت هذا الطفل، فهل يمكن أن تخبرني ماذا حدث؟"، وبدلاً من السؤال "هل قمت بتنظيف غرفتك؟" عندما تعرف أنَّ الجواب هو "لا"، قل: "لقد رأيت غرفتك وهي غير مرتبة؛ لذا دعنا ننظفها معاً".

إقرأ أيضاً: ما هي آثار تجارب الطفولة السيئة في الأشخاص؟

2. التوقف عن قول "لماذا":

"لماذا؟" لا تؤدي سوى إلى مزيد من الأكاذيب، وعندما تواصل متابعة الحصول على إجابة عقلانية، ستحصل على نتائج وحجج طويلة وكاذبة، وخلال النزاع قول "لماذا" لا يجاب عنه مطلقاً، فكذب الطفل مرات عدة خلال الحديث يولِّد مناخاً عاطفياً سلبياً.

3. إدراك أنَّ المسافة العاطفية تُشعِر بالأمان:

يمنع الغضب التعلق، ومن ثمَّ يفكر الطفل "إذا لم أتقرب منهم جداً، فلن يؤذيني تخلِّيهم عني كثيراً"، فالكذب يضمن الحجة، لذلك هو بالنسبة إليه طريقة مؤكدة لحمايته من خسارة أخرى.

4. التغيير في استجابتك العاطفية للطفل أمر ضروري:

تزيد الاستجابة الهادئة مستوى التعلق بين مقدِّم الرعاية والأطفال، والتواصل بدوره هو السياق الذي تَحدُث فيه كل التطورات؛ إذ يسهِّل التواصل الصحيح النمو التنموي اللازم للطفل، ويسهِّل تخطِّيه لمرحلة الكذب والوصول إلى مرحلة الصدق.

5. إبعاد شعور العار من الكذب:

لا تعفُ عن الكذب، لكن أظهِر للطفل أنَّك تتفهم ما دفعه للقيام بذلك، فالكذب يأتي من العار وانعدام الأمان، وعلى هذا النحو، فإنَّ الرفض ومعاقبة الكذب يفاقم من هذا السلوك؛ لذا يجب أن تقول: "يبدو أنَّك تعاني، فدعنا نعرف كيف وصلت إلى هذه المرحلة، ثم دعنا نكتشف كيفية العودة إلى الطريق الصحيح".

شاهد بالفديو: 7 نصائح ذهبية لتنمية الذكاء العاطفي عند الأطفال

6. عدم أخذ الكذب على محمل شخصي:

تذكَّر أنَّ الكذب ليس من باب التحدي أو عدم الاحترام، وركز على ما أدى إلى الكذب، بدلاً من الكذب نفسه.

7. عدم الفضول وإلقاء الأحكام:

اسأل أسئلة بسيطة للكشف عن عنصر الخوف في الموقف، مثل: "هل يوجد شيء يقلقك؟".

8. مكافأة الحقيقة:

اقلب السيناريو بحيث تعطي قدر الإمكان مزيداً من الاهتمام بالسلوكات التي تريد رؤيتها أكثر.

9. تقوية وتعزيز التواصل:

من الهام التواصل والدعم عندما تعرف أنَّ الطفل يعاني من الكذب، ويساعد الاستثمار في العلاقة حقاً، فالكذب يعكس رغبة الطفل في الحفاظ عل علاقاته مع الآخرين، وإنَّ تعزيز السلامة مع مساعدة الطفل على ضبط الكذب الخاص به سيزيد من ثقته بك وسيلجأ إليك عندما يرتكب أي خطأ، وتذكَّر أنَّ الأمر لا يتعلق بثقتك به؛ بل يتعلق بثقته بك.

من خلال مساعدة الطفل على عدم الكذب وعدم معاقبته عليه عندما يكذب، فأنت هنا تشعر بالفضول بدلاً من أن تكون ناقداً؛ لذا البقاء قريباً وبناؤك لعلاقة آمنة معه، سيعزز من النقاش الصحي عن سبب شعوره بالحاجة إلى الكذب في المقام الأول.

إقرأ أيضاً: صدمات الطفولة والصحة العقلية

في الختام:

من خلال معاملة الطفل بهذه الطرائق الضارة، يتعلم أنَّ الصدق أمر خطير، وأنَّه من أجل البقاء ولكي تكون على الأقل مقبولاً إلى حد ما من قِبل مقدمي الرعاية، يجب عليك أن تخفي نفسك وحقيقتك، وأفكارك، وملاحظاتك، ومشاعرك، وتفضيلاتك، وفي بعض الأحيان يقرر الطفل أن يكذب لتلبية احتياجاته، وإلا لن يتم الاهتمام بها بالكامل، على سبيل المثال، إذا كان مقدِّمو الرعاية بعيدين عاطفياً، فقد يكذب الطفل أو يتظاهر بوجود أمر طارئ ما فقط ليحصل على بعض الاهتمام.

إذا تمت مهاجمة الطفل بانتظام أو رفضه لكونه صادقاً، فإنَّه يتعلم أن يختبئ ويتظاهر في كثير من الحالات إلى درجة يفقد فيها تدريجياً اتصاله بذاته الحقيقية، ولن يعرف مجدداً مَن هو حقاً، وهذا أمر مأساوي، ومع ذلك، من الهام أن ندرك بصفتنا بالغين أنَّه يجب ألا نخشى من الوحدة بعد الآن.

ليس من الضروري أن نحتاج إلى مقدمي الرعاية للبقاء؛ بل يمكننا التحمل والتعامل مع جميع هذه المشاعر من الخيانة، والجرح، وانعدام الثقة، والخجل، والوحدة، والغضب، وكثير من المشاعر الأخرى، وبصفتنا بالغين يمكننا بتأنٍ أن نفكك جميع هذه المشكلات وأن نعيد اكتشاف من نحن حقاً، كما يمكننا أيضاً أن نبدأ ببناء الثقة بالآخرين الذين هم في الواقع جديرون بالثقة، وكذلك يمكننا أن نصبح صادقين مرة أخرى.




مقالات مرتبطة