المعتقدات والاتجاهات وسبل تكوينها

يوجد عنصران أساسيان يشغلان مكان الصدارة في القدرة على تحقيق الأهداف الاجتماعية، وهما اكتساب الأفراد للمعتقدات والاتجاهات الملائمة، وأهمية هذين العنصرين ترجع إلى تأثيرهما الكبير في سلوك الفرد وتكيُّفه الاجتماعي، وفي مقالنا هذا سنتعرَّف إلى المعتقدات والاتجاهات وسبل تكوينها؛ لذا تابعو معنا.



الاعتقاد والمعتقدات:

الاعتقاد هو الموافقة على صحة فكرة أو عدم صحتها كالاعتقاد بصحة نظرية التطور لدارون أو بخطئها، وفكرة موضوع الاعتقاد تُسمَّى معتقداً ومثالها هنا نظرية دارون في النشوء والارتقاء، ويمكن تصنيف الاعتقاد بحسب درجة القبول والتصديق إلى ثلاثة مستويات:

1. اليقين:

وهو الاعتقاد التام والقبول المُطلق بالحقيقة المدركة،

2. الرأي:

وهو اعتقادٌ من درجة أقل من اليقين، فالمرء أمام قضية ما قد يجد دواعيَ الصحة فيها أكثر من دواعيَ الخطأ فيحكم أنَّها صحيحة ولكنَّه يشعر بأنَّ حكمه يحتاج إلى دلائل أخرى.

3. الشك:

وهو حالة الحيرة والتردد إزاء موضوع معيَّن؛ إذ لا يستطيع الفرد الحكم القاطع بشأنه. 

في البحث في الاعتقاد، يتَّجه الفكر إلى المستوى الأول منه "مستوى اليقين"، وينظر إلى المعتقدات على أنَّها المبادئ التي يؤمن الفرد بصحتها والقيم التي يقدِّرها ويراها سليمة، ونحو ذلك من عناصر ثقافته العقائدية، كما ينظر إلى تأثير المعتقدات في السلوك الاجتماعي لصاحبها؛ إذ توجه تصرفاته في علاقاته مع الآخرين جماعات وأفراد. 

عوامل الاعتقاد:

يتأثر الاعتقاد في دوافع الفرد واتجاهاته الانفعالية وتفكيره وغير ذلك من العوامل النفسية، كما يتأثر في العوامل الاجتماعية. 

1. عوامل الاعتقاد النفسية:

العوامل الدفعية الانفعالية:

وتتمثل بالدوافع والعواطف والاتجاهات والميول وما يرافقها من حالات انفعالية، ولكل عاملٍ منها أثر كبير في معتقداتنا، فنحن نميل إلى التسليم بصحة الآراء التي تُرضي دوافعنا أو تتَّفق مع اتجاهاتنا دون أن نشك في صدق رغبتنا في البحث عن الحقيقة، بعيداً عن الأغراض الشخصية.

لعواطفنا تأثيرها أيضاً؛ فنحن نقبل بسرعة ما ينسجم مع هذه العواطف، فنرى الشر في أعدائنا لأنَّنا نبغضهم ونرى الخير في أصدقائنا لأنَّنا نحبهم، وكذلك يرتبط الاعتقاد بالميول فغالباً ما يعتقد المرء بصحَّة ما يُقال له أو ما يفعله إذا كان يتفق مع ميوله، فالبخيل يعتقد بضرورة التقتير والاقتصاد في الإنفاق بدافع من ميله إلى جمع المال، والمدمن يرى في الخمرة دواءً شافياً لبعض الحالات المَرَضيَّة بتأثير حبه للشراب.

هذه العوامل الانفعالية قد تجعل الاعتقاد متموجاً قلَّما يستقر على حال، فنرى بعض الناس يغيرون من اعتقاداتهم بين وقت وآخر بحسب دوافعهم وأهوائهم وعواطفهم. 

العوامل الفكرية:

يتدخَّل التفكير في تكوين المعتقدات فينقدها ويُمكِّننا من التمييز بين الصح والخطأ من المعلومات والأفكار الشائعة، كذلك يكون التفكير عامل بحث في المعتقدات للتأكُّد من صحتها وتنقيتها من الخرافات والأخطاء واكتشاف أفكار جديدة قابلة للتصديق. 

يظهر دور التفكير واضحاً في تكوين المعتقدات العلمية؛ إذ يتخلَّص العالم من العوامل الذاتية والانفعالية ليبني اعتقاده على أساس عقلي موضوعي، متَّبِعاً في ذلك خطوات فكرية معيَّنة، وهذه الخطوات تقوده إلى أحكام صحيحة يقبلها كحقائق قامت على البرهان العقلي.

الممارسة:

عندما يمارس الفرد سلوكاً يرتبط بمعتقدات معيَّنة فإنَّه يميل إلى تقبُّل تلك المعتقدات وتصديقها، ويُضاف إلى الممارسة أثر التقليد والتكرار كعاملين أساسيين في التطبُّع بنظم المجتمع واعتناق معتقداته.

العادة:

فما نعتاد عليه نميل إلى تقبُّله والاعتقاد بسلامته سواء كان ذلك عادة شخصية خاصة بنا أم عادة اجتماعية نمارسها كغيرنا من أعضاء المجتمع الآخرين؛ إذ إنَّ للعادة قوة تأثير عفوية في أحكامنا، تحول في كثير من الأحيان دون تدخُّل الفكر النقدي لتقويم العادات والتمييز بينها. 

2. عوامل الاعتقاد الاجتماعية:

يكتسب المرء معتقداته من مجتمعه، فيتقبَّل نظمه وأفكاره الدينية والأخلاقية والأسرية ويتطبَّع بأعرافه وتقاليده، وغالباً ما يتكوَّن هذا الاعتقاد بصورة عفوية عن طريق تربية الأسرة دون تدخُّل التفكير النقدي، وهذا ما يفسر اعتقاد عدد كبير من الناس بالخرافات السائدة في مجتمعهم، أو بالعادات والتقاليد والنظم التي ليست في مستوى التقدُّم المعاصر.

لا يقتصر تأثير المجتمع على مادة الاعتقاد؛ بل يمتد إلى درجة الوثوق بالمعتقد؛ إذ إنَّ درجة الاعتقاد أو نوعه يتبع إلى حد بعيد قدرة المجتمع على غرس معتقداته في نفوس أفراده ومستوى مهارته في ذلك، فكلَّما ازداد الصدى الاجتماعي للمعتقد وزاد انتشاره وتضخَّم، فإنَّ تأثيره في الأفراد يزداد حتى يتقبله معظمهم، وكلَّما كانت أساليب الدعاية والإعلام واعية ومبنية على أسس نفسية علمية، فإنَّها تبث المعتقدات في المواطنين أو تساهم في تعديل معتقداتهم. 

شاهد بالفديو: 10 معتقدات إيجابية يجب أن تتبناها

نمو الاعتقاد:

الاعتقاد ليس حالة فطرية في النفس؛ وإنَّما ينمو ويتكامل ويتميَّز كلما نما الطفل وتوسعت ثقافاته ومحاكماته. 

يكون الطفل في مراحل حياته الأولى سريع التصديق، ويستطيع أن يراقب أحكامه ويجردها من طابع المنفعة المباشرة، فالحقيقة بالنسبة إلى الطفل هي كل ما يقع تحت حواسه وكل ما يُقال له، فإذا سألَ عن شيء يجهله وأجابته أمه بكلمة مبهمة مثلاً "هذه آلة"، حصلت عنده قناعة بصحة الجواب، وهو لا يميز بين الحقيقة والخيال، فالصورة التي تتراءى له يعتقد أنَّها موجودة فعلاً. 

لكن عندما يكبر الطفل وتنمو مداركه وقواه العقلية وتتسع ثقافته، يظهر عنده الاعتقاد التأمُّلي الواضح الذي يُبنى على الشك والموازنة والجهد في البحث المستمر، وهذا الاعتقاد يختلف عن الاعتقاد السابق في أنَّه مصحوب بشعور ومعرفة بالحقائق على حين كان الأول ضمنياً وعفوياً يخلو من الفكر النقدي.

إقرأ أيضاً: 6 طرق لاستبدال الاعتقادات السلبية باعتقادات إيجابية

الاتجاهات:

تواجه الفرد في الحياة الاجتماعية مشكلات متعددة وقضايا متنوعة أسرية وسياسية واقتصادية وخلقية، وهو يقف من هذه المشكلات موقفاً معيناً يتجلى في آرائه وسلوكه العملي واندفاعه الانفعالي، نقول إنَّ هذا الفرد يملك اتجاهاً نحو المشكلات والقضايا، كاتجاهه إلى المحافظة على المواعيد، أو الخرافات، أو الحرب، أو نزع التسلح أو الصهيونية أو الاقتصاد الموجه وما إلى ذلك.

يُعرِّف توماس الاتجاه بأنَّه "الموقف النفسي حيال إحدى القيم أو المعايير"، ويُعرِّفه ألبورت بأنَّه "حالة استعداد عقلي عصبي نُظِّمت عن طريق الخبرات الشخصية، وتعمل على توجيه استجابات الفرد نحو الموضوعات أو المواقف التي تتعلَّق بهذا الاستعداد". 

أشكال الاتجاه:

للاتجاه عدَّة أشكال، كما يأتي:

  1. إذا اشترك في الاتجاه عدد من الأفراد سُمِّي اتجاهاً جماعياً، كاتجاه هواة الرياضة نحو الألعاب الرياضية. 
  2. إذا كان خاصاً بفرد معيَّن سُمِّي فردياً، كاتجاه أحدنا نحو صديق له وإعجابه وقبوله له. 
  3. إذا كان الاتجاه قبولاً للموضوع سُمِّي اتجاهاً إيجابياً. 
  4. إذا كان الاتجاه رفضاً للموضوع سُمِّي اتجاهاً سلبياً. 
  5. إذا عبَّر عن الاتجاه بشكل لفظي في الحديث سُمِّي اتجاهاً لفظياً. 
  6. إذا عبَّر عن الاتجاه باستجابة عملية في السلوك سمي عندئذ اتجاهاً عملياً.

وغيرها من الأشكال الأخرى للاتجاهات التي تختلف أيضاً من شخص إلى آخر. 

تكون الاتجاهات:

تُعَدُّ الاتجاهات استجابة مُكتسبة تساهم في تكوينها مجموعة من العوامل أهمها:

1. الإطار الثقافي والاجتماعي:

يعيش الفرد في إطار ثقافي يتألَّف من العادات والتقاليد والاتجاهات والمعتقدات السائدة في المجتمع، وهذه جميعها تتفاعل تفاعلاً ديناميكياً يؤثر في الفرد من خلال علاقاته الاجتماعية في الجماعات التي ينتمي إليها، كالأسرة التي تُعَدُّ أول جماعة فهي تؤثر في الفرد في تكوين اتجاهاته، وتُعَدُّ هذه الجماعات من أهم العوامل التي تحدد اتجاهات الفرد وتختلف هذه الاتجاهات بين جماعة وأخرى. 

2. التكوين النفسي للفرد:

إذا كان الإطار الثقافي للمجتمع يحدد اتجاهات أفراده فإنَّ هذا لا يعني أنَّ موقف الفرد سلبي من العوامل الثقافية، فتكوينه النفسي يحدد مدى تأثره في المكونات الثقافية والاجتماعية، فبعض الأفراد لا يتأثرون في بعض الاتجاهات السائدة في المجتمع، في حين يكونون معرَّضين إلى التأثُّر الشديد في اتجاهات أخرى، ويعود هذا إلى قدرته العقلية النقدية وإلى خبراته الانفعالية، وهذا ما يفسر الاختلاف في الاتجاهات بين أفراد الثقافة الواحدة أو الجماعة المعيَّنة. 

3. ثقافة الفرد ومعلوماته:

تؤثر ثقافة الفرد وما يَعرِف من معلومات أو حقائق في اتجاهاته، وقد تؤدي المعلومات غير الكافية أو المغرضة إلى تكوين اتجاهات سلبية لدى الفرد، مثلاً إنَّ الاتجاه السلبي لدى بعض الأوروبيين من القضية الفلسطينية يعود إلى قلة المعلومات لديهم عن الحق العربي وإلى كثرة المعلومات المغرضة التي تنشرها الدعاية الصهيونية. 

إقرأ أيضاً: العادات: تعريفها، وطريقة تشكلها، وكيفية التعرف على العادات الخفية

نمو الاتجاهات:

الاتجاهات مكتسبة وليست فطرية؛ إذ لا يُولَد الفرد مزوداً بأي اتجاه إزاء أي موضوع خارجي؛ وإنَّما تتكون الاتجاهات وتنمو نتيجة احتكاك الفرد بمواقف خارجية متباينة تؤثر فيه بطريقة ما، ويتفاعل معها ومن تكرار الخبرات وتنوعها تتكون اتجاهاته. 

إنَّ المصدر الأول للاتجاهات هو الدوافع الفيزيولوجية التي تعبِّر عن نفسها في مستهل حياة الطفل في الرغبة في الطعام والدفء والحنان، وحين ينمو قليلاً تعبِّر عن نفسها في الرغبة في النشاط الجسدي، وفي استثارة بعض الأجزاء المختلفة من الجسم، وتنشيطها يبني عليها اتجاهات أكثر تعقيداً.

لذا نرى أنَّ تكوُّن الاتجاهات يبدأ جنباً إلى جنب مع القيم الفيزيولوجية الأولى التي يكوِّنها الطفل تجاه ما يشبع دوافعه البيولوجية الأولى، وقد يتبلور الاتجاه في أشياء مادية كالدار الهادئة والمقعد المريح، وفي نوع خاص من الأفراد كالأخوة والأصدقاء، وفي نوع محدود من الجماعات كالأسرة أو النوادي. 

على سبيل المثال، نذكر بعض نتائج دراسةٍ أقيمت على فئة من طلبة الجامعات المصرية لمعرفة قيمهم واتجاهاتهم، فقد كشفت الدراسة تعديلاً في اتجاهات الطلبة خلال خمس سنوات بين عامي 1957-1962 بتأثير التطور الاجتماعي وتطور مناهج التعليم.

فقد نمت اتجاهاتهم الإيجابية نحو القوة والمظهر وعد الذات والاستقلال والتثقف والتعبير عن الذات، والمسالمة والأمن والدين والتسلُّط والمرح، وضعفت خلال نفس الفترة اتجاهاتهم الإيجابية نحو عدم التسامح والطاعة والكتمان والراحة والتملُّك والنشاط والعدالة والعمل واللطف والتواضع. 

في الختام:

لقد ناقشنا في هذا المقال الاعتقاد والمعتقدات والعوامل النفسية والاجتماعية المؤثرة فيه، وبيَّنا كيف ينمو الاعتقاد، وتحدَّثنا عن الاتجاهات وأشكالها وكيفية تكوُّنها ونموها، على أمل تحقيقه للفائدة المرجوة منه. 

المصدر:

  • كتاب التربية العامة للدكتور أنطون حبيب رحمة 1982 م.



مقالات مرتبطة