الفلسفة الرواقية: وصفة بسيطة لحياة سعيدة

تقدِّم الفلسفة الرواقيَّة أنموذجاً عن الحياة السهلة والبسيطة والمريحة، وترتكز على القيم الأخلاقية بصفتها مسلَّمةً لا نقاش فيها ولا جدال لعَيْش حياة سعيدة وصحية، ولكنَّها ليست مجرد فلسفة أخلاقية فقط، فقد وضع المفكرون الرواقيون القدماء نظريات عدة عن الكون والفيزياء والمنطق والواقع؛ حيث إنَّ لبَّ الفلسفة الرواقيَّة يكمن في تأمُّل حقيقة الحزن، وحقيقة وجودنا فيه وتفاعلنا معه، وليس فقط التسليم به كأمر واقع مفروغ منه.



سنعرِّفكم في هذا المقال إلى أهم مضامين الفلسفة الرواقيَّة، وأهدافها ومرتكزاتها، وكيف تنظر إلى الحياة والواقع وتساعدنا على تقبُّل المصائب والكوارث.

الفلسفة الرواقيَّة وعلاقتها بفكرة التأمل:

احتضنَت الفلسفة الرواقيَّة كغيرها من الفلسفات، فكرة التأمل؛ ولذلك فقد كانت مؤلفاتها الفلسفية غنية وغزيرة أغنت بها رفوف المدارس الفلسفية، وأعطت الرواقيَّة قيمةً عُليا للعقل، بما يتطلبه الأمر من التزام وانضباط، ووصفةً للحياة الكاملة وهي أن تقوم بطرح الأسئلة عن معنى أن تكون إنساناً.

ينصحنا خبراء التأمل، بأنَّه في حال كان الشخص مشغولاً بشكل كامل لدرجة أنَّه لا يجد عشر دقائق في اليوم ليتفكَّر بها في نفسه وحياته، فيجب عليه أن يخصِّص ساعة كاملة في اليوم لكي يتفكَّر في ذاته وعمله وطريقة حياته؛ وذلك لأنَّ الإنسان عندما ينشغل عن التفكُّر في حياته، فإنَّه يشتت ذاته ويلهيها عن الحياة؛ لذا عليه أن يطيل تفكيره.
وكما يؤكد كبير الفلاسفة "ماركوس أوريليوس" أنَّ سعادتك في الحياة تعتمد على جودة أفكارك ونوعيتها، وككل شيء ثمين في الحياة، لا يمكنك بلوغه بسهولة أو بسرعة.

على الرغم من أنَّ الفلسفة الرواقيَّة، ترتكز على سؤال أساسي تحاول دوماً الإجابة عنه، "لماذا علينا أن نعيش؟" وللإجابة عنه يجب علينا ترك العواطف والخواطر، وإعمال الفكر والعقل فقط، ومن جهة أخرى، فإنَّ غرض هذا السؤال الجوهري ليس الوصول إلى الحقيقة المطلقة؛ بل هو إيجاد موطئ قدمٍ نكون من خلاله سائرين في طريق واضح، بينما يتخبط أو يتعثر الجميع بين عقولهم وعواطفهم.
حيث إنَّ فهمك لنفسك ودوافعك وإدراكك الفعلي لعواطفك وإيقافها بسلطة العقل، سيوفر لك إمكانية التفكير النقي بالطريقة التي تريد أنت أن تعيش بها، دون تدخُّل المشاعر التي تتسم بتغيراتها وتقلباتها، فيما يوفر العقل لك طريقاً ثابتاً وأكثر أماناً.

الرواقيَّة وفلسفة الفن والمعاناة:

ما يميز الفلسفة الرواقيَّة أيضاً، أنَّها تدرس سلوكات الفرد وانفعالاته السلبية، وتحاول تقويمها وتفسيرها بلغة العقل والمنطق.
حيث ترى الفلسفة الرواقيَّة أنَّ معاناة الإنسان تبدأ عندما يكون محبوساً في غياهب الماضي، يجتر ذكرياته السلبية وإخفاقاته، وخائفاً حيال المستقبل وما يمكن أن يحمله له؛ وبلغة أخرى، معاناة الإنسان تبدأ عند غياب الحاضر لديه، فتراه منغمساً في الماضي خائفاً من المستقبل، فلا هو قادر على تغيير الماضي، ولا على التنبؤ بالمستقبل.

تقدِّم الفلسفة الرواقيَّة حلاً بسيطاً جداً لهذه المعضلة، وهي الانغماس في اللحظة الراهنة، وأن نعيش الحاضر بكل تفاصيله وتقلباته وجمالياته، من هنا يكتسب الفرد حريته الحقيقية، فلا هو حبيس الماضي ولا هو سجين المستقبل؛ بل لديه كامل الحرية في التصرف وتغيير الحاضر، وفي الحقيقة إذا فكرنا قليلاً فإنَّ أكثر ما نملكه هو اللحظة الراهنة.

وتنظر الفلسفة الرواقيَّة إلى الفن، بصفته مفهوماً يجسد طريقة العيش بانسجام مع الطبيعة، ويرى "زينون" مؤسِّس الفلسفة الرواقيَّة، أنَّ الحياة الخيِّرة لا تتحقق إلا إذا توافقَت إرادة الإنسان مع إرادة الطبيعة؛ حيث إنَّ الإنسان على الرغم من كل ذكائه وما وصل إليه من منجزات وتطورات وتكنولوجيا، فهو عاجز عن مقارعة الطبيعة، أو بالأحرى يعي خطورة مقارعة الطبيعة، ونقصد بالطبيعة هنا؛ الطبيعة الإنسانية والطبيعة الكونية؛ حيث إنَّه مهما وصلت البشرية إليه، سيبقى أساس التطور هو تقبُّل الإنسان للطبيعة، والعمل معها لا ضدها.

إقرأ أيضاً: 5 نصائح لتحسين الحياة والوصول إلى الاستقرار النفسي

الفلسفة الرواقيَّة ووحدة كل الأشياء:

تؤمن الفلسفة الرواقيَّة بوحدة كل الأشياء وارتباطها مع بعضها بعضاً، ولهذا الأمر قدسيةٌ مميزةٌ عندهم؛ حيث إنَّهم حين يؤمنون بأنَّ واحدية الكون؛ أي إنَّ جميع عناصره ومكوناته الحية وغير الحية، قد شُكِّلَت من مادة أولية واحدة، فبذلك تكون الرواقيَّة قد ساوت بين جميع الموجودات الكونية، وأعطت لها قيمة وجودية واحدة، دون أن تُعلي قيمة مكوِّن على آخر.

ويؤكِّد المفكِّر الرواقي الكبير "أوريليوس" أنَّ هناك مادة واحدة تتشارك بها المخلوقات العاقلة كلها ألا وهي العقل، وعندما نتشارك جميعاً العقل نفسه، نستطيع الوصول إلى الكمال.

ويؤمن "أوريليوس" بوجود مادة واحدة لهذا الكون تتظاهر بأشكال أو صور أو حالات مهددة مثل النار، والماء، والجليد، والهواء، والتراب، وبأنَّه لا ملكوت فوق ملكوت الرب والطبيعة؛ حيث إنَّ الإنسان يستطيع التقدُّم في الحياة، عندما يتماشى العقل مع ملكوت الطبيعة والرب، وقد شاركه في هذه النظرة عن الرب الذي يتجسَّد في مجموع الطبيعة، الكثير من الفلاسفة أهمهم "باروخ سبينوزا".

الرواقيَّة والقدرية علاقة هامة:

تعتقد الفلسفة الرواقيَّة أنَّ كل حدث في الكون، يسير كما هو مخطط له أن يسير، فإذا دقَّقتَ التفكير في أي حدث، وتتبَّعتَ مجرياته أو سياقاته، من نقطة بدايته حتى نهايته، ستصل إلى استنتاج واضح، بأنَّه سار بطريقة قدرية مُخطَّط لها من قبل؛ حيث إنَّ لا سلطان للإنسان على الكون، صحيح أنَّ الكون له أوجه وحالات وتجليات مختلفة، لكنَّها في حقيقة الأمر نابعة من أصل إلهي واحد.

ويؤمن الرواقيون، بالتنجيم أو الكهانة أو العرافة أو ما كان يُعرَف في ذلك الزمن بأوراق التاروت؛ حيث يرون أنَّ أي حدث صغير، مهما كان صغيراً ودون أيَّة أهمية، فإنَّه يرتبط بطريقة ما، بالقدرية أو الحتمية.

إرادة الإنسان تكون على عقله فقط وليس على الكون وما يجري به من أحداث:

ترى الفلسفة الرواقيَّة أنَّ قدرات الإنسان في السيطرة على الأحداث الخارجية، ضئيلة جداً، وربما معدومة؛ حيث يكون من الصعب عليه تغييرها، ولكنَّه وبكل تأكيد يملك القدرة على التحكم بأفكاره ومشاعره، فقد لا يستطيع أن يمنع حدوث الكوارث، ولكنَّه وبكل بساطة قادر على تطويع أو تسخير ردود فعله تجاه هذه الكوارث من أجل التقليل من الضرر الحاصل عليها.

لذلك، فإنَّ الفلسفة الرواقيَّة، تركِّز على الصبر ورباطة الجأش في مواجهة التحديات والمصاعب وعندما تأخذ الأمور مجرى غير متوقع؛ لذلك من المعروف عن الرواقيين مواجهة المآسي بالهدوء والوقار والحكمة.
تقوم المدارس الحكومية في المملكة المتحدة، بتدريس الفلسفة الرواقيَّة في مختلف المراحل التعليمية، وأصبحَت جزءاً من الثقافة البريطانية فيما يتعلق بمواجهة المآسي والمصاعب بصلابة وهدوء، ويرى بعضهم المَثل البريطاني الذي يقول: "اخفِ مشاعرك"، مستلهَماً من الفلسفة الرواقيَّة.

الرواقيَّة وفلسفة العقبة هي الطريق:

كم هي رائعة الفلسفة الرواقيَّة حين تقول لنا إنَّ العقبة هي الطريق، كم يريحنا هذا القول في مواجهة مصاعب ومتاعب الحياة، وبما أنَّ هذه الفلسفة تؤمن بأنَّ كل شيء مقدَّر ويحدث كما يجب أن يحدث، وأنَّ سلطة الإنسان تكون على نفسه وليس على الأحداث الخارجية، فهي تؤمن بأنَّ العقل سيصنع من العقبة طريقاً جديداً يكون حبل النجاة، وقد تكون نهايته أفضل بكثير من الطريق الأول الذي وقفَت في وجهه تلك العقبة؛ لذلك تقول لك الرواقيَّة لا تحزن فإنَّ خلاصك يكمن في هذه العقبة.

وكذلك تَعُدُّ الرواقيَّة المآسي أو الكوارث أو الصدمات فرصةً لتطوُّر النضج الروحي للإنسان، تطوِّر قدراته في التكيف والتأقلم مع مصائب الحياة؛ حيث إنَّ التأقلم يُعَدُّ من وجهة نظر علمية حديثة من أهم ميزات أي كائن حي، ولولا قدرة الإنسان على التكيف لانقرض منذ زمن، وفي هذا الصدد تصبح المآسي التالية أقل تأثيراً في الإنسان، ويصبح الفرد أكثر قدرة على تقبُّلها والتعامل معها تعاملاً صحيحاً؛ لذلك فإنَّ الرواقيَّة ترى في المصائب فوائد ودروساً ذهبية لا يمكن تعلُّمها بغير ذلك.

إقرأ أيضاً: 8 نصائح هامة للاستفادة من تجاربك المؤلمة

الفلسفة الرواقيَّة والحقيقة الواحدة:

تنكر الفلسفة الرواقيَّة وجود أيَّة حقيقة مطلقة، وتَعُدُّ كل ما نراه هو ما نراه من منظورنا وليس بالضرورة أن يشكِّل الحقيقة، وأنَّ ما نسمعه يبقى آراء، لا حقيقة.

فالكون كلٌّ كاملٌ، ونحن بصفتنا بشراً لسنا إلا جزء من هذا الكل، والجزء لا يمكنه إدراك الكل ككل؛ حيث يؤكد الفيلسوف الرواقي "أوريليوس" على رفض فكرة بلوغ الإنسان للحقيقة المطلقة؛ وذلك لأنَّ فهمنا للأشياء لا يمكن أن يكون كاملاً؛ بل يبقى عاجزاً عن تغطية الزوايا كلها أو الجوانب المختلفة، وما نراه هو ما يُظهِره لنا السياق الاجتماعي، فكل فكرة أو منظور أو رأي قد يقرِّبنا من الحقيقة الكاملة ولكنَّه لا يوصلنا إليها.

في الختام:

يمكننا القول إنَّ الفلسفة الرواقيَّة تهدف إلى تنظيم علاقاتنا بأنفسنا أولاً، وبالآخرين ثانياً، وتوصِل الرواقيَّة فكرة هامة للناس، هي ألا يتكبروا ولا يغتروا أو يكونوا عنيدين حيال رأيهم في أي جانب من جوانب الحياة؛ حيث إنَّ كل شيء فيها نسبي ومنظوري، كما أنَّ البطولات والفضائل التي نتباهى بها أمام الآخرين كما ينصحنا الرواقي "أبكتيكيوس" قد تثير غيظ أو استفزاز المستمِع وتنفِّر الناس من المتحدِّث الدائم بها.

إنَّ الفلسفة الرواقيَّة، فلسفة قديمة بطبيعة الحال، ولكن لا يمكن بأي شكل الإنكار أبداً بأنَّها تتضمن مبادئ وقيم وفضائل ودروس وعِبر كثيرة ومتنوعة تفيدنا في مختلف مجالات الحياة.

المصادر: 1، 2




مقالات مرتبطة