القلق الاجتماعي وعلاجه

يُعَدُّ القلق من سمات العصر المميَّزة، فقد أدَّت التغيرات المتسارعة بأنواعها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغيرها إلى تعقُّد الحياة وتعقُّد متطلباتها، الأمر الذي أفرز معه ضغوطات حياتية فاقت قدرات بعض الأفراد على مجاراتها، ومن ثمَّ أصبحوا عرضة للأمراض النفسية والاجتماعية.



الإنسان بوصفه كائناً اجتماعياً يميل إلى العيش وسط جماعة يشعر فيها بالاستقرار والأمان وتشبع حاجته إلى الانتماء وتسهم في تكوين شخصيته من خلال ما يتشربه من معايير اجتماعية واتجاهات نفسية هامة، لكن خلال ذلك يتعرض الفرد لمئات التفاعلات والمواقف الاجتماعية منها الروتينية التي يمارسها بشكل دائم ويومي، ومنها المواقف التي تبعث في نفسه الفرح والسعادة، ومنها ما يبعث في نفسه الحزن.

مهما يكن يمكن القول إنَّ نجاح هذه العلاقات أو فشلها سوف يؤثر في الفرد وحياته عامة، فعند نجاحها سوف يصبح الفرد شخصاً قوياً ومستقلاً وواثقاً بنفسه ومتكيفاً مع المحيط ويتمتع بالتوافق النفسي، وبخلاف ذلك عندما لا يمر بخبرات وتجارب حزينة ومؤلمة أو يعجز عن تكوين علاقات ناجحة في تفاعلاته الاجتماعية ويتأثر سلبياً بذلك، فينسحب بعيداً ويعيش في عزلة وقلق بأنواعه لا سيما الاجتماعي منه الذي يُعَدُّ من أكثر أنواع القلق الشائعة والأكثر انتشاراً والمسببة بدورها لمشكلات نفسية وسلوكية أخرى.

لقد صُنف القلق الاجتماعي ضمن أنواع القلق الرهابي في الدليل العاشر لتصنيف الأمراض النفسية والعقلية لمنظمة الصحة العالمية، كما صُنف ضمن دليل المرشد الإحصائي التشخيصي للاضطرابات العقلية الذي يصدر عن جمعية الأطباء النفسيين الأمريكيين، فهذا الاضطراب مزمن ومعطل لحياة الفرد ولكنَّه قابل للعلاج، فما هو القلق الاجتماعي؟ وكيف يمكن علاجه؟

ما هو القلق الاجتماعي؟

القلق الاجتماعي هو نوع من الخوف من المجهول وتجنب الوجود في المواقف الاجتماعية التي تنطوي على نوع من أنواع التقييم، فاضطراب القلق الاجتماعي ينطوي على وجود مخاوف لدى الفرد من أن يتم تقييمه تقييماً سلبياً من قِبل الأفراد الآخرين في أثناء تفاعله في المواقف الاجتماعية المختلفة، فقد يدفع به ذلك إلى تجنب الوجود في مثل تلك المواقف ظناً منه أنَّ عدم مشاركته في المواقف الاجتماعية هو الحل لمشكلاته.

القلق الاجتماعي على حد تعبير "روبرت باركر" (Robert Barker) هو خوف شديد ومستمر غير مقبول، فقد يشعر الفرد أنَّه مراقب من الآخرين ويتجنب الحديث مع جمهور أو أداء شيء ما أمام الآخرين، ويتجنب الوجود في الأماكن العامة وتناول الطعام فيها ودخول دورات المياه العامة.

جاء في الدليل التشخيصي والإحصائي الرابع للاضطرابات النفسية تعريف للقلق الاجتماعي بأنَّه "الخوف الناتج من واحد أو أكثر من المواقف الاجتماعية التي يتطلب فيها أداء من الفرد والتي فيها يكون الفرد أمام الغرباء أو يكون في موقع تقييم أو فحص من قِبل الآخرين، ويكون الخوف ناتجاً عن الشعور بالارتباك أو التحقير والإذلال، ويدرك الفرد أنَّ خوفه غير عقلاني أو غير منطقي".

القلق الاجتماعي هو استجابة خوف غير منطقية ولا مبرر لها وغير معقولة ومبالغ بها تحدث في أثناء مواجهة الأفراد للآخرين أو عند الاتصال بهم خلال مواقف اجتماعية تؤدي بالفرد إلى تجنب هذه المواقف لشعوره واعتقاده بأنَّه موضع تقييم ونقد من قِبلهم.

ينطوي القلق الاجتماعي على مكونين أساسيين؛ الأول قلق التفاعل الذي ينشأ عن تعامله مع الآخرين وهو يحدث نتيجة للخجل أو الخوف أو التعامل مع أناس جدد أو غرباء يقابلهم لأول مرة، والثاني قلق المواجهة الذي ينشأ عن المواجهة غير المتوقعة، ويظهر ذلك من خلال التحدث والاتصال، ويتجلى من خلال الكف الناتج عن وجود الإنسان في موقف اجتماعي عام، ويُعَدُّ القلق ضمن حد معين طبيعياً وسوياً، لكن عندما يصبح هذا القلق مزعجاً للشخص ومؤثراً فيه ويتسبب بالضرر للفرد في مجالات حياته يصبح مَرَضياً.

لقد استُخدمت مصطلحات عدة للإشارة إلى هذا النوع من الاضطراب منها الخوف الاجتماعي والارتباك في المواقف الاجتماعية والخجل والرهاب الاجتماعي وغير ذلك.

بحسب الدراسات النفسية فإنَّ القلق الاجتماعي يبدأ بالظهور في مرحلة الطفولة والمراهقة المبكرة، ففي مرحلة ما قبل المدرسة يبدأ القلق الاجتماعي على شكل خوف من الغرباء وفي بداية المراهقة؛ أي بين 12 و13 سنة يظهر على شكل خوف من النقد والتقييم الاجتماعي الذي يقوم به الآخرون.

لكن على الرغم من أنَّ القلق الاجتماعي يبدأ في مرحلة مبكرة من الحياة، إلا أنَّه يُصنف ضمن الاضطرابات النفسية المزمنة التي يمكن أن تستمر وترافق الفرد لفترة طويلة من الوقت إن لم يتم علاجها، وتؤدي بدورها إلى ظهور مشكلات نفسية أخرى ترافقها كالاكتئاب أو القيام بممارسات سيئة للهروب منها مثل تعاطي المخدرات والكحول فضلاً عن حدوث قصور في وظائف الفرد الاجتماعية والصحية والمادية والمهنية.

توجد مجموعة من الأسباب المعززة لحدوث القلق الاجتماعي وزيادته ولعلَّ أبرزها التنشئة الاجتماعية التي يتلقاها الفرد، فمن الأسباب التي تولِّد الشعور بالقلق الاجتماعي لدى الفرد المعاملة الوالدية الصارمة والقاسية، والشدة في الأمر والنهي، والميل إلى عقوبة الأولاد بقسوة وإذلالهم سواء نفسياً أم جسدياً لا سيما في حضور الآخرين، وكل ذلك يوثر في شخصيتهم وطريقة تعاملهم؛ إذ يصبح خوفهم من التعرض للعقاب أو التعرض لسخرية الآخرين الدافع الوحيد وراء كل سلوك، ويترتب على ذلك إحساس الفرد بتدني التقدير لذاته وضعف الثقة بنفسه والعجز عن اتخاذ القرار المناسب، ومن ثمَّ خوفه غير المبرر من كل موقف اجتماعي يمر به.

شاهد بالفيديو: 8 نصائح تساعدك لتصبح اجتماعياً أكثر

مستويات القلق الاجتماعي:

1. المستوى السلوكي:

يتجلى في هروب الفرد من المواقف الاجتماعية ويحاول جاهداً عدم الوجود فيها أو بأيَّة مناسبة اجتماعية، أو تلبية أيَّة دعوة من قِبل الأفراد الآخرين، وتقليل مستوى التواصل والاتصال والتفاعل الاجتماعي إلى أدنى حد ممكن.

2. المستوى المعرفي:

يتمثل في تدني تقدير الفرد لنفسه وقلقه من فكرة ارتكابه الأخطاء بشكل دائم وبحلول المصائب عليه نتيجة لذلك، وكذلك يتوقع حصول الفضائح له وتدمير مكانته الاجتماعية وما إلى ذلك.

3. المستوى الفيزيولوجي:

ويتجلى بمعاناة الفرد من مجموعة من الأعراض الجسدية التي ترتبط بالمواقف الاجتماعية والتي تسبب التعب والإرهاق له مثل إحساسه بالأرق والتعرق والارتجاف وبعض الآلام مثل آلام الرأس.

إقرأ أيضاً: كيف تقهر القلق الاجتماعي؟

علاج القلق الاجتماعي والتعامل معه:

1. علاج القلق الاجتماعي هو شكل من أشكال الإرشاد:

الذي يهدف إلى جعل تحقيق تغيير في سلوك الفرد وإضعاف سلوكات محددة وتشجيع أخرى وبالشكل الذي يحسن من حياته ومن حياة المحيطين به، ومن أشهر أنواع علاج القلق الاجتماعي هو استخدام أسلوب العلاج السلوكي المعرفي الذي يقوم بما يأتي:

التدريب على المهارات الاجتماعية:

لا يوجد خلاف على أنَّ أهم الأسباب التي تؤدي إلى ظهور القلق الاجتماعي هي ضعف المهارات الاجتماعية لدى الفرد؛ لذا فإنَّ أسلوب تدريب الفرد المصاب بالقلق الاجتماعي على اكتساب المهارات الاجتماعية التي تساعده على تحقيق أهدافه الشخصية والاجتماعية سوف يسهم في علاج هذا الاضطراب، ومن بين تلك المهارات مثلاً مهارة التحدث في المواقف الاجتماعية المختلفة.

إعادة البناء المعرفي للفرد وتنظيم الإدراكات المعرفية لديه:

ويكون ذلك من خلال تحويل أفكار الفرد السلبية الهدامة إلى الأفكار المتعارضة معها أو كما تسمى في علم النفس أفكار التكيف، وذلك من خلال التقليد والمحاكاة وتأدية الأدوار.

مناقشة التوقعات الخاطئة التي يفكر بها الفرد:

وذلك بهدف توضيح تلك الأفكار والوصول إلى الفهم الصحيح لها.

عقد الجلسات الإرشادية والتعريفية بالقلق الاجتماعي:

والأفكار الهدامة والتفاعل الاجتماعي وغير الإيجابي وآثار كل منهما.

استخدام أسلوب الحوار والمناقشة:

وذلك لتحفيز المريض على المشاركة والتفاعل الإيجابي.

استخدام الأساليب المرحة:

وذلك لكسر الحواجز مع المريض لمساعدته على فهم الأشياء التي عجز عن فهمها عندما تلقاها بشكل جدي.

إقرأ أيضاً: أعراض القلق الإجتماعي وطرق علاجه

التخلص من المواقف التي تسبب المخاوف والقلق:

وذلك من خلال وضع قواعد لتنظيم السلوك.

تحويل انتباه المريض من المواقف التي تسبب له المخاوف إلى نشاطات اجتماعية ممتعة بالنسبة إليه:

مثل النشاطات الفنية والرياضية.

تحصين المريض بشكل تدريجي:

من خلال تعليمه كيفية مواجهة المواقف المختلفة المثيرة للقلق لديه، والقيام باستجابة مضادة لها والاستمرار بذلك إلى أن يفقد الموقف خاصيته المهددة.

2. العلاج الجمعي:

من أساليب علاج القلق أيضاً يوجد أسلوب الإرشاد الجمعي الذي يقوم على إرشاد عدد من المرضى الذين تتشابه اضطراباتهم، وهو حل مناسب بالنسبة إلى الأشخاص الانطوائيين والانبساطيين من أجل تنظيم حياتهم تنظيماً صحيحاً.

3. تقدير الذات:

زيادة تقدير الفرد لذاته؛ إذ يتضمن مفهوم تقدير الذات تحقيق نظرة إيجابية للفرد عن ذاته، بمعنى أن ينظر الفرد إلى نفسه نظرة تتضمن الثقة والإحساس بما يملك من كفاءة وجدارة وذكاء؛ أي إحساس الفرد بقيمته الحقيقية.

شاهد بالفيديو: كيف تبني تقدير الذات؟

في الختام:

القلق الاجتماعي هو الخوف من مواقف اجتماعية بعينها؛ إذ تصبح هذه المواقف مصدر تهديد للفرد وعمله وحياته عموماً، وهذا القلق يؤدي إلى حدوث مخاوف مَرَضية أخرى تنتهي بالفرد إلى الاكتئاب والعزلة والوحدة، فأهم ما يميز القلق الاجتماعي هو سلوك التجنب الاجتماعي الذي يظهر من خلال إفراط الفرد في الانتباه الشديد إلى حركاته وتصرفاته في المواقف الاجتماعية والخوف الواضح من تقييم الآخرين له وميله الشديد إلى توقُّع حدوث كل ما هو سيئ ومحاولة تجنبه للمواقف التي يعتقد أنَّها ستكون مسيئة له، وفي الواقع إنَّ اضطراب القلق الاجتماعي أحد الاضطرابات النفسية المثيرة للقلق التي تحتاج إلى علاج فوري من أجل حماية الفرد ودفعه لاستعادة توازنه النفسي، ومن ثمَّ تحقيق توافقه النفسي.




مقالات مرتبطة