العلاج المعرفي السلوكي لاضطراب القلق العام

لدينا هنا السيد "أحمد" صاحب الأربعين سنة، وهو متزوج ولديه فتاتان؛ الكبيرة ثماني سنوات، والصغيرة خمس سنوات، وهو موظف مالي في مؤسسة كبيرة؛ حيث يجري لقاءات مع الزبائن وهو المسؤول عن معاشاتهم.



تزوج من سعاد؛ وهي أمينة المكتبة ذات الـ 35 عاماً، ودام الزواج لثماني سنوات، والفتاتان هما فتاتان بالتبني؛ إذ يشكو "أحمد" طوال الوقت من ميله إلى القلق والتوتر بشكل زائد عن الطبيعي بخصوص الأمور المالية للأسرة وتأمين متطلباتها المختلفة، والأمور السياسية والبيئية والاقتصادية، بالإضافة إلى قلقه تجاه بعض الأمور الصغيرة مثل تصليح سيارة وشراء الملابس لبناته.

وبناء على ذلك، فعليه أن يفكر كثيراً في هذه الأمور ويخطط بدقة للمستقبل، فعلى سبيل المثال: لديه استراتيجية وخطة محكمة في حال التحاق بناته بالجامعة؛ من أجل تأمين احتياجاتهم المختلفة، ويفحص السيارة بشكل متكرر وروتيني وكان الميكانيكي يجد فيها بعض المشكلات؛ إذ توبخه زوجته "سعاد" حول هذه الأمور، ولكنَّها في الوقت نفسه تقدر له اهتمامه بأسرته، إلَّا أنَّها تتمنى لو كان أقل قلقاً فيما يتعلق بالأمور الصغيرة.

زار "أحمد" الطبيب النفسي وأخذ مضادات القلق لفترة معينة، ولكنَّه لم يحب الآثار الجانبية، فأقلع عنها.

ما هو مفهوم القلق العام من وجهة نظر العلاج المعرفي السلوكي؟

الأمر المميز لاضطراب القلق العام، هو التوتر الزائد حيال كثير من الأمور مثل العمل والصحة والماديات والشؤون الدولية وأخرى صغيرة مثل إصلاح السيارة أو الهاتف الذكي أو شراء الثياب.

لكي نقول بأنَّ هذا الشخص لديه اضطراب القلق العام، يجب أن يستمر التوتر لستة أشهر على الأقل، ويرافقه الانفعال والتعب السريع ومشكلات في الانتباه والتركيز والهياج والتوتر العضلي؛ إذ يؤثر هذا القلق عموماً في الحياة الاجتماعية والمهنية وغيرها.

أكثر من نصف المرضى بدأ لديهم القلق في عمر العشرين والأربعين، وهو منتشر أكثر عند السيدات ومنخفضي الدخل.

في حالة "أحمد" نلاحظ أنَّ قلقه غير مبرر؛ فهو لديه وظيفة واستقرار مالي، ولديه أطفال وزوجة وسيارة ويعيشون في وسط آمن، ولكنَّه غير قادر على أن يعزل هذا القلق ويدفعه خارج حياته، فعلى سبيل المثال: يذهب إلى الميكانيكي لإجراء فحص روتيني غير ضروري، فيكتشف أمراً ما في السيارة مما يدفعه إلى القلق أكثر ودفع النقود. على ما يبدو أنَّ القلق ظاهرة شيقة، فتابعوا معنا أعزاءنا القراء.

ما هي مكونات القلق العام حسب العلاج المعرفي السلوكي؟

يمكن أن نعرِّف القلق على أنَّه عملية معرفية تتضمن بشكل أساسي صورة لفظية، وتصورات عقلية، وهاتان تؤديان دوراً محورياً في تحريض ردة الفعل النفسية؛ إذ تُعَدُّ العملية اللفظية أقل ارتباطاً بالقلق وأقل قدرة على تحريضه، في حال قارناه مع العملية التصورية أو البصرية، وهي وسيلة أقوى لتجهيز المعلومات الانفعالية.

لذا من الوارد أن يكون القلق هو وسيلة تجنُّب معرفية، فهو يلجأ إلى القلق من أجل تجنُّب السيناريو الأسوأ، ويخاف أن يخسر وظيفته من أجل تجنب خسارتها.

ويرى خبراء علم النفس أنَّ القلق هو حال من عدم تحمُّل اللايقين؛ إذ يوجد بعض الأشخاص الذين يفكرون دوماً في أنَّ هناك شيء غامض سيأتي ويخرب خططهم.

ما هو دور الاستدلال الانفعالي في اضطراب القلق العام؟

يعمل الاستدلال الانفعالي على تعزيز نماذج التفكير السلبية وتقويتها؛ فإذا كان التفكير في أحداث المستقبل يؤدي إلى استجابة جسدية توترية مثل تسارع نبضات القلب والشد العضلي وغيرها، فيجعله هذا التأثير يفسر قلقه كمبرر لهذا الحدث، وهذا يُفعِّل حلقة تغذية المراجعة السلبية ويفاقم القلق.

كيف يبدأ العلاج المعرفي السلوكي طريق علاج اضطراب القلق العام؟

في البداية، يجب زيادة الوعي حول آلية القلق ووظيفته، ثم الحديث حول المعتقدات أو السلوكات اللاتكيُّفية التي يثيرها القلق، وهذا من شأنه أن يعالج القلق في حلقته الأولى.

على سبيل المثال: اعتقاد "أحمد" بأنَّ أخذ سيارته بشكل متكرر إلى الميكانيكي وفي وقت لا تحتاج فيه إلى أيَّة صيانة، سيساهم في منع حدوث خطر ما في المستقبل.

والتأثير الأكثر سلبية لقلق "أحمد" من فقدان وظيفته، يدفعه إلى القلق الزائد والقيام بسلوكات يعتقد أنَّ من شأنها تأمين الإبقاء على وظيفته، فيتابع عن كثب الأخبار المتعلقة بالوقائع الاقتصادية، ويناقشها مع زملائه وأسرته، وهذا يزيد من قلقه؛ إذ إنَّ الحالة القلقية التي يعاني منها تدفعه إلى جذب الأفكار السلبية وتذكُّر الأخبار السلبية والآراء السلبية؛ وهذا يفاقم القلق.

إقرأ أيضاً: أشهر أخطاء التفكير وطرق تجنُّبها

استراتيجية تعديل الموقف والانتباه في العلاج المعرفي السلوكي لاضطراب القلق العام:

يُعَدُّ القلق استجابة إلى عوامل خارجية يَعُدُّها المريض تهديدات خطيرة، ولو تغيرت هذه العوامل، فمن الممكن أن تتغير الاستجابة، ولكنَّ محاولات حجب التركيز عن محرضات القلق غير فعالة؛ بل على العكس فإنَّ حجب التركيز عن أمر معين يزيد بشكل تناقضي من التركيز فيه، وعوضاً عن ذلك من الممكن أن نطلب من المريض أن يركز في الأحداث المفرحة.

في مثل حالة "أحمد"، فإنَّنا لا نستطيع ألَّا نطلب من أحمد كبح تركيزه عن مثيرات القلق، ولكن من الممكن أن نطلب منه متابعة الأفلام والمسلسلات الكوميدية بدلاً من متابعة الأخبار الاقتصادية والسياسية التي تجلب له القلق، ومن الأفضل أن يقضي وقته خارج المنزل في ممارسة النشاطات الرياضية والحياة الاجتماعية.

فقد أوصى المعالج النفسي "أحمد" بممارسة رياضة الغولف، ولم يطلب منه كبح تركيزه حيال المثيرات، ومع الأيام تولَّد لدى "أحمد" شغف بهذه الرياضة واهتمام قوي بها، ألهاه عن التفكير الزائد في المستقبل ومفاقمة قلقه.

استراتيجية إعادة البناء المعرفي في العلاج المعرفي السلوكي لاضطراب القلق العام:

حيث تُحدَّد المعتقدات اللاتكيفية وتُعدَّل، وربما يجعل المعالج النفسي المريضَ ينخرط في حالة القلق هذه؛ إذ يحدد المريض أحد الأمور التي تثير قلقه بشدة ويفكر فيها مع إغماض عينيه، ثم يطلب المعالج النفسي من المريض أن يصف بشكل تفصيلي كل التصورات التي انتابته، ومن ثم يكرر القلق مع التعبير اللفظي عن الأفكار، وبعد ذلك يُطلَب من المريض أن ينتبه إلى المحتوى المحدد في بداية كل قلق ويحاول أن يحدد مثيراته.

أهمية التصالح مع اللايقين في العلاج المعرفي السلوكي لاضطراب القلق العام:

يعمل العلاج المعرفي السلوكي على مسألة اللايقين، ويَعُدُّها أحد أبرز وأهم مغذيات القلق بأنواعه كافة؛ إذ إنَّ اللايقين موجود عند غالبية الناس بنسب متفاوتة، ولكنَّه عند بعض الأشخاص قد يسبب مشكلة كبيرة تتحول مع الوقت إلى اضطراب نفساني.

وهنا يقدم العلاج المعرفي السلوكي الحل؛ وذلك بأن يتصالح الإنسان مع فكرة اللايقين ويتقبل وجوده في الحياة؛ من أجل تجنُّب صرف طاقات كبيرة في مواجهته، بدلاً من خوض معارك غير ضرورية في الحياة، طبعاً دون أن يعني ذلك الكسل أو الخضوع أو الاستسلام في مواجهة الواقع ومشكلاته.

هنا يطلبُ منك المعالج النفسي أن تذكر له بعض الحالات التي تتقبل فيها فعلاً حالة اللايقين وتمارسها في حياتك اليومية، مثل أن تذهب من طريق آخر من أجل تجنُّب الازدحام المروري أو وجود حادث سير على الطريق الرئيس، أو تجرب مقهى جديد أو تتعرف إلى أصدقاء جدد، ويطلب منك أن تفكر كيف قبلتَ بأن تمارس هذه الأمور وأنت لا تعرف ماهيتيها كونك لم تجربها من قبل، ومن ثم يطلب منك أن تحاول تطبيق هذه الفكرة على أمور أكثر أهمية في حياتك.

وقد يطلب منك الطبيب أو المعالج النفسي أن تتخيل فيما لو كانت جميع الأمور في الحياة مبنية على اليقين الكامل، فكم ستكون هذه الحياة مملة ومضجِرة، مثل أن تتابع مسلسلاً طويلاً من مئة حلقة وأنت تعرف كل الأحداث وتعرف كل النهايات، ولا بد أنَّ متابعة فيلم معيَّن وحصول تحولات دراماتيكية غير متوقعة أبداً تجعلك تعيش الإثارة وتقول بأنَّك استمتعت بهذا الفيلم وقضيت وقتاً جميلاً، وهكذا هي الحياة مجموعة من المتغيرات غير المتوقعة، فالكون واسع وسحيق وعشوائي بطريقة معقدة وغير مفهومة؛ لذلك من الغباء أن تُحمِّل عقلك مسؤولية هذا التعقيد.

شاهد بالفديو: 7 نصائح للتفكير الإيجابي من ديل كارنيجي

إعادة برمجة النشاط في العلاج المعرفي السلوكي لاضطراب القلق العام:

تُعَدُّ إعادة برمجة النشاط واحده من أهم الأدوات المستخدمة في هذا العلاج؛ إذ تستند فكرة هذه الآلية من العلاج إلى أنَّ النشاطات الجديدة أو غير الاعتيادية تفتح باحة دماغية جديدة لدى المريض؛ إذ إنَّ الأمور الجديدة تثير دهشة الدماغ أكثر من أي شيء آخر، فتقوم هذه الآلية باستغلال هذه الميزة.

فيطلب المعالج النفسي من المريض أن ينخرط في نشاطات جديدة لا يشارك بها في العادة، ويمكن تحديد يوم واحد في الأسبوع على سبيل المثال من أجل ممارسة السلوك الجديد، ثم يزيد وتيرة هذا النشاط بالتدريج، ومن ثم تقوم العمليات العقلية والنفسية المتعلقة بالسلوك الجديد بأخذ مكان العمليات المسؤولة عن القلق؛ وبذلك تلهي الدماغ عن فرط التفكير، كما أنَّ النشاط العضلي أو البدني يقلل من الوقت الذي يصرفه الدماغ على موضوع التفكير أو القلق، ويجعل الإنسان إما في حالة عمل أو تفاعل مع العمل وبذلك هو غير مستعد إلى التفكير، أو في حالة تعب وحاجة إلى الراحة فهو يفضل النوم أو الاسترخاء على التفكير.

وكثيراً ما تُستَخدَم إعادة برمجة النشاط في إدخال أنماط سلوكية مفيدة على حياة المريض؛ وكذلك تُستخدَم بشكل واسع في علاج الاضطرابات الاكتئابية.

كلمة أخيرة:

يجب التأكيد على أنَّ دور العلاج المعرفي السلوكي في حل مشكلة القلق، هو دور محوري ورئيس ويمكن أن يتفوق على العلاج الدوائي؛ إذ إنَّ الأخير يعالج الأعراض أما الأول فيعالج لب المشكلة، دمتم بخير وصحة وسلامة.

المصدر




مقالات مرتبطة