تتغير الأمور مع مرور العام، ويتأخر سالم في تجهيز الدروس، يرى أنَّه لا يُقدِّم الدعم الكافي، وتدريجياً تظهر عليه علامات الإرهاق: التذمر الصامت، وقلة الحماسة، وأوقات راحة أقل، وأوقات نوم أقل، ثم يصدم الجميع عندما يقدِّم استقالته فجأة.
السؤال هنا، هل أخطأنا حين تركنا "النجم" يضيء وحده حتى احترق؟
مغالطة التميز الفردي: "سيدبِّر المعلم المتميز نفسه، لا يحتاج منَّا شيئاً"
ينطلق هذا المعتقد الإداري الشائع من فرضية أنَّ الكفاءة والابتكار لدى المعلم المتميز، تجعله مستقلاً وقادراً على تحمُّل الأعباء الإضافية دون الحاجة إلى مساندة. وهذه النظرة، التي ترى في التميز خدمة ذاتية، تتجاهل التكاليف الخفية والباهظة التي تترتب على إهمال هذه الكفاءات.
التداعيات السلبية على المنظومة التعليمية
يخلق غياب الدعم والتقدير للمعلمين الأكفاء سلسلة من الآثار السلبية التي لا تقتصر على المعلم فحسب؛ بل تمتد لتشمل الإدارة والزملاء والعملية التعليمية برمتها.
1. على مستوى الإدارة
- خسارة مفاجئة للكفاءات: تتفاجأ الإدارة باستقالة المعلم المتميز بصورة غير متوقعة، مما يخلق فراغاً يصعب ملؤه على الأمد القصير.
- تكاليف بشرية ومادية مرتفعة: يترتب على رحيل معلم خبير تكاليف مادية مباشرة وغير مباشرة، تشمل البحث عن بديل وتدريبه، بالإضافة إلى فقدان الخبرة المتراكمة.
2. على مستوى المعلم المتميز
- الاستنزاف والاحتراق الوظيفي: يستنزف تراكم الأعباء مع غياب التقدير طاقة المعلم الجسدية والذهنية، ويدفعه للاحتراق الوظيفي (Burnout).
- تراجع الروح المعنوية: يشعر المعلم بأن تميِّزه أصبح عبئاً إضافياً لا ميزة تنافسية، فيقابَل جهده بزيادة في المهام دون أي دعم أو تحفيز، مما يقتل دافعيته.
3. على مستوى فريق العمل
- تثبيط الحماس الجماعي: عندما يلاحظ الزملاء أنَّ التميز لا يُقابل بالتقدير والمكافأة، ينخفض الحماس العام، ويسود انطباع بأنَّ الاجتهاد لا طائل منه.
- ترسيخ ثقافة سلبية: تتشكل رسالة ضمنية مفادها أنَّ التفوق مغامرة محفوفة بالمخاطر وليست فرصة للنمو، مما يثني بقية المعلمين عن المبادرة والسعي للتميز.
4. على مستوى العملية التعليمية
- تدهور جودة التدريس: تفقد المدرسة بفقدان المعلم المتميز خبرته الميدانية وأساليبه المبتكرة، مما يؤثر سلباً في جودة المخرجات التعليمية.
- خسارة القدوة الملهمة للطلاب: يخسر الطلاب معلماً كان بمنزلة قدوة لهم، الأمر الذي قد يعكس تراجعاً في الأداء الأكاديمي العام؛ لأنَّ هذا المعلم كان يشكل مصدر إلهام لطلابه ويرفع من السوية العامة للمدرسة.
شاهد بالفيديو: صفات معلم المستقبل وكيف يمكن صقلها
المنظور الإيجابي: "يستحق المعلم المتميز دعماً مضاعفاً ليستمر تميُّزه ويُلهم الآخرين"
"التكنولوجيا مجرد أداة، أمَّا من حيث تحفيز الأطفال وجعلهم يعملون معاً، فإنَّ المعلم هو المورد الأهم." بيل غيتس.
بدل أن نُعِد المتميز "مكتفياً بنفسه"، يجب أن نراه شريكاً تحتاجه المؤسسة، ومصدراً للإلهام، وبوصفه حامل شعلة ينبغي حماية قدرته واستدامتها، وهذا التفكير هام لأنَّه:
1. يحوِّل التميز من عبء إضافي إلى قيمة مضافة مستدامة
عندما يتلقى المعلم المتميز الدعم، فإنه لا يكتفي بالإبداع الفردي؛ بل يصبح قائداً لزملائه ومصدراً لتطوير بيئة العمل. تؤكد أبحاث مؤسسة راند (RAND Corporation) أنَّ الدعم الإداري، هو العامل الأهم للاحتفاظ بالكفاءات، مما يحوِّل تميزهم إلى أصل مستدام للمدرسة بدلاً من عبء يؤدي لرحيلهم.
2. يُصبح المتميز قدوة حقيقية
يُرسِل دعم المعلم المتفوق رسالة واضحة للجميع بأنَّ التميز يُقدَّر، مما يشجع على التنافس الإيجابي، فهذا يعزز ما يسميه الباحث جون هاتي (John Hattie) بـ "الفعالية الجماعية للمعلمين"، وهو إيمان الفريق بقدرته على النجاح، والذي يُعِده العامل المؤثر بقوة في تحصيل الطلاب.
3. يوازن بين الطموح والرفق
يترافق تحقيق الإنجازات العالية مع الحفاظ على الرفاهية المهنية؛ إذ إنَّ الأبحاث حول الاحتراق الوظيفي للمعلمين (Teacher Burnout)، تثبت أنَّ الدعم الإداري والنفسي، هو خط الدفاع الأول ضد الاستنزاف. يوازن توفير هذا الدعم بين طموح المعلم وقدرته على الاستمرار بكفاءة وصحة نفسية.
أدلة من أرض الواقع
تؤكد الأدلة البحثية والمبادرات الرائدة حول العالم أنَّ إهمال المعلمين المتميزين، له تكلفة باهظة، وفي المقابل، الاستثمار فيهم هو استراتيجية فعالة لرفع جودة التعليم بأكمله.
1. غياب الدعم الإداري بوصفه سبباً رئيساً لتسرب الكفاءات
"عامِل موظفيك كما لو أنَّهم يحدثون الفارق، وسوف يفعلون." جيم غودنايت.
تشير أبحاث من جامعة هارفارد إلى أنَّ بيئة العمل الداعمة، تمثل عاملاً أساسياً في استمرارية المعلمين داخل مهنتهم، فالمعلمون الذين يشعرون بأنَّ خبراتهم مقدَّرة، وأنَّ رأيهم مسموع في القرارات المدرسية، يكونون أكثر التزاماً واستقراراً في عملهم. كما تؤكد الدراسات أنَّ منح المعلمين قدراً من الاستقلالية، وقيادة مدرسية تحترمهم، وعلاقات تعاونية إيجابية مع الزملاء، كلها عناصر تزيد احتمالية بقائهم في الميدان.
يظهر من جانب آخر أنَّ الاستثمار في برامج التطوير المهني عالية الجودة، لا يحسن فقط أداء المعلمين، وإنما يرفع أيضاً فرص استمرارهم في العمل مقارنة بمن لا يحظون بهذا النوع من الدعم.
2. الاستثمار في المتميزين بوصفه استراتيجية للاحتفاظ بهم
تولي دائرة التعليم والمعرفة في أبوظبي (ADEK) اهتماماً كبيراً ببرامج التميز التربوي؛ إذ تمكِّن من خلالها الكوادر التعليمية المتميزة من خلال توفير مسارات تدريبية متقدمة تواكب أفضل الممارسات العالمية، إضافة إلى تقديم حوافز مهنية ومعنوية تعكس قيمة إسهاماتهم في تطوير العملية التعليمية.
تصقل هذه المبادرات مهارات المعلمين، لتفتح أمامهم آفاقاً أوسع للنمو الوظيفي والاستقرار المهني، ومن خلال هذا الاستثمار في الكفاءات، تبني (ADEK) بيئة تعليمية جاذبة تحفظ استمرارية المعلمين الموهوبين، وتدعم جودة التعليم في الإمارة على الأمد الطويل.
3. الأثر السلبي المباشر لرحيل المعلم النجم
كشفَت دراسات، منها دراسة "راج شيتي وزملائه" من جامعة هارفارد، أنَّ المعلمين ذوي الأداء المتميز، يؤثرون كثيراً في نتائج الطلاب على الأمد الطويل، بما في ذلك زيادة احتمال التحاقهم بالجامعة، وتحسُّن مستوى دخلهم، وتقليل حدوث حالات إنجاب في سن المراهقة، كما أنَّ المعلمين الذين يُمنحون استقلالية في تحديد أهدافهم المهنية، يُعربون عن رضا وظيفي أعلى ويكونون أكثر استعداداً للبقاء في مهنة التدريس.
ترتبط معدلات دوران المعلمين المرتفعة بانخفاض واضح في تحصيل الطلاب، خصيصاً في المدارس التي يتغير طاقمها التدريسي تغييراً شبه كامل، فقد ينخفض الأداء الأكاديمي بمقاييس تتراوح بين 6-10% من الانحراف المعياري.
قائمة التحقق للتشخيص
استخدِم هذا القائمة التشخيصية لتقدير موقف مدرستك فيما يتعلق بحماية المعلم المتميز:
السؤال |
نعم / لا |
هل يعتمد الفريق على المعلم نفسه دائماً لإنجاز المهام الصعبة؟ |
|
هل يتذمر المعلم المتميز من كثرة التكليفات؟ |
|
هل يشعر أنَّه لا يتلقى تقديراً كافياً مقابل جهوده؟ |
|
هل يرفض المشاركة في نشاطات إضافية بعدما كان متحمساً لها؟ |
|
إذا كانت الإجابات عن هذه الأسئلة "نعم" أكثر أو تعادل 2 ، هذا يعني أنت في دائرة الخطر.
خطة العمل مع بُعد الذكاء العاطفي
فيما يأتي خطوات عملية قابلة للتطبيق، تربط بين القيادة التربوية والعاطفة الإنسانية، لحماية فئة المعلمين المتميزين، واستبقائهم:
الخطوة |
الوصف |
البُعد العاطفي |
القياس |
الخطوة 1: جلسة تقدير شخصية فصلية |
لقاء فردي بين المدير والمعلم المتميز كل فصل دراسي، فيُشكره ويُقرُّ بإنجازاته، ويستمع إلى رؤيته واحتياجاته. |
يعزز الانتماء، ويشعر المعلم أنَّه يُرى، ويُسمع، وليس مجرد مُنفِّذ مهام. |
يشعر أكثر من 80% من المعلمين بالتقدير وفق استبيان داخلي بعد الجلسات. |
الخطوة 2: توزيع عادل للأعباء |
مراجعة الجدول الدراسي، والوظائف الإضافية، والنشاطات اللاصفية، والتأكد من أنَّ المتميز لا يُحمَّل فوق طاقته، وربما تحديد سقف للواجبات الإضافية. |
إشراك المعلم في النقاش يُشعره بالعدالة، والتمكين. |
انخفاض في معدَّل الغياب أو الإجازات المرضية بنسبة 20% أو أكثر. |
الخطوة 3: برنامج "المعلم المرشد" (Mentorship) |
ربط المعلم المتميز بمعلمين جدد أو متوسطي الخبرة، ليكون مرشداً لهم في الجوانب المهنية والتربوية. |
يمنحه دوراً قيادياً، ومعنى إضافياً، ويُخفف الشعور بالعزلة. |
تحسُّن محسوس في أداء المتدربين، مثلاً تحسُّن بنسبة أكثر من 25% تحسُّناً وفق تقييم الأداء بعد فترة من الإشراف. |
الخطوة 4: مسار تطوير شخصي |
توفير فرص تدريب منتظمة، ومؤتمرات متخصصة، وورشات عمل متقدمة محلية أو دولية، أو ربما زمالات، ومشاركات بحثية إذا أمكن. |
يشعر المعلم أنَّ المدرسة، تستثمر في مستقبله، ليس فقط في الحاضر، مما يُشجِّعه على النمو المهني. |
ملاحظة تغيُّر في ممارساته الصفية (طريقة التدريس، واستخدام التقنيات، والابتكار)، مثلاً بعد التدريب مباشرة أو التقييم الفصلي. |
الخطوة 5: مراجعة نصف سنوية للتوازن بين العمل والحياة |
حوار مفتوح مع المعلم في منتصف العام الدراسي، ويناقش عبء العمل، والضغوطات الشخصية، كيف يمكن دعم التوازن. |
يُظهر اهتماماً شخصياً واعتباراً بأنَّ المعلم بوصفه إنساناً لهُ حياة خارج المدرسة، ويحد من الاحتراق الوظيفي. |
استمرارية المعلم في المدرسة بنسبة 90%، وانخفاض في الشكاوى المتعلقة بالضغط أو الرغبة بالمغادرة. |
إقرأ أيضاً: 3 دوافع تؤدي إلى استنزاف الكفاءات
في الختام
لا يعد المعلم المتميز مجرد "موارد بشرية" لأداء اللحظة؛ بل هو شمعة تُنير، وعين تُبصر، وقلب يُلهِم. فإذا تركناه وحده، بلا دعم، وبلا تقدير، وكل الأعباء تُلقى عليه، سنجد أنَّ الشمعة تخبو، والنور ينطفئ؛ لذا على قادة ومديري المدارس في الخليج أن يبنوا سماء حامية ونظاماً إدارياً يقدِّر، ويدعم، ويُوازن، ويحفِّز الاستمرار. لا باسم الواجب فقط؛ بل باسم الإنسان خلف الإنجاز.
أضف تعليقاً