النضج العقلي: علاماته، وطرق الوصول إليه

يُعدُّ النضج العقلي مرحلة جديدة في حياة الإنسان، مرحلة تتغير فيها كل آرائه ونظرته إلى الأمور، وتتغير فيها أولوياته، ويُصبح أقل انفعالاً وأكثر تأنٍّ وحكمة، ولكن كيف نَعرف أنَّنا وصلنا لمرحلة النضج العقلي؟



ما المقصود بالنضج العقلي؟

يؤمِن المختصون في علم النفس وخاصة في مجال علم النفس التربوي، أنَّ النضج بشكلٍ عام هو حالة من التوافق المُحكَم تُشير إلى اكتمال وتناغم العمل ما بين الوظائف العقلية، والجسدية، والفيزيولوجية، والروحية، والاجتماعية، بصورة تُمكِّن الإنسان من فهم الحياة بتناقضاتها المختلفة والمعقدة، وحددوا له أنواعاً، وهي:

1. النضج العقلي:

وله أكثر من تعريف، منها:

  • هو القدرة على الاستجابة للبيئة، وإدراك الوقت والمكان الصحيحَين للتصرف، والفهم الواضح للغرض من الحياة، والتحول من الاعتماد على الآخرين إلى الاستقلالية والاعتماد على النفس تماماً.
  • هو امتلاك الشخص درجة كافية من نمو الوظائف العقلية والقدرات المهاراتية، والتفكير المعرفي، بشكلٍ يُسهم ببروز شخصية مستقلة تتفاعل مع المجتمع دون السماح لأحد بالتأثير فيها أو التحكم بها؛ أي لا يكون صاحبها تابعاً لغيره.
  • وهو تراكم التجارب الفكرية والعاطفية والإنسانية التي مرَّ بها الإنسان، واختزَنها في عقله الباطن، والتي يقوم باستدعائها في مواقف لاحقة في حياته؛ فتساعده على القياس الصحيح والتصرف الصحيح بأخطاء أقل، وتنعكس في سلوكه، وتصرفاته، وطريقة تفكيره، واستيعاب المواقف، والتمييز بين الصحيح والخاطئ، والتعامل مع المشكلات.

2. النضج الانفعالي:

هو الوصول إلى مرحلة من الاستقرار النفسي، التي تتيح لصاحبها التحكم في انفعالاته وردود أفعاله.

3. النضج الاجتماعي:

يُعدُّ النضج الاجتماعي نتيجة للنضج العقلي والانفعالي، ومتى اكتملَ هذين النضجين؛ نتج النضج الاجتماعي الذي هو نجاح الفرد في التكيف والتواصل مع المجتمع من حوله بدون تعقيد، حيث يؤثِّر ويتأثر في الآخرين دون أن يتيح لهم الفرصة للسيطرة عليه.

إقرأ أيضاً: 7 صفات تدل على نضج الإنسان

ما هي علامات النضج العقلي؟

هناك مجموعة من العلامات والدلائل التي نستطيع من خلالها الحكم على شخص ما بأنَّه وصل إلى مرحلة النضج العقلي، وليس شرطاً أن تجتمع جميعها في الشخص؛ بل إنَّ وجود بعضها في حد ذاته أول دليل من دلائل النضوج وإنَّ الإنسان على الطريق السليم، وهذه العلامات هي كالآتي:

1. الاعتراف بالخطأ:

يُعدُّ الاعتراف بالخطأ من أول علامات النضج العقلي للإنسان؛ لأنَّ الإنسان الذي لا يَعترف بخطئه لن يَعرف سلبياته، وسيبقى أعمى عنها، ويستمر بارتكاب الأخطاء، أما عندما يبدأ الإنسان الاعتراف بالخطأ؛ فهو بدأ يَعرف سلبياته وبالتالي سيعمل على تلافيها، وهذه بداية الطريق نحو النضج العقلي.

2. التعلم من الأخطاء:

يُعدُّ التعلم من الأخطاء المرحلة الثانية من النضج العقلي بعد الاعتراف بالأخطاء؛ إذ لا يكفي أن تَعترف بالخطأ؛ بل النضج يكون بالتفكير في هذا الخطأ، وبأسبابه، وطرائق إصلاحه وتلافيه، والعمل على عدم تكراره أو الوقوع فيه مرة أخرى.

3. التطور:

يأتي التطور كخطوة تلي التعلم من الأخطاء، وتأكيداً على أنَّ الإنسان ناضج عقلياً؛ فيجب أن يُطوِّر الإنسان من نفسه ومهاراته بعد كل تجربة أو خطأ وقعَ فيه وتعلَّم منه.

4. البحث الدائم ومواصلة المعرفة:

دعونا نقول أنَّ لا نضج يأتي دون رغبة دائمة بالمعرفة والبحث والتعلم، فكلما زادت معارف الإنسان، زاد نضجاً وحكمةً؛ لذلك لكي نقول عن شخص أنَّه ناضج عقلياً، لا بُدَّ أن يكون من محبي البحث وحب المعرفة.

5. تحمُّل المسؤولية:

تُعدُّ صفة تحمُّل المسؤولية من أهم دلائل النضج العقلي، ولا يمكِن أن يصل الإنسان إلى النضج العقلي ما لم يبدأ بتحمُّل المسؤولية؛ فالإنسان الناضج يتحمل مسؤولية نفسه، وتصرفاته، وقراراته، وحتى مسؤولية أسرته، ويَشعر من يتعامل معه بالأمان والثقة.

6. النضج العاطفي:

النضج العاطفي هو حالة التوازن بين العاطفة والعقل، وهو مبني على النضج العقلي؛ فعندما يصل الإنسان للنضج العقلي والتحكم بأفكاره، حينها سيعرف كيف يتحكم بمشاعره بسهولة.

7. التعامل مع الآخرين:

يُعرف الإنسان أنَّه وصل إلى مرحلة النضج العقلي من خلال تعامله مع الآخرين، وعندما يُصبح أكثر استيعاباً لهم، ويحاول إيجاد الأعذار والتبريرات لهم دائماً، ولا يقف عند زلاتهم أو هفواتهم، يُصبح أكثر مرونة في تقبُّل اختلافهم، وإعطائهم الفرصة للتعبير عن رأيهم واحترامه حتى لو كان مغايراً، وعندما يتكلم بصوت هادئ أغلب الوقت، فإنَّه يَكسب محبة الجميع واحترامهم، ونادراً ما نجد له من يبغضه.

8. التواضع:

يُعدُّ التواضع وعدم التكبر من أهم علامات النضج العقلي؛ فالشخص المتكبر هو شخص غير ناضج حُكماً، وما زال يُعاني نقصاً في مكان ما، أما الإنسان الناضج يبقى متواضعاً ولا يتفاخر بأمجاده وأنَّه وصل إلى القمة، ولا يتكبر على الناس مِن حوله؛ بل إنَّه يساعدهم لكي يصلوا لِما وصل إليه.

9. محبة الجميع:

يتميز الإنسان الناضج بمحبته للجميع، وقدرته على استيعابهم، والتماس الأعذار لهم حتى لو أخطؤوا في حقه، فمثلاً سنجده يرد على شخص غاضب: "أنا أقدِّر أنَّك متوتر، وأفهم أنَّ هذه ليست طبيعتك".

10. عدم الغيرة:

يُعاني أغلب الناس من شعور الغيرة خاصة في مكان العمل، ووضع أنفسهم في مقارنات مع غيرهم، ومن ثمَّ الشعور بالفشل والإحباط، ولكنَّ وصول الإنسان إلى النضج العقلي يُخلصه من هذه السلبية، حيث نجد الإنسان الناضج واثقاً من نفسه، ويركِّز على عمله ونفسه؛ لا على الآخرين، وحتى إن وَجد في أحدهم شيء جيد، يمدحه عليه ويحاول أن يتعلم منه هذا الشيء، لكن دون أن يضع نفسه في مقارنة معه.

11. الهدوء والكلام القليل:

الهدوء هو أحد دلائل النضج العقلي لأي شخص، فالشخص الناضج نجده غالباً شخصاً هادئاً لا يتكلم كثيراً، ويصمت في أثناء الحديث؛ لأنَّه يحب أن يستمع إلى محدِّثه جيداً، فهو دائماً في حالة تعلُّم، وهو يحاول قراءة أفكار الآخرين ويستشفُّ الطريقة التي يجب أن يتعامل معهم بها، وهو يفعل ذلك من قبيل المحبة حتى يصل لكل شخص بطريقته هو.

12. اتخاذ القرار:

تُعدُّ عملية اتخاذ القرارات الصائبة أحد علامات النضج العقلي، حيث إنَّنا نقول عن شخص أنَّه ناضج عندما نجده قادراً على اتخاذ قرارات سليمة وصائبة، بدون أي تردُّد، لأنَّه قادر على أن يُحيط بكل جوانب الموضوع الذي يدرسه، ويَعرف تماماً ماذا يريد وما الذي يناسبه، فيتخذ القرار الأنسب له.

هناك علامات أخرى للإنسان الناضج عقلياً، مثل:

  • حب الذات، والرضا عن النفس، والتصالح مع العيوب.
  • التفكير قبل التصرف أو التكلم.
  • المرونة في النقاش، وتقبُّل وجهات النظر المختلفة.
  • لا تعنيه آراء الآخرين وكلامهم السلبي عنه، طالما هو راضٍ عن نفسه.
  • قادرٌ على الاعتراف بالخطأ والاعتذار، وتفادي تكراره.
  • تقبُّل الفشل والنظر إليه على أنَّه فرصة للتعلم، ومعاودة المحاولة.
  • التحرر من فكرة الهوس بتكوين عدد هائل من الصداقات، والاكتفاء بعدد محدود من الأصدقاء ممَّن يتوافقون معه في التفكير والمبادئ.
  • يُصبح الوقت أكثر أهمية وتقديرٍ، ولا يَقبل هدره فيما لا يفيده.
  • احترام البشر مهما كان لونهم، أو دينهم، أو جنسهم، أو حتى مبادئهم، فيرى مثلاً التدخين حرية، والحجاب حرية، وقراراً شخصياً.
  • القدرة على التعبير عن المشاعر بسهولة أكثر من السابق.
  • من علامات النضج أن يبدأ الإنسان بمواجهة خوفه.
  • قلة الشكوى والتذمر من أشياء كانت تزعجه سابقاً.
  • امتلاك روح المبادرة.
  • تقبُّل كل ما لا يمكِن تغييره.
  • تفضيل العمل والإنجاز، وتأخير متع وملذات الحياة.
  • مواجهة الآخرين بما تَسبَّب بإزعاجه، وإخبارهم باتخاذ قرار إنهاء العلاقة معهم بكل وضوح، وليس الاختفاء والهروب من الشخص.
  • الهدوء والتأنِّي في مواقف كانت تستشيره غضباً سابقاً.
  • من علامات النضج عدم الانبهار بالكلام المعسول كما يَحصل في سن المراهقة؛ بل التقييم على أساس الأفعال والمواقف.
  • الصبر والتأنِّي والابتعاد عن الاندفاع والتهور في أي أمر.
  • إدراك أنَّ فكرة السعادة قرار، وأنَّ صحتنا النفسية والجسدية مسؤوليتنا.
إقرأ أيضاً: أهم الصفات التي يتميّز بها الرجل الناضج عن غيره

كيف أصل إلى النضج العقلي؟

1. تنمية المهارات:

أن يعمل الإنسان على تنمية مهاراته وزيادة خبراته من خلال ممارسة أي نشاط أو هواية مهما كانت بسيطة، كشراء كاميرا وتعلُّم التصوير الفوتوغرافي، أو تعلُّم العزف على آلة موسيقية، أو أي شيء يمكِن أن يُحفز العقل، ويزيد الثقة بالنفس، والشعور بالتطور.

2. وضع الأهداف:

من أهم الخطوات باتجاه النضج العقلي، أن يضع الإنسان قائمة لأهدافه؛ لأنَّ تحديد الأهداف يجعل الإنسان أكثر نضجاً، وتنظيماً لمسار حياته، ويبدأ يخطِّط ويعمل لتحقيق هذه الأهداف.

3. مصاحبة الناضجين:

يؤثِّر أصدقاؤنا في سلوكنا تأثيراً كبيراً؛ لذا إذا أردتَ الوصول إلى النضج، فمن المهم مصاحبة الأشخاص الناضجين الذين نرتقي بصحبتهم ونترفع عن صغائر الأمور، ونبتعد عن غير الناضجين الذين يسحبوننا إلى الأسفل.

هناك عوامل أخرى تؤثِّر في وصولنا إلى النضج العقلي، مثل:

  • التحصيل العلمي.
  • طريقة التربية التي تلقَّاها في الأسرة.
  • البيئة التي نشأ فيها (متحررة أو منغلقة).
  • الاختلاط بالناس وخوض التجارب في الحياة.
  • القراءة والمطالعة.
  • الاستعداد الفطري للتعمق في كل ما يَمرُّ على الإنسان.
إقرأ أيضاً: الفرق بين الذكاء العاطفي والذكاء العقلي

هل للنضج العقلي سن محددة؟

يرى فريق من العلماء أنَّ سن النضج العقلي يمكِن تحديده مِن فوق سن الثلاثين؛ فحسب تقرير نُشر في صحيفة "ديلي ميل"، أكَّد تقرير صادر عن القضاء الجنائي ولجنة العموم البريطانية، على ضرورة التعامل مع المجرمين الذين تَقلُّ أعمارهم عن الثلاثين عاماً على أساس أنَّ أدمغتهم لا تزال غير ناضجة تماماً.

وتقول الدكتورة "سومرفيل" التي شاركَت في كتابة التقرير: "لا يوجد سن محددة تُشير إلى دخول الدماغ في مرحلة النضوج التام، ويحتوي الدماغ على نوعين من الأنسجة، وهما المادة الرمادية والمادة البيضاء؛ ففي العقد الأول من الحياة تتمدد المادة الرمادية بسرعة مع تَشكُّل تشابكات عصبية في الدماغ خلال تعلُّم مهارات جديدة في أثناء الطفولة، ومع استعداد الجسم للبلوغ، يبدأ الدماغ بالتخفيف من المادة الرمادية فيما يُسمى ب: "تشذيب المادة الرمادية" في بعض المواقع، واستبدالها بالمادة البيضاء، مما يجعل العقل أكثر كفاءة بنقل المعلومات بشكلٍ أفضل وأسرع، ويستمر تقلص المادة الرمادية واستبدالها بالمادة البيضاء، ولأنَّ الدماغ لا يتوقف عن التغير؛ فإنَّ عَدَّه ناضجاً بشكلٍ تام قبل سن ال 30 أمرٌ غير دقيق؛ وذلك لأنَّ العقل ما يزال في مرحلة النضج للعمليات الأكثر تطوراً، مثل: اتخاذ القرارات، والسيطرة على الانفعالات، والتفكير المنطقي والمنظَّم، وبذلك لا يُمكِن عَدُّ مَن تتراوح أعمارهم بين سن ال18 وسن ال25 أنَّهم أشخاصٌ ناضجون بما فيه الكفاية".

لكن إلى اليوم لم يتم التوصل إلى تحديد سن محددة للنضج العقلي؛ إذ يَعتقد فريق آخر من العلماء أنَّه لا علاقة للنضج العقلي والعمر؛ فهناك من يتميز بالنضج العقلي رغم صغر سنه، وهناك متقدمين في السن ولكن يتصرفون كالمراهقين ودائمي الوقوع في الأخطاء؛ لذلك يَصعُب تحديد توقيت بلوغ مرحلة النضج العقلي بحسب رأيهم؛ إذ إنَّها تختلف من شخصٍ لآخر!

إقرأ أيضاً: مفهوم النُّضج وعلاماته

في الختام، اسعَ لتصل إلى النضج العقلي:

يقول فرويد: "إنَّنا نتحول إلى ناضجين حين نتعلم كيف نحب ونعمل"، ويقول عباس محمود العقاد: "لستُ أهوى القراءة لأكتب، ولا أهوى القراءة لأزداد عمراً في تقدير الحساب؛ وإنَّما أهوى القراءة لأنَّ عندي حياة واحدة، وحياة واحدة لا تكفيني، والقراءة -دون غيرها- هي التي تُعطيني أكثر من حياة؛ لأنَّها تزيد هذه الحياة من ناحية العمق".

فالوصول إلى النضج العقلي ليس أمراً صعباً أو شاقاً؛ بل هو مجرد رغبة داخلية نحو أنَّك تريد أن تصبح شخصاً أفضل وناضجاً بصورة أكبر.

 

المصادر: 1، 2، 3، 4




مقالات مرتبطة