الصحة والعمل: متى تهتم الشركات الناشئة بالصحة النفسية؟

في عام 2001، كان رائد الأعمال "بين هوه" (Ben Huh) مكتئباً جداً، فقد فشلَت شركته الناشئة، وخسر مئات الآلاف من أموال المستثمرين، ولقد كان غارقاً في الوحدة والانعزال، وفقدَ رغبته في الحياة.



كتبَ بعد سنوات: "لقد قضيتُ أسبوعاً في غرفتي والأنوار مطفأة وكنتُ منفصلاً عن العالم تماماً، وأفكر في أفضل طريقة لتخطِّي هذا الفشل، لقد كان الموت عندها خياراً ملائماً، وكنتُ أقتنع بهذه الفكرة أكثر يوماً بعد يوم".

لا يعرف "هوه" ما السبب الذي جعله يغادر تلك الغرفة تماماً، لكنَّه فعل ذلك. وفيما بعد، أصبح المدير التنفيذي لشركة "تشيز برغر نيتورك" (Cheezburger Network) الناجحة جداً، ولكن لم يتحدث عن حالة الاكتئاب التي عاشها إلا في عام 2011، وذلك بعد انتحار المبرمج "إيليا جيتوميرسكي" (Ilya Zhitomirskiy).

قال "هوه" لموقع "ماشابل" (Mashable): "تتحدث مقالتي عن كل شخص يعاني من الاكتئاب بصمت". ومن المحتمل أنَّ "جيتوميرسكي" شعر بإحساس عميق بالعزلة والوحدة مثل "هوه" تماماً، ولم يكن مضطراً لذلك.

كتب "هوه" في مقالته: "من بين سلسلة طويلة من رواد الأعمال الذين عانوا لوحدهم بصمت تحت رحمة الشك الذاتي، أتمنى لو استطعتُ التحدث إليك وأخبرك أن تتخلص من شكوكك الذاتية".

غالباً لا يعير رواد الأعمال اهتماماً كافياً لصحتهم النفسية، ومن المعروف أنَّ الثقافة التنظيمية في الشركات الناشئة تُبدي تحفُّظاً إزاء هذا الموضوع، إلا أنَّه يمكِن أن تترتب على ذلك نتائج مدمرة، ويجب تغييره.

لماذا يُعَدُّ رواد الأعمال أشخاصاً سريعي التأثر؟

طريقة تفكير رائد الأعمال مكان مثالي لترسيخ مشاعر الاكتئاب والقلق، فطبيعة عملنا مرهقة جداً، والمفهوم الشائع لرائد الأعمال هو أنَّه شخص يعاني من الحرمان الدائم من النوم والشعور الدائم بالإنهاك والجلوس الدائم وراء شاشة الكمبيوتر مع مكتب مليء بأكواب القهوة وأغلفة الوجبات السريعة، وغالباً ما يتجاهل صحته النفسية، وذلك إذا افترضنا توفُّر بعض الموارد، مثل التأمين الصحي لطلب المساعدة، الأمر الذي لا يمتلكه معظمنا.

ولا ننسى أمر العزلة؛ حيث يمكِن أن يكون بناء شركة ناشئة عملاً يدفعك للشعور بالوحدة، لا سيَّما عندما تشعر أنَّ كل لحظة لا تقضيها في تحقيق هدفك هي لحظة ضائعة من عمرك، ممَّا يتيح وقتاً بسيطاً للحفاظ على علاقات تواصل صحية وسليمة مع العائلة والأصدقاء، كما تفسح العزلة الشديدة المجال أيضاً لما تسميه "ميجان برونو" (Megan Bruneau) مضيفة التدوين الصوتي: "عامل الفشل" (The Failure Factor)، بـ "إدارة الانطباعات"؛ أي إنَّنا يجب أن نبدو وكأنَّنا في أفضل حال.

وكتبَت "ميغان": "يعتقد معظم رواد الأعمال أنَّه كي يعِدَّنا أصحاب المصلحة مؤهلين، يجب أن نبدو وكأنَّنا أشخاص معصومون عن الخطأ، وهو أمر مناقض تماماً للأفكار النمطية لشخص صحته النفسية معرَّضة للخطر". يؤدي هذا الأمر إلى الشعور الدائم بالخجل والانعزال عن الآخرين؛ ممَّا يسبب الاكتئاب، وعدم طلب المساعدة.

إقرأ أيضاً: 4 خطوات لمساعدة رواد الأعمال في التغلب على القلق

الخجل من الحديث عن الصحة النفسية:

على الرغم من الإحصاءات المخيفة حول انتشار معاناة الصحة النفسية في عالم الشركات الناشئة، إلا أنَّ الحديث عنها لا يزال ذا أثر سيء، وما يُعقِّد الأمر هو أنَّ معظم الاضطرابات مثل: القلق والاكتئاب لا تكون ظاهرةً جلياً دائماً للآخرين؛ لذلك من الصعب جداً معرفة متى يعاني الشخص من أمر ما.

يعاني أي شخص من سوء صحته النفسية، سواءً كان مديراً تنفيذياً أم موظفاً أم متدرباً، وبصفتنا قادةً، الأمر عائد لنا لبناء ثقافة تهتم بمناقشة أمور الصحة النفسية بانفتاح ودون خجل، ونحن نحتاج أيضاً إلى دعم كلماتنا بأفعالنا من خلال الحرص على تحقيق التوازن بين العمل والحياة للموظفين، على سبيل المثال: يجب ألا نتوقع رداً فورياً على رسالة بريد إلكتروني أُرسِلَت عند الساعة 2 صباحاً، ونشجِّع الموظفين بفاعلية على عدم استخدام هواتفهم خلال الإجازات وعطلات نهاية الأسبوع.

يُعَدُّ التوتر الهائل لتحقيق الأهداف بالنسبة إلى المؤسسين أمراً لا يمكِن تجنُّبه، كما تقول "جيس راتكليف" (Jess Ratcliffe)، كوتش التطوير الشخصي لمعظم الشركات الناشئة والعلامات التجارية، لمجلة "فوربس" (Forbes)؛ حيث جرت العادة أن يكون التركيز على النجاح قصير الأمد، ولكن لحسن الحظ، بدأ هذا الأمر يتغير.

تقول "راتكليف": "على مدى السنوات القليلة الماضية، لاحظتُ أنَّ المؤسسين أصبحوا يدركون بصورة متزايدة مدى أهمية صحتهم النفسية، حيث أرى المزيد من المؤسسين يعملون مع الكوتشز، وحتى يدعمون فرقهم ليتمكنوا من الحصول على الكوتشينغ. وهذا الأمر محمِّس جداً، وسيؤثر إيجاباً في المؤسس والفريق والمهمة التي يعملون عليها".

أخيراً، لن ننسى مسألة هوياتنا، فعندما تُكرس نفسك تماماً للقيام بأمر ما، فقد يصبح من المستحيل معرفة أين يبدأ وينتهي عملك، وتبدأ في الانفصال عن احتياجاتك الخاصة.

تقول "ميغان": "يُعَدُّ الفراغ الوجودي الذي يلوح في الأفق، وتقدير الذات المرتبط بنجاح الشركة، مَظهرَين من مظاهر الكمال اللذين يسببان القلق والانفعالات العاطفية؛ حيث يعتمد ذلك على توقعات الشركة المتغيرة باستمرار".

وعندما ترتبط قيمتك الشخصية بأمر لا يمكِن التنبؤ به مثل شركة ناشئة، فماذا تتوقع أن يحدث عندما تفشل؟

إقرأ أيضاً: عادات يوميّة تؤدي لتدمير الصحة النفسيّة للإنسان

معرفة متى تحصل على المساعدة:

كتبَت الكاتبة "سوزان مولفيهيل" (Suzanne Mulvehill) في كتابها: "من موظف إلى رائد الأعمال" (Employee to Entrepreneur): إنَّ تهيئة العقل والجسد والروح لريادة الأعمال يشبه تهيئتهم لألعاب الأولمبياد".

يُعَدُّ الحصول على قسط كافٍ من النوم وتناول الطعام الصحي وممارسة الرياضة بانتظام ممارسات جيدة للعناية بصحتك، كما يمكِنك التأكد من مشاعرك فهي فكرة جيدة. كتب "جون ديشوتسكي" (Jon Dishotsky)، المدير التنفيذي والشريك المؤسس لمجمع "ستار سيتي" الترفيهي (Starcity)، في مجلة "فاست كومباني" (Fast Company): لن تهوي إلى الحضيض دفعة واحدة دائماً، بل ستغرق فيه ببطء شديد".

ربما ينتابك شعور عام بعدم الارتياح، أو أنَّك لستَ بخير، وربما تشعر بالتعب أكثر من المعتاد، لكنَّك لست متأكداً من سبب شعورك بذلك، فربما توجد المزيد من الأعراض الجسدية الشديدة، مثل ضيق في صدرك أو وجع في المعدة، ويمكِن لجسدك أن يخبرك بذلك عندما تشعر بالتعب، حتى قبل أن يكتشف عقلك الواعي هذا الأمر.

توافق "راتكليف" على هذا الأمر؛ حيث تؤكد أنَّه يجب على المؤسسين البحث عن الإشارات التحذيرية، مثل الشعور بالضعف بسبب الشك الذاتي، أو الخروج عن المسار الصحيح بسبب القصص التي تنسجها أفكارك؛ حيث تقول: "من أقوى الأمور هو العمل مسبقاً على صحتك النفسية، بدلاً من انتظار الوقت الذي تشعر فيه أنَّك بحاجة إلى المساعدة".

لحسن الحظ، يوجد الكثير من وسائل المساعدة حولك، حيث يمكِنك التواصل مع صديق أو زميل تثق به، أو البحث عن شبكة دعم عبر الإنترنت.

كما ينبغي على رواد الأعمال أن يكونوا صادقين بشأن مسيرتهم، وأن يتقبلوا عيوبهم كما هي؛ فإذا واجهتَ صعوبةً في عملك قبل أن تُحقِّق نجاحاً كبيراً، فلا تخلق انطباعاً خاطئاً بأنَّ نجاحك حدث بسرعة أو بسهولة.

يُعَدُّ بناء شركة أمراً صعباً من الناحية النفسية والجسدية والعاطفية، ويوجد الكثير من الخطوات التي يمكِننا اتخاذها يومياً لمساعدة أنفسنا على البقاء على قيد الحياة في ظل الظروف الصعبة، لكنَّنا نحتاج أيضاً إلى الاهتمام ببعضنا بعضاً، فمن خلال الاعتراف بالصعوبات التي نواجهها وتلقِّي الدعم، يمكِننا أن نجعل عالم الشركات الناشئة مكاناً أقل عداوةً للجميع.

 

المصدر




مقالات مرتبطة