النمو النفسي الاجتماعي لشخصية الإنسان: مراحل إريكسون

تختلف مراحل تطور شخصية الإنسان تبعاً للثقافة والحضارة والبيئة التي نشأ فيها، وتبعاً لطبيعة المعارف ودرجة التطور التقني والعلمي الموجود ضمن حقبة نموه. وسنتناول في هذا المقال المراحل الثماني التي تكلم عنها "إريك إريكسون" عن النمو النفسي الاجتماعي لشخصية الإنسان، وسنتعرف في البداية إلى شخصية ونشأة هذا العالِم المبدع، ونقاط التشابه والاختلاف بين نظرية "إريكسون" ونظرية "فرويد"، وأخيراً سنتعرف إلى أهم الانتقادات لنظرية "إريكسون".



مَن هو "إريك إريكسون"؟

وُلِد "إريك إريكسون" سنة 1902 ميلادي في "ألمانيا" في مدينة "فرانكفورت"، وعاش مع زوج أمه، وكان يجهل تماماً هوية والده البيولوجي، وقد تكون هذه النقطة هي النقطة الأهم في حياته، والتي كانت الشرارة (der Funke) التي أشعلت في داخله حطب التفكير.

وكان "إريك إريكسون" ينوي الابتعاد عن التعليم والعلم؛ لأنَّه كان يود أن يصبح فناناً؛ لذلك لم يتلقَّ هذا النوع من التعليم النظامي؛ وهذا ما سبب له أزمة هوية وأزمة انتماء حقيقية، ثم ذهب فيما بعد إلى "آنا فرويد"، وهي ابنة العالم الشهير "سيغموند فرويد"، التي كانت تُجري العديد من الأبحاث والدراسات على الأطفال والاضطرابات التي يواجهونها، وأبدى إعجابه في هذه الأفكار، واعتنق كثيراً من المبادئ التي صاغها "فرويد".

لقد انخرط "إريك إريكسون" في العمل النفسي، وتميز بإجراء حوارات طويلة مع المراهقين، وكذلك اهتم بمعالجة الجنود الذين كانوا يعانون من المشكلات النفسية التي خلَّفتها الحروب والمعارك التي خاضوها.

على ماذا ارتكزت نظرية "إريكسون"؟

ارتكزت نظرية "إريكسون" على مفهوم البحث عن الهوية؛ وهي الأساس الذي يقوم عليه بناء الشخصية، وهذا البحث يكون عبارة عن محاولة لفهم وقبول النفس، ومن بعدها محاولة إيجاد روابط مع المجتمع تنسجم مع الهوية الذاتية.

ما هي مراحل نمو الشخصية النفسية الاجتماعية حسب تصنيف "إريك إريكسون"؟

بناءً على ما مر به "إريكسون" في حياته الشخصية والمهنية، صاغ لنا نظريته التي تلخص مراحل النمو النفسي والاجتماعي في شخصية الإنسان، وبيَّن فيها أهمية الثقافة والبيئة الاجتماعية في بناء شخصية الإنسان التي قد تتفوق على العوامل الداخلية أو الجينية أو الوراثية.

وقسَّم "إريكسون" مراحل نمو الشخصية إلى ثماني مراحل، كل مرحلة هي عبارة عن أزمة أو مشكلة يجب حلها، أو حاجة يجب إشباعها من أجل الانتقال إلى المرحلة التالية انتقالاً سليماً وصحيحاً.

هذه المراحل مرتبة وفق ما يأتي:

المرحلة الأولى: مشكلة الثقة مقابل عدم الثقة

تشغل هذه المرحلة السنة الأولى من عمر الطفل، وتوافق المرحلة الفموية وفق نظرية "سيغموند فرويد"، وهي تتعلق تعلُّقاً أساسياً بعلاقة الأم بطفلها، فإما تقوم الأم بواجب الرعاية والحماية وإشعار الطفل بالأمان والحنان والراحة، ومن ثمَّ يتولد لديه شعور الثقة، وتُبنى اللبنة الأولى لتكوين إنسان متوازن من الناحية النفسية والاجتماعية، أو في حال لم تقم الأم بدورها الطبيعي، فإنَّ الثقة لن تُبنى عند الطفل.

وهذا ما سيشكل مشكلة كبيرة في غاية الأهمية والخطورة، فإنَّ مفهوم الثقة بكامله قد يغيب عند الطفل؛ أي إنَّه قد يصبح في المستقبل لا يثق بالأشخاص أو المنظومات الموجودة حوله؛ مثل المجتمع، أو الأصدقاء، أو المدرسة، أو الدولة، أو الشرطة.

شاهد بالفيديو: 10 مهارات عملية عليك تعلمها لتطوير شخصيتك

المرحلة الثانية: مشكلة الاستقلال (Autonomy) مقابل الشعور بالخجل

تسود هذه المرحلة في السنة الثانية من العمر، ولا يمكن الوصول إليها واجتيازها اجتيازاً سليماً دون إتمام المرحلة الأولى إتماماً صحيحاً، وفي هذه المرحلة تتولد رغبة عند الطفل في الاستقلال والحكم الذاتي، ولكنَّها تترافق مع حاجته إلى الرعاية والحماية.

وهنا يأتي دور الأهل في إحداث التوازن بين طرفي المعادلة؛ وذلك لأنَّ إهمال هذا الموضوع قد يؤدي إلى مشكلة حقيقية في تطور الطفل من الناحية النفسية والاجتماعية، ويتجسد ذلك بإصابته بالخجل والارتباك عندما يتعرض لخبرات وتجارب جديدة، بالإضافة إلى ضعف قدرته على حل المشكلات والصعوبات التي قد تعترض طريقه في المستقبل بشكل فعال.

المرحلة الثالثة: مشكلة المبادرة في مقابل الشعور بالذنب

تبدأ هذه المرحلة عند الطفل في سن الروضة؛ أي في العمر الممتد بين الثلاث سنوات وحتى الخمس؛ إذ تظهر لدى الطفل الرغبة في المبادرة، وهنا يأتي دور الأهل في تشجيع الطفل على المبادرة؛ فإنَّه في حال لم تُشبَع هذه الرغبة لدى الطفل، فمن الوارد أن يصاب بعقدة الذنب، ويشعر بها لسنوات طويلة؛ وهذا يعرقل نموه وتطوره الطبيعي.

المرحلة الرابعة: مشكلة الكفاية مقابل الشعور بالنقص

تسمى هذه المرحلة أيضاً بمرحلة الطفولة المتوسطة والمتأخرة، وتبدأ هذه المرحلة غالباً في سن المدرسة؛ إذ تظهر عند الطفل رغبة في إثبات ذاته وإظهار قدراته، ويبدو واضحاً عليه حبه لإنجاز المهام والأعمال المختلفة، وسعيه وانتظاره لتقدير الآخرين ومديحهم، ويجب هنا إشباع حاجات الطفل في هذه المرحلة؛ وذلك من خلال تشجيع الأهل والمدرسة والأقارب للطفل، وإعطائه ما يريد من مديح وثناء وتقدير؛ وذلك لأنَّ أي تقصير في ذلك قد يؤدي إلى شعوره بالنقص فيما تبقَّى من حياته.

المرحلة الخامسة: مشكلة الهوية مقابل تشوش الدور

تبدأ هذه المرحلة مع بداية مرحلة المراهقة؛ إذ يبدأ الطفل هنا في رحلة البحث عن هويته وانتمائه، وتترأى إلى ذهنه عدة أسئلة وجودية تساهم في تكوين هويته؛ مثل: مَن أنا؟ وماذا أريد؟ وما هو هدفي في الحياة؟ وماذا أحب أن أصبح في المستقبل؟ وما إلى ذلك من الأسئلة التي يبحث لها عن أجوبة تُحدِّد فيما بعد إذا كان الطفل سينتقي لنفسه هوية جماعية وينسب كل ما لديه من طاقات وأفكار إلى جماعة معينة يَعُدُّ نفسه منتمياً إليها، أو قد يختار الهوية الفردية؛ بمعنى أن يفكر كما يريد ويفعل ما يريد وفق مبادئ وقيم وقوانين يوافق عليها من وجهة نظره.

المرحلة السادسة: مشكلة الألفة مقابل الوحدة

تبدأ هذه المرحلة مع بداية ما يسمى مرحلة الشباب المبكر، وفيها يكون الإنسان قد اختار لنفسه الهوية التي تناسبه، وانتقل بعدها إلى حاجة أخرى، وهي وجوده في علاقة تسودها الألفة والمودة والمحبة مع شريك حياة ينزوي إليه ويرتاح في أحضانه من أعباء الحياة ومآسيها، وفي حال لم تُشبَع هذه الحاجة ذات الأهمية البالغة، فمن الممكن أن يؤدي ذلك إلى وقوعه في شراك الوحدة والعزلة.

المرحلة السابعة: مشكلة الإنتاجية مقابل الركود (stagnation)

وتسمى هذه المرحلة باسم الرُّشد المبكر، وتبدأ من سن الخامسة والعشرين وحتى أواخر الخمسين، وفيها يشعر الفرد بحاجته إلى الإنتاجية، سواء في الحياة العملية أم في الحياة الشخصية على مستوى بناء أسرة وإنجاب أطفال والانخراط في عملية التربية، ويؤدي النجاح في تحقيق الإنتاجية إلى كسب الأنا والشعور بالاهتمام والإنجاز، فيما يؤدي فشل إشباع هذه الحاجة إلى الانصراف نحو الركود والإحباط.

إقرأ أيضاً: 6 نصائح للتعامل مع الإنتاجية السامة

المرحلة الثامنة: مشكلة الرضى مقابل اليأس

يُطلَق على هذه المرحلة أيضاً اسم الرُّشد المتأخر، وفيها تنتهي مغامرات الحياة بالنسبة إلى الإنسان، ويبدأ بمراجعة تاريخه وذكرياته، وما مر في حياته من فرص، ويسأل نفسه لو كان قد استغلها استغلالاً صحيحاً أو لا، وتنتهي هذه المراجعة بأحد أمرين؛ إما أن يشعر بالتكامل والرضى تجاه ما أنجزه في حياته وهنا يكسب الأنا إلى صفه ويدخل في إحساس جديد وهو إحساس الحكمة، أو أن يشعر بأنَّ ما حققه طيلة حياته كان دون المستوى الممكن، وهنا يصيبه اليأس، ويصبح رافضاً لواقعه ومشكلاته.

إقرأ أيضاً: كيف تتعامل مع عدم الرضى عن الذات؟ وكيف تجعل منه أمراً يحفزك؟

ما هي نقاط التشابه والاختلاف بين نظرية "إريكسون" ونظرية "فرويد"؟

لا شك بأنَّ "إريكسون" قد تبنَّى كثيراً من أفكار ومبادئ "سيغموند فرويد"؛ مثل الشعور واللاشعور واللاوعي وغيرها، ولكنَّه تميز عن "فرويد" بإعطاء الأنا الأهمية الأكبر في تطور شخصية الإنسان، على عكس "فرويد" الذي ركز على الهو وما يتعلق بها من شهوات وحاجات وغرائز.

ويؤكد "إريكسون" في نظريته هذه على أنَّ شخصية الإنسان تبقى في حالة تغير وتبدل وتطور من الولادة وحتى نهاية الحياة، مناقضاً بذلك ما جاء به "فرويد"، وهو أنَّ أغلب ركائز شخصية الإنسان تُبنى في السنوات الخمس الأولى من الحياة.

فمبادئ "فرويد" في توصيف شخصية الإنسان تعطي أهمية أكبر للعوامل البيولوجية والفطرية والغرائزية، بينما يطرح "إريكسون" عوامل أخرى هي الثقافة والمجتمع والبيئة التي ينشأ فيها الإنسان، وطبيعة الأجوبة التي يتلقاها من الأشخاص الموجودين في محيطه.

ما هو النقد الموجَّه لنظرية "إريك إريكسون" عن النمو النفسي الاجتماعي لشخصية الإنسان؟

ينتقد بعض الباحثين نظرية "إريك إريكسون" عن النمو النفسي الاجتماعي لشخصية الإنسان، بأنَّها لم تَطرح أو تُحدِّد ملامح الحلول؛ وإنَّما اكتفت بطرح المشكلة وتوصيف مراحل تطور الشخصية، وكذلك تباين هذه المراحل من ثقافة إلى أخرى ومن عصر إلى آخر.

في الختام:

في نهاية هذا المقال، نود أن نقول إنَّ هذه المراحل ما هي إلا رؤية شخصية لهذا العالِم، ولم ينتهِ عندها البحث في هذا المجال الممتع والعميق والمعقد، فكل يوم يحمل معه العديد من الأبحاث والدراسات الجديدة التي تُغيِّر نظرتنا إلى كل ما صاغه العلماء من قبل، لكن هذا لا يعني التقليل من قيمة ما قاموا به؛ بل على العكس من ذلك، لولا إسهاماتهم هذه لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم.

المصادر: 1،2،3،4،5




مقالات مرتبطة