الغضب: الشعور المستهجن الذي ظلمناه كثيراً

أحياناً تكفي كلمة تافهة، أو كلمة خاطئة، أو نظرة مهينة، أو إيماءة مهينة من الآخر، لتغمرنا مشاعر عنيفة كالغضب.

قد يفتقد بعض الأشخاص لضبط النفس، فيندفعون إلى الأمام، بصوت عالٍ وبوحشية، دون مراعاة الآخرين، حتى أولئك الذين يبذلون جهوداً مكثفة لقمع دوافعهم الداخلية، لا يمكنهم دائماً منع الغضب غير المناسب من السيطرة عليهم سيطرة عمياء وغير متوقعة.



الحفرة التي يمكن أن يوقعنا بها الغضب عادة ما تكون مرئية أيضاً للغرباء، فإذا كنت غاضباً، فهذا سيظهر على وجهك: بشرتك حمراء اللون، وصوتك يرتجف، وتنفسك يزداد سرعة، وعيناك تلمع بشدة.

يمكن أن يندلع الغضب في مجموعة متنوعة من المواقف، في النزاعات الشخصية، في الحروب، وحتى في لحظات التأمل الذاتي، ويمكن أن يؤدي الغضب إلى الأذى والعنف والدمار، فغالباً ما يكون العدوان غير المنضبط تعبيراً قوياً عن الغضب.

الغضب صاحب السمعة السيئة:

ليس من المستغرب أن يكون لهذا الدافع غير المتوقع سمعة سيئة في مجتمعنا، فأي شخص يُظهر غضبه يُعدُّ وقحاً وبدائياً، فمن المتوقع أن يحافظ الإنسان العصري على رباطة جأشه، ووفقاً للاعتقاد السائد، فيجب حبس الوحش المستشري في أعماق النفس.

حتى في العصور السابقة، طالَبَ المفكِّرون بالاعتدال والعقل، وأرادوا كبح كل شيء غريزي في الناس، فالفيلسوف الروماني سينيكا، على سبيل المثال، كرَّس كتاباً كاملاً للغضب "On Anger"، ووصف العالم القديم هذا الاندفاع بأنَّه شيء ضار وغير صحي، ويجب القضاء عليه.

الغضب هو "مرض عقلي قصير الأمد" يجب على الشخص العاقل أن يتجنبه، ويقول أيضاً: "لنحرر أنفسنا من هذا الشر، لنطهر أرواحنا، دعونا نقضي على ما ينبت منه".

رأى الفلاسفة اللاحقون أيضاً الغضب على أنَّه ضعف في الشخصية، على سبيل المثال، وصفه الإنجليزي فرانسيس بيكون في القرن السابع عشر بأنَّه عاطفة نموذجية للضعفاء؛ أي الأطفال والنساء وكبار السن والمرضى.

تستهجن العديد من الأديان الغضب، ففي البوذية، على سبيل المثال، يُنظر إليه على أنَّه عقبة في طريق التنوير، ويحاول الرهبان البوذيون تحرير أنفسهم من الانفعالات العاطفية من خلال التأمل، ويعتقد المسلمون أنَّها جاءت من الشيطان، وفي المسيحية كانت واحدة من الخطايا السبع المميتة من أوائل العصور الوسطى.

يرى العلماء الغضب من زاوية أخرى:

يؤكد علماء النفس والأطباء النفسيون قيمة الغضب، على سبيل المثال من خلال مساعدتنا على وضع حدود واضحة مع الآخرين، ووضع إشارات تحذير، وتخفيف التوتر الداخلي، وإعطائنا رؤى دقيقة عن نقاط ضعفنا ودفعنا للتغيير، ويشددون على أهمية إعطاء مساحة للغضب والتعبير عنه؛ لأنَّهم يعرفون كيف يمكن أن يكون الغضب مدمراً للجسم والعقل إذا تم قمعه دائماً.

حتى إنَّ بعض الباحثين يفترضون أنَّ الغضب المكبوت يمكن أن يؤدي إلى الكآبة المَرَضية؛ لذلك من المستحسن النظر إلى الغضب بطريقة مختلفة، وفهم المواقف التي يمكن أن يساعدنا فيها ومتى يمكن أن يضرنا.

شاهد بالفيديو: 20 حكمة وقول عن الغضب وسلبياتهِ

من الناحية البيولوجية، الغضب دافع مفيد:

يُحدث الغضب سلسلة متكاملة من التفاعلات الفيزيولوجية، فهرمونات التوتر مثل الكورتيزول والنورأدرينالين والأدرينالين تنتشر عبر الجسم بكميات متزايدة، مما يتسبب في ارتفاع مستويات السكر في الدم وضغط الدم.

من ثم يُزوَّد القلب والرئتين والدماغ والعضلات بدم إضافي من الأنسجة الأخرى، فالنبض يتسارع، وفجأة أصبحنا مستيقظين تماماً، ومفعمين بالطاقة، هنا نحن على استعداد للرد على الإزعاج أو التوتر أو الخطر، ولكن بصرف النظر عن مقدار الغضب الذي يضعنا في حالة مزاجية عدوانية، فإنَّ علماء الأنثروبولوجيا يدركون أنَّه آلية تطورية مذهلة تضع حدَّاً للعنف؛ وذلك لأنَّ علامات الغضب المرئية، كما يفترض الباحثون، يمكن أن تخيف الآخر مما يؤدي إلى تهدئة الصراع.

من وجهة نظر العلماء، فإنَّ للغضب وظيفة مزدوجة هامة ساهمت في تمكُّن أسلافنا من العيش معاً بسلام في مجتمعات معقدة.

إقرأ أيضاً: أضرار الغضب الصحيّة و 10 طرق للتخلّص من مشاعر الغضب

أكثر ما نغضب من المقربين:

ربما لم يتغير ما يغذي الغضب إلا قليلاً طوال آلاف السنين، فيقول الخبراء أنَّه في ذلك الوقت، كما هو الحال الآن، يتغذى الغضب بشكل أساسي على الإهانات والمعاملة غير العادلة.

من المثير للدهشة، في الثقافة الغربية، أنَّ الغرباء نادراً ما يجعلوننا غاضبين على سبيل المثال في حركة المرور، ففي كثير من الأحيان، تُظهِر الدراسات الاستقصائية، أنَّنا نغضب من أولئك الذين نهتم بهم أو على الأقل نحبهم، ووفقاً للدراسات، فإنَّها تسبب أكثر من نصف نوبات الغضب، فلحظات من المشاعر الشديدة، مثل عند مواجهة الرفض أو عدم الأمانة أو الوعد الكاذب.

كما أنَّ عدم احترام الذات أو الملكية يدفع الكثيرين إلى الغضب، كما تفعل اللامبالاة التوضيحية، وبالطبع، يتفاعل الكثيرون بغضب عندما يتعرضون لهجوم لفظي أو جسدي.

الغضب المكبوت والأمراض النفسية:

لا يغضب الجميع، ويحولون غضبهم إلى الآخر، ويميل معظم الناس إلى إظهار غضبهم على أنفسهم، مما يؤدي أحياناً إلى عواقب وخيمة على توازنهم العقلي، ويفترض باحثون مثل عالم النفس الأمريكي ريموند ديجيوسيبي، الذي كان يدرس آثار الاضطرابات العاطفية لسنوات، أنَّ سبب العديد من حالات الاكتئاب يمكن أن يكون الغضب الداخلي.

وفقاً لـ DiGiuseppe، يصبح بعض المرضى مكتئبين لأنَّهم يعتقدون أنَّهم لا يملكون الفرصة ضد معذبهم أو خصومهم، أو أنَّهم يائسون لأنَّهم يخشون من أنَّ الغضب والإحباط المكبوتين سيستمران في الازدياد.

وفقاً للخبراء، فإنَّ الأشخاص الذين يعانون من مشكلات في التعبير عن المشاعر تعبيراً صحيحاً معرضون لاضطرابات القلق والاكتئاب التي تعتمد على الغضب أكثر من غيرهم، وعادة ما يوجِّه المتضررون مشاعر الغضب ضد أنفسهم، فيشعرون بالفشل، وأنَّهم أقل شأناً، ويُحمِّلون أنفسهم ذنب المعاناة التي مروا بها.

يفترض العديد من علماء النفس أنَّ الغضب المكبوت دائماً، يؤذينا ويمكن أن يجعلنا مرضى؛ وذلك لأنَّ طاقة الغضب موجودة بالفعل؛ وأولئك الذين لا يجدون طريقة مناسبة اجتماعياً للتعبير عن غضبهم معرَّضون لخطر تطوير سلوكات تدمير الذات، مثل الإدمان واضطرابات الأكل مثل فقدان الشهية أو الشره المَرَضي.

الغضب المكبوت والأمراض الجسدية:

يمكن أن يسبب الغضب المكبوت الأمراض الجسدية في ظل ظروف معينة، وإنَّ العواقب المحتملة، وفقاً للطبيبة النفسية النمساوية الشهيرة هايدي كاستنر، تشمل تغيُّرات في الجلد، وارتفاع ضغط الدم، وكسور الأسنان، ومشكلات في الجهاز الهضمي.

الغضب المكبوت والجرائم:

الغضب المكبوت يبحث دائماً عن منفذ، وتُحذِّر هايدي كاستنر: "في أسوأ الحالات، يوجد خطر لحدوث الجرائم العاطفية؛ أي نوبات الغضب غير المنضبطة، والتي تتضرر فيها الأشياء أو الأشخاص الآخرون".

إقرأ أيضاً: أهم أدوات فن إدارة الغضب

يتشكَّل التعامُل مع الغضب من خلال منزل الوالدين:

إلى أي مدى يسمح الفرد بالغضب ويظهره أو كيف يتعامل معه؟ هذا ما يتم تحديده في المقام الأول في منزل الوالدين، فإذا لاحظ المراهقون أنَّ الأب والأم يتعاملان مع النزاعات علانية، ولا يخفون المشاعر، وأحياناً يبكون أو يرفعون أصواتهم، فسيكون من الأسهل عليهم فيما بعد قبول عواطفهم وإدارتها.

عادة ما يُسمح للأطفال الصغار بالتعبير عن غضبهم بصوت عالٍ، ومع ذلك، بحلول الوقت الذي يبدؤون فيه المدرسة على أبعد تقدير، عادة ما يرغب الكبار في أن يكون أطفالهم متكيفين وطائعين.

ليس من قبيل المصادفة أنَّ العديد من المعلمين يحاولون الآن ضبط سلوك الفتيات والفتيان من خلال تقديم أنفسهم دائماً على أنَّهم ودودون ومتفهمون، حتى لو كانوا مستعرين في الداخل ومتوترين للغاية.

شاهد بالفيديو: كيف تجعل الغضب حليفك

الغضب بوصفه قوة دافعة اجتماعية:

انتقد المعالج الأسري Jesper Juul، الذي توفي في عام 2019، هذه الحفلة التنكرية بوضوح، فيؤكد أنَّ مستوى معيناً من العدوانية ضروري لمناخ عائلي جيد؛ لذا يجب على البالغين التصرف مثل "الأشخاص من لحم ودم" بكل مشاعرهم الطبيعية، مثل التهيج والإحباط والغضب.

لذلك يجب أن يكون الوالدان صادقين، وأن يكشفوا عن حدودهم الخاصة، ثم يتحملوا المسؤولية عن سلوكهم، وعندها سيتمكن الطفل أيضاً من اكتشاف مشاعره وتحملها في كل مداها، حتى المشاعر السلبية، فيتضمن النمو عدداً لا حصر له من عمليات التعلم، والتي غالباً ما تؤدي إلى الإحباط لدى كل طفل.

في الختام:

لا يكاد يتم نبذ أي عاطفة في مجتمعنا مثل الغضب، فيكتشف علماء النفس مزيداً ومزيداً من الآثار الإيجابية لهذه المشاعر المستهجنة، ففي بعض الأحيان يحب أن تعبر عن غضبك لكي تكون بصحة جيدة؛ لذلك يدعو الأطباء الناس إلى التعبير عن غضبهم، بدلاً من مجرد قمعه دائماً.




مقالات مرتبطة