تعرفّ على أسرار الصوم وأنواع الصائمين في رمضان

عندما تتأمَّل في الصيام، تجد فيه معنىً عظيماً في العبودية، لا يوجد في غيره من العبادات، وهو أنَّه العبادة الوحيدة التي يمكنك أن تتلبَّس بها أطول وقت، وتكون فيه كلَّه قائماً بالعبادة، لا تنخرم في لحظة واحدة.



ولهذا استحبَّ من استحبَّ من السلف الوصال، وحملوا النهي عنه على أنَّه مخصوص بمن يضعِفه، فقد أرادوا تحقيق هذا المعنى الذي لا يوجد مثله إلًا في ملائكة الله تعالى التي تواصل العبادة بلا فتور أبد الدهر.

بل هي العبادة الوحيدة التي يمكن أن يجمع معها العابد في وقت أدائه لها كلَّ العبادات الأخرى، من الطهارة إلى الجهاد في سبيل الله، ولهذا عظُم أمره عند الله تعالى حتى قال جلَّ وعزَّ في الحديث القدسي: "إلاَّ الصوم فإنّه لي وأنا أجزي به" (متفق عليه)، وبلغ من تعظيمه أن اختار الحقُّ سبحانه شهر الصوم ليكون الشهر الذي يُنزل فيه القرآن، وفيه ليلة القدر، وتفتح أبواب الجنان، وتغلق أبواب النيران، ويعتق الله فيه كلَّ ليلة من النار من شاء أن يعتقهم.

فالصائم متعبِّد لله تعالى في صحوه، ونومه، وشُغله، وفراغه، وصمته، وكلامه، وليس شيء يشبه الصيام في هذه الخاصية إلّا الجهاد في سبيل الله، فإنَّ المجاهد يجري عليه ثوابه من لحظة خروجه من بيته للجهاد، ثم لا يتوقف حتى يرجع، فإنْ اختاره الله شهيداً كُتب أجره إلى يوم القيامة.

ولهذا صار بين الصوم والجهاد وجهُ شبهٍ عظيم، فالصائم مجاهد لجميع هواه وما تشتهيه النفس، وفي الحديث "أفضلُ الجهادِ من جاهد نفسَه في ذاتِ اللهِ عزَّ و جلَّ"؛ ولهذا هو يضيِّق على الشيطان مجاريه، في المكر به، والمجاهد في سبيل الله يجاهد شياطين الإنس، فيضيِّق عليهم مجاريهم في المكر ضدّ إعلاء كلمة الله تعالى.

إقرأ أيضاً: متى فرض الصيام؟ وما علاقة الصيام بالجهاد؟

ومن هنا "والله أعلم" ارتبط الجهاد في تاريخنا بشهر الصوم، فوقعت فيه أعظم المعارك الإسلامية، وكان التكبير شعار نهاية الصوم في عيده، والتكبير شعار الجهاد في سبيل الله تعالى، وإذا فتحوا مدينة، أو قرية، أو حصناً، كبروا في نواحيها، فعيد الجهاد الفتح بالتكبير، وعيد الصوم الفطر بالتكبير.

وكما أنَّ القرآن يرتقي الصوَّام إلى فهم معانيه أكثر من غيرهم، فصومهم يهيّئهم لنيل هذه المنزلة العالية، ولهذا أمر الله تعالى موسى أن يواصل الصوم ثلاثين يوماً، ثم أن يتمّها بعشر، حتى يتلقّى كلام الله تعالى التوراة بعد هذا الجهاد العظيم.

كما أنَّ القرآن هذا حاله مع الصيام، فكذلك مع الجهاد في سبيل الله، فإنّه وسيلة لإعلاء كلمة الله القرآن؛ فغاية الجهاد ونهايته إعلاء القرآن في الأرض، كما أنَّ الصوم يُعلي العبد إلى القرآن في نفسه، وقد قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185]. وسمّى الله تعالى أعظم غزوة في الإسلام (يوم الفرقان).

ولهذا صار رمضان شهرَ القرآن، وكان النبيُّ يواصل الصوم فيه، لأنَّ جبريل إنّما كان يراجعه القرآن في رمضان.

وشُرع فيه بعد الصوم في نهاره، قراءة القرآن في المساجد في صلاة جماعة في ليله.

ولنرجع إلى ما ذكرناه أوَّل المقال، وهو ما في الصوم من الخصوصية في التعبد، فإن قيل: فالصائم إنّما منع من النكاح والأكل والشرب، غير أنَّ في النفس شهوات أخرى تطلبها، فكيف يتحقّق ما ذكرته من المعنى؟ فالجواب: أنَّ النبي لم يدع بيان هذا، فقال: "مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فليسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ". والزور هو الباطل كله، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72]؛ أي: لا يحضرون أماكن الباطل.

وقال عليه الصلاة والسلام للصائم: "فَإِنِ امْرُؤٌ شَاتَمَهُ، أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إنِّي صَائِمٌ، إنِّي صَائِمٌ".

إقرأ أيضاً: الصوم وأثره في تهذيب النفوس وصحّة الأبدان

وذلك لأنّ الصائم متلبسٌ بالعبادة الدائمة كما ذكرنا، ففيه شبهٌ من المصلِّي، وكما أنَّ المصلّي لا يأكل، ولا يشرب، ولا يتكلّم، فكذلك الصائم، غير أنّه لما كان تحريم الكلام على الصائم مع طول وقت الصوم، مشقّته عظيمة، مع ما يترتب عليه من مفاسد، أبيح للصائم الكلام، وشُدِّد عليه فيه، وأمَّا الصلاة فجعلت الكلمة فيه عمداً تبطل الصلاة.

ومن أسرار الصوم أيضاً أنّ الله تعالى يبسط فيه موائد رحمته لعباده، ويظهر لهم بعض ما في كنوزه من الخيرات، وأعظم ذلك أنَّه يغلق أبواب النار، ويفتح أبواب الجنان.

فتُفتح قلوب المؤمنين إلى نيل ما في الجنة بالعمل الصالح، ويُغلق عليهم ضدُّه، إذ كان بين ذلك الإغلاق للنار، والفتح لأبواب الجنة في السماء، وبين هذا الإغلاق والفتح في قلوب أهل الإيمان، ارتباطٌ وثيق.

ولهذا تفتح أبواب الجنة كلّها كما صح في الحديث لمن يتوضّأ، فيتشهَّد بعد وضوئه، وقال العلماء: لأنّه تطهر من الذنوب بالوضوء، وأتى أعظم العمل الصالح بالشهادتين، فتمَّ له من الإيمان ما تمّ، ففتحت له أبواب الجنة.

فكأنَّ مفاتيح أبواب الجنة في نفوس المؤمنين، وقد أعطاهم الله تعالى بإيمانهم القدرة على ما لا يطيقه أحد من الخلق أجمعين.

إقرأ أيضاً: درجات الصوم وأنواعه

كما أعطى الصائم القدرة على أن يوصل إلى الله تعالى المتمجد في علاه على عرشه العظيم، ما هو أطيب من ريح المسك، فيجد الله تعالى تلك الرائحة الزكيّة من عبده الصائم، وقد قال بعض العلماء: لو لم يكن للصوم إلّا هذا الفضل العظيم لكفاه.

ومن أسرار الصوم أنَّ الله تعالى يمرّن فيه المؤمن ضعيف الإيمان على قتال عدوِّه، فيعلّمه القتال، ويدرّبه على فنونه، ويُبقيه في هذا المعسكر شهراً كاملاً، حتّى يصلُب عوده، ويتخّرج منه مقاتلاً، قويّاً، صلباً، لا يلين.

وذلك أنَّ الله تعالى يسلسل الشياطين في شهر الصوم، ويمدُّ المؤمن بعبادة الصوم، وهي عبادة متواصلة، ترقى بالنفس إلى كمالات الإيمان، كما ذكرنا، فتصير صورة المؤمن مع عدوِّه، وكأنَّ الشيطان موثقٌ إلى سارية، والمؤمن يوجه السهام إليه، فيتدرَّب على حربه شهراً كاملاً، فيدع الشهوات، ويتجنَّب قول الزول، ويملك غضبه حتى لو سبَّه أحدٌ، أو شاتمه، فيعوِّد نفسه بذلك على التحكُّم في القوّة الغضبيَّة، والقوَّة الشهوانيَّة، وهما مدخلا الشيطان على الإنسان.

ويقول العارفون في النفس البشرية: إنَّ في مدة الشهر سرّاً خفيّاً، وهو أنّ الإنسان لا يصبر على شيء شهراً كاملاً إلّا صار له سجية لعام، حتى يأتي رمضان الذي بعده، فيعيد التدريب، وهذا من أسرار تحريم تأخير القضاء إلى أن يأتي رمضان التالي.

كما ذكر العلماء أنَّ العبد لا يصبر على شيء عاماً واحداً، إلّاّ صار له سجيَّة بقية عمره، ولهذا كان عمر يضرب للتائب سنة، وفي عقوبة الزاني تغريب عام.

إقرأ أيضاً: الحكمة من تشريع الصيام وأهم مُفسدات الصوم

هذا والصائمون في رمضان أقسام:

1. من يرتقي مع رمضان، وهم الصالحون الذين أعمروا أيامهم كلَّها بالعمل الصالح، فلا يجدون في رمضان مجالاً لزيادة، فهم مرتقون أصلاً، لكن جاء رمضان فزاد ثواب أعمالهم أضعافاً مضاعفة. وهم صفوة الصفوة، وهم قليل جدّاً في الأمة، لكنّهم قطب رحاها، وسر قوتها، وعلاها.

2. من يرتقي به رمضان، ثم يبقى في رقيِّه، ولا ينزل عن درجته بعده، وهم الصالحون الذين كانوا مقصّرين في منازل السائرين، فلمّا جاء رمضان رقي بهم، فعلوْا به، وبقوْا.

3. من يرتقي به رمضان، لكنّه ينحط عن منزلته التي بلغها فيه إلى أدنى منها بعده، وهؤلاء أكثر الصالحين من أهل الاستقامة.

4. من ينتشلهم رمضان من الغفلة أو المعاصي، فيصلح حالهم بسببه، ويرتفعون عن درجة الظالمين أنفسهم إلى المقتصدين، وقد يبقون فيها، أو يلتحقون بأحد الأقسام السابقة في رمضانات أخرى، وهؤلاء هم موكب التائبين في رمضان، وفي كل رمضان قوافلٌ للتائبين، بل أكثر التائبين يتخرجون في مدرسته.

5. من يمرُّ عليهم رمضان على أنّه مناسبة للتهاني، والموائد، والمجالس، والسهر، يصومونه صيام العادات، كما يصلون صلاة العادات، فيكونون بعد رمضان، وفيه، كما كانوا قبله، طاعاتهم هي هي، ومعاصيهم، وهم غالب الصائمين، نسأل الله أن يهديهم ويصلح أحوالهم.

 

وبعد فنسأل الله تعالى أن يفيض علينا من بركات هذا الشهر العظيم من أعلى الدرجات، وأن يرزقنا فيه صيامه، وقيامه، وتلاوة كتابه، على الوجه الذي يرضيه، كما نسأله سبحانه أن يرزقنا قلوباً سليمة من الحسد، وصدوراً سالمة من الغلِّ على المؤمنين، وأن يصلح لنا شؤوننا كلَّها، وأن يجعل عاقبة أمرنا كلَّه رشداً، وأن يعيد أمة الإسلام إلى عزها.




مقالات مرتبطة