تقنية "السماح بالرحيل" من أجل حياة أقل بؤساً

كثيراً ما نتعرَّض في حياتنا لضغوطات معيَّنة تسبب لنا الضيق لدرجة أنَّها قد تُخرجنا في بعض الأحيان عن نطاق سيطرتنا على ذواتنا، لنقوم بردود فعل قد نتفاجأ منها نحن أنفسنا قبل الآخرين، فكم من مرَّة انفجرت غضباً في وجه أحد ما بسبب موقف صغير لا يستحق رد الفعل الهائل ذلك؟



كم من مرَّة تلفظت بكلمات ما إن تتأملها وتعيدها في شريط ذكرياتك حتى تندم على قولها؟ والسؤال الأهم الذي أطرحه عليك هو: هل سألت عن مسببات الحالة الانفعالية التي وصلت إليها في يوم من الأيام؟

في الحقيقة إنَّ معظم الانفعالات التي يظهرها الإنسان في مواقف مختلفة، ما هي إلَّا من أجل تنفيس الاحتقان، والذي غالباً ما يتشكَّل نتيجة تراكم المشكلات والخيبات، حتى تأتي تلك اللحظة التي تسقط فيها القطرة ليفيض الكأس.

كثيرة هي الأحداث والمواقف التي تثبت أضرار احتجاز المشاعر السلبية التي تؤرقنا، وتؤكِّد ضرورة إطلاق سراحها خارج قضبان توقعاتنا وتخيلاتنا؛ إذ إنَّ مثل هذه المشاعر تؤثر سلباً وجداً في الصحة النفسية والجسدية للإنسان.

فإذا ما أجمعنا على ضرورة التخلُّص منها، وقفنا عاجزين أمام صعوبة تحقيق ذلك؛ لذا إنَّ الفيلسوف والمفكر الأمريكي ديفيد هوكينز قد أَذهب عنَّا هذا العناء، وقدَّم لنا في كتابه "السماح بالرحيل" (Letting go) خطوات عملية للتحرُّر من المشاعر الحبيسة في النفس؛ وذلك من أجل التمتع بحياة أكثر خفة وأقل بؤساً.

ما هي تقنية السماح بالرحيل؟

تقنية السماح بالرحيل هي آلية تتحدث عن تحرير النفس من المشاعر السلبية الكامنة فيها، والتي تتكدس وتتراكم في النفس البشرية، وتكون سبباً خفياً للإصابة بالكثير من الأمراض الجسدية والنفسية؛ إنَّها تقنية تُطبَّق بشكل واعٍ بناء على رغبة الإنسان، وتجعل منه قائداً لنفسه ومسؤولاً عن مشاعره؛ فيتحرر بذلك من شعوره بالذنب، ويخرج من دور الضحية الذي يفسر أغلب الأحداث في حياته على أساسه، ويصبح مسيِّراً لحياته ومتحكماً باستجاباته.

إنَّ مشاعر الإنسان هي المتحكم الأكبر بحياته وتصرفاته ومواقفه، وإنَّ الأفكار بريئة من كل هذه السيطرة المنسوبة إليها كما يظن بعضنا؛ وذلك لأنَّ الأفكار تظل قاصرة عن التأثير ما لم تثير شعوراً، فإذا اتَّقد شعورٌ ما في النفس، تحرك الجسم لتجسيده اعتماداً على المثلث "فكرة - شعور - سلوك".

على سبيل المثال نُوضح ذلك بأن نذكر فكرة "الموت"؛ ففكرة الموت بحد ذاتها غير مؤلمة؛ وذلك لأنَّ الموت حق وواجب على كل نفس، ولكنَّه وبشكل لا شعوري يثير في النفس البشرية مشاعر الحزن على الفراق، أو الندم، أو القلق على مستقبل الأطفال فيما لو كانوا صغاراً، إذاً فإنَّ الفكرة بحد ذاتها غير مؤلمة؛ وإنَّما المؤلم هو المشاعر الكامنة خلفها.

في حقيقة الأمر، إنَّ الإنسان هو المسؤول عن حالته الشعورية وعن مدى تأثير المحيط فيه، ولكنَّه في كثير من الأحيان لا يدرك ذلك، ويسلِّم بوجود الأشياء السلبية على أنَّها جزء من الحالة الإنسانية، وهنا لا بدَّ لنا أن نوضِّح أنَّ المشاعر السلبية من غضب وحزن وقلق وندم هي مشاعر طبيعية فطرية لدى الإنسان، لكن ما هو غير طبيعي هو استسلام الإنسان المطلق لها، وعيش الحاضر في دوامة لا نهائية منها بسبب أحداث ماضية.

إنَّ قمة الظلم للنفس أن نعيش الحاضر تحت وطأة الماضي وثقله، وهذا يبدو غير منطقي لبعضنا؛ لذا فإنَّنا سوف نورد مثالاً للتوضيح: لم يحضِّر سعيد لامتحانات المرحلة الثانوية تحضيراً جيداً رغم مستواه المتفوق في السنوات السابقة؛ لذا فإنَّه حصل على درجات متدنية نوعاً ما لم تؤهله لدخول الفرع الذي طالما رغب في دراسته، واضطر إلى دخول فرع لا يحبه.

درس سعيد وتخرَّج وبدأ العمل في اختصاصه وهو ما يزال نادماً على إضاعته الوقت قبل الامتحانات ودخول هذا الاختصاص، لكن ماذا يفيد الندم؟ وماذا تُجدي شكوى سعيد المستمرة من عمله واختصاصه؟

إنَّ مشاعر الندم الموجودة في نفسه تجعله يعيش حياته مرغماً، أليس من الأَوْلى بسعيد أن يتقبَّل طيشه في تلك المرحلة ويسامح نفسه على خطئه البشري الطبيعي؟ أليس حريَّاً به أن يبدأ بسعي جديٍّ إلى التغيير يكون إمَّا بمحاولة النظر إلى الاختصاص من زاوية أخرى والحكم على مزاياه وإيجابياته أو البحث عن مجال آخر يحبه ليتعلمه ويبدأ به من جديد؟ من أخبر سعيداً بأنَّنا مجبرون على إكمال حياتنا بناءً على خيار فُرِض علينا أو اتخذناه في مرحلة أدنى من الوعي؟

إنَّ أيَّة مشكلة في العمل تعترض طريق سعيد ستكون سبباً في دخوله في دوامة من المشاعر السلبية، رغم أنَّ المشكلات في العمل جزء من أي عمل، لكنَّ جذر المشكلة هو في شعور سلبي لا يكاد يندمل إلَّا ويأتي سبب ينكؤه من جديد.

في داخل كل واحد منا "سعيد" يختبئ من شعور وراء إصبعه، ولا يجرؤ على مواجهة نفسه بحقيقة جذور مشاعره والسماح لها بالرحيل، رغم علمه بأنَّ هذه هي الطريقة الوحيدة ليستريح إلى الأبد.

شاهد: 8 طرق تمكنك من عيش حياة سعيدة وهانئة

كيف تتعامل الآلية العقلية مع المشاعر؟

يتعامل العقل البشري مع المشاعر كما يرى هوكينز بواحدة من الطرائق الثلاث الآتية: القمع، الهروب، التعبير.

1. القمع والكبت:

في كثير من الأحيان تُولِّد الأفكار في أذهاننا مشاعر مرفوضة بالنسبة إلينا؛ وسبب هذا الرفض هو ما تمت برمجتنا عليه من معتقدات، فنواجه هذه المشاعر بالإنكار والقمع والكبت، فنحن لا نرغب في الدخول في مواجهة هذه المشاعر التي نعتقد أنَّ مجرَّد تولُّدها بحد ذاته خطأ كبير يفقدنا الصورة المثالية التي نرسمها لأنفسنا، وفيما يأتي مثال عن ذلك:

تخرجت أنت وصديقك من الكلية ذاتها، وكنتما في مستويين متقاربين، وتوظَّف كل منكما في شركة في المسمى الوظيفي ذاته، تلتقيان بشكل يومي، وتتبادلان الآراء والنقاشات المتعلقة بالعمل المتشابه، لكنَّ ميزات صديقك الوظيفية أفضل بكثير من ميزاتك، وراتبه أعلى من راتبك، مرَّة بعد مرَّة يصبح وقت لقاء الصديق سبباً في امتعاضك وإشعارك بالظلم، وتبدأ مشاعر الغيرة بالاختلاج في نفسك ولكنَّك تقمعها؛ وذلك لأنَّها تتنافى مع مشاعر الصداقة التي تربيت عليها، والتي تقتضي بأن تؤثِر صديقك على نفسك وتتمنى له الخير أكثر منك، ثم تبدأ مشاعر الذنب وجلد الذات وإطلاق الأحكام "كيف أغارُ من صديقي؟ كم أنا صديق مزيف!".

إنَّ كبت المشاعر السلبية يكون بلا وعي، أمَّا قمعها وإنكارها يكون بشكل واعٍ، وإنَّ هذه المشاعر المكبوتة لن تفنى ما لم تتفرغ بشكل صحي، وستُترجم على هيئة مزاجية وسخط وانفعال، وأعراض جسدية على شكل ألم في الرقبة والظهر وتوتر عضلي وصداع واضطرابات في الدورة الشهرية وأرق وعسر هضم والتهاب قولون.

2. الهروب:

هو من طرائق تعامل العقل البشري مع المشاعر، وهذا ما نلمسه بوضوح عند مدمني العمل، والذين يلجؤون إلى إشغال ذهنهم في العمل الفكري أو الجسدي حتى لا يتسنَّى لهم وقت كافٍ للتفكير في مشاعرهم، كما يهرب بعضنا من مواجهة مشاعره فيلجأ إلى شرب الكحول أو تعاطي المخدرات، وبعض آخر يهرب من مشاعره عن طريق إبقاء نفسه مشغولاً بالنشاطات الاجتماعية والتواصل مع الآخرين.

إنَّ الهروب من مواجهة المشاعر أمر ممكن، لكنَّ تلافي آثار هذا الهروب على الصحة الجسدية والنفسية مستحيل؛ فهو يؤدي إلى القسوة وزيادة الأنانية وفقدان الإبداع وانطفاء الشغف وكره الذات والوفاة المبكرة، وفيما يأتي مثال عن الهروب من المشاعر:

سافرت صديقتي للدراسة في مدينة أخرى وسكنت في منزل أقربائها، وكانت سعيدة جداً بالجو العائلي، لكنَّها كانت مقيدة بأشياء كثيرة لعلَّ أبسطها وقت النوم ونوع الطعام؛ وذلك لأنَّ المفاضلة بين الكلفة العالية لاستئجار منزل وتحمُّل مسؤوليات المعيشة، كانت كافية للتهرُّب من أي شعور بانعدام الحرية وفقدان الاستقلالية الذي كانت تحس به في أي موقف اعتادت أن تكون صاحبة القرار فيه، ولكنَّها في نهاية المطاف واجهت مشاعرها واتخذت قرار الاستقلال.

3. التعبير:

إنَّ التعبير هو واحد من طرائق تعامل العقل مع المشاعر، ويكون التعبير عن طريق الكلام أو لغة الجسد أو الأفعال، وهو الوسيلة التي يظن بعضنا أنَّها تحرر المشاعر، لكن ما لا يعرفه الكثيرون هو أنَّ التعبير عن شعور سلبي ما يزيده ويعطيه طاقة أكبر أولاً، ويقمع ثانياً سواه من المشاعر ويُدخلها في اللاوعي؛ لذا فإنَّ الطريقة المثلى للتعامل مع المشاعر السلبية هي تحمُّل مسؤوليتها وتفريغها بطريقة صحية وحيادية، وترك التعبير للمشاعر الإيجابية فقط.

شاهد أيضاً: 5 طرق تفكير سلبية عليك تجنبها اليوم

الخطوات العملية لتقنية السماح بالرحيل:

يقول هوكينز: "السماح بالرحيل يعني إدراك شعور ما، والسماح له بالظهور، والمكوث معه، والسماح له بأن يأخذ مجراه دون محاولة تغييره أو القيام بأي شيء حياله؛ فهو ببساطة يعني السماح له بأن يكون هنا والتركيز في التخلص من الطاقة التي تكمن خلفه".

من هذا القول يمكننا استخلاص الخطوات العملية لتحرير شعور سلبي ما والتخلُّص من تبعيات وجوده، ويكون ذلك بما يأتي::

1. الاعتراف بالشعور:

عن طريق ذكر الشعور باسمه الصريح: "أنا أشعر بـ" مهما كان نوع هذا الشعور، ودون أيَّة محاولة للخوف منه أو قمعه أو إنكاره أو تهذيبه.

2. التسامح مع النفس:

أن تشعر بشعور سلبي "كالغيرة من صديقك مثلاً" لا يعني أنَّك شخص سيِّئ، فنحن جميعنا بشر والمشاعر لا يمكن السيطرة عليها؛ بل يمكن السيطرة على الاستجابات.

3. عدم مقاومة الشعور:

لأنَّ المقاومة تجعل الشعور يستمر، وعدم المقاومة يبدد الشعور ويحرر الطاقة الكامنة وراءه.

إقرأ أيضاً: هل حياتك بائسة؟ إليك دليل السعادة والنجاح والتخلص من إرهاق الحياة

4. التحرر من رد الفعل تجاه المشاعر:

والذي عادةً ما يكون عبارة عن شعور بسبب شعور آخر مثل الخجل من الخوف، فبعض الناس يخجلون من معرفة الآخرين بمخاوفهم وما سيُطلقون عليهم من أحكام، وهنا الشخص نفسه هو أول من يحكم على نفسه؛ لذا يجب أولاً السماح برحيل الشعور تجاه الشعور، ومن ثم الانتقال إلى تحرير الشعور ذاته.

5. تجاهل الأفكار المرافقة للسماح برحيل شعور ما والتركيز في الشعور فقط:

وذلك لأنَّ هذه الأفكار هي تبريرات العقل لتفسير سبب وجود الشعور، ولكنَّ المنشأ الحقيقي للشعور هو نتيجة الضغط المتراكم خلفه.

إقرأ أيضاً: 4 نصائح للتغلب على المشاعر السلبية

في الختام:

إنَّ كبت المشاعر السلبية يعني تكديسها في فضاءات الروح؛ مما يشكل عبئاً ثقيلاً على النفس والجسد، وإنَّ تقنية السماح بالرحيل هي تمرُّد على جميع الطرائق التقليدية التي يتعامل فيها العقل مع المشاعر السلبية؛ إنَّها إطلاق لسراحها خارج جدران النفس، واعتراف بها، وتسامح معها، وتقبُّل لوجودها ومن ثم تحرير لأجنحتها من البرمجات والمعتقدات والأحكام، لتطير بعيداً وبكل سلام خارج قضبان الروح.

المصادر: 1،2،3




مقالات مرتبطة