الذكاء العاطفي ودوره في إدارة الذات

تذخر حياتنا بعدة نماذج من الأشخاص الذين نتعامل معهم خلال حياتنا اليومية، منهم مَن سكونون ناجحون في عملهم ومُتقنون له ويحققون أعظم الإنجازات، وآخرون ممَّن نعرفهم يهيمون على وجوههم في هذه الحياة دون أن يكون لهم أي هدف يسعون إليه.



إنَّ الفارق الجوهري بين النموذجين السابقين يكمن في عبارة صغيرة وهي إدارة الذات، والتي تشكل واحداً من أهم أسباب النجاح في هذه الحياة؛ فالأشخاص الذين لا يحسنون إدارة ذواتهم بطريقة ناجحة تساعدهم على تجاوز عقبات الحياة ستكون لديهم مشكلات عديدة، ومن أهم المشكلات التي يمكن أن تعترض مثل أولئك الناس هي:

  1. عدم التنظيم الحياة اليومية وضياع الأهداف.
  2. مشكلات في التواصل مع الآخرين.
  3. عدم القدرة على تقبُّل متغيرات الحياة.
  4. ضياع المشاعر بين سلطة العقل وسلطة العواطف.

لو تأمَّلنا قليلاً في المشكلات السابقة، لوجدنا أنَّها هي جوهر الحياة الأساسي لكل فرد فينا؛ فكيف يمكن لأي أحد منا أن يعيش دون هدف ودون تقبُّل تغييرات الحياة المتسارعة التي تفرضها علينا كأفراد، والتي تتطلَّب منا أن نكون متوازنين في استخدام العقل والعاطفة في أثناء اتِّخاذ القرارات اليومية وفي التواصل والتعامل مع الآخرين.

هنا يظهر السؤال الأهم: كيف نتعلَّم مهارة إدارة الذات؟

لقد كان الإنسان منذ زمنٍ قديم بكل ما فيه من سلوكات وأفكار وعواطف محور الدراسات لاكتشاف خبايا النفس الإنسانية من أجل توجيهها واستثمارها بطريقة صحيحة تعود بالنفع عليه وعلى محيطه الذي يعيش فيه؛ ولذا فقد اهتمَّ علماء النفس وعلماء الاجتماع وأهل التخصُّص بدراسة السلوك الإنساني بكل تفاصيله الدقيقة لاستخراج أفضل ما يمكن من هذا الإنسان، ولعلَّ أهم الدراسات التي توصَّل إليها العلماء والباحثون في موضوع إدارة الذات هي ربط هذه المهارة بمهارات الذكاء العاطفي واكتساب تلك المهارات وتسخيرها في سبيل تعزيز مهارات المرء في إدارة ذاته.

قبل التعمُّق في موضوع إدارة الذات وكيفية تعلُّم هذه المهارة بالاستناد إلى مهارات الذكاء العاطفي، لا بدَّ لنا من توضيح بعض المفاهيم، وهي:

الذكاء العاطفي:

يُعَدُّ الذكاء العاطفي واحداً من المفاهيم العصرية الجديدة التي تدرس الحالة العاطفية للإنسان، وكذلك يدرس قدرة المرء على التعرُّف إلى عواطفه وكيفية استخدامها بطريقة إيجابية في التعامل مع الآخرين وفي تحفيز الذات نحو بلوغ الهدف، وتمتد مهارات الذكاء العاطفي أيضاً إلى فهم مشاعر الآخرين ومعرفة أسباب سلوكاتهم من خلال وضع المرء لنفسه في مكان الآخرين والشعور بما يشعره الآخرون.

أهمية الذكاء العاطفي في حياة الإنسان اليومية:

تناول الباحثون وعلماء النفس والاجتماع مفهوم الذكاء العاطفي ومهاراته، وأثَّرت تلك المهارات في حياتنا اليومية، إلَّا أنَّ دانييل غولمان يُعَدُّ أول من استطاع توظيف مهارات الذكاء العاطفي بشكل صحيح، وأسقطها على الحياة اليومية للإنسان، كيف لا ويؤدي الذكاء العاطفي دوراً رئيساً وفعالاً في اتِّخاذ الإنسان لقراراته، كما أنَّ له صلة مباشرة ووثيقة بصحته الجسدية، وخاصةً أنَّ معظمنا يعلم مقدار الصلة بين الأفكار بنوعيها السلبية والإيجابية والصحة الجسدية، إضافةً إلى أهمية مهارات الذكاء العاطفي وتوظيفها في التواصل الفعَّال مع الآخرين، وكذلك في تحفيز الذات ووضع الأهداف.

إنَّ كل ما سبق ذكره هو ليس مجرد سرد تتطلَّع إليه؛ إذ له غاية أساسية لتتعرَّف إلى كيفية الاستفادة من مهارات الذكاء العاطفي وتوظيفها في إدارة الذات من أجل تحقيق أفضل النتائج؛ ولذلك نقدِّم من خلال هذا المقال وصفة سحرية تتألف من مجموعة خطوات، ما إن يفهمها المرء ويبدأ تطبيقها؛ حتى يرى أثر إدارة ذاته بشكلٍ حقيقيٍ وفعَّال.

شاهد بالفديو: 6 عادات يومية لتنمية الذكاء العاطفي

خطوات إدارة الذات:

1. تحديد عواطفك بدقَّة:

كثيرة هي المواقف التي تعترضنا خلال حياتنا اليومية، والتي نضطرُّ فيها إلى المفاضلة بين نداء المشاعر ونداء المنطق العقلي، وقد يتغلَّب أحدها على الآخر ونتَّخذ القرار بناءً على اختيار الطرف المُفضَّل لنا بصرف النظر عن مدى صواب الاختيار أو خطئه، في حين أنَّ مهارات الذكاء العاطفي تساعدنا على تحديد العواطف تماماً والفصل بينها، وكذلك الفصل بين نداء العواطف ونداء المنطق العقلي وهنا يكمن جوهر إدارة الذات؛ إذ إنَّ مهارات الذكاء العاطفي تعزز لدى الفرد نوعاً من التوازن الداخلي الذي يمكِّنه من اتِّخاذ قراراته الصحيحة بعيداً عن تأثير العواطف، ودون أن يكون راضخاً إلى نداء العقل فقط، فلا يقع أسيراً لأحد تلك النداءات؛ بل يقودها بدلاً من أن تقوده ويعرف كيف يتحكم بها ويديرها بشكل صحيح وفعَّال.

يمكننا القول إنَّ المرء بهذه الطريقة يمتلك حريته في إدارة ذاته، وتكون جلُّ قراراته وأفعاله متوازنة تجمع بين العقل والمنطق، وإنَّ مثل هذا النموذج من الأناس هم الأقدر والأنجح في إدارة ذواتهم بأعلى درجات الكفاءة.

2. تخصيص وقت لمراجعة مشكلاتك:

إنَّ أول خطوات إدارة أيَّة مشكلة يمكن أن يمر بها الإنسان تكون من خلال الاطلاع على أسباب تلك المشكلة والتعرُّف إليها لكي يتمكَّن المرء من تحديد الحلول التي سيستخدمها، وفي المقابل فإنَّ إدارة الذات بشكل صحيح تتطلَّب من المرء الوقوف عند أهم المشكلات التي تعوقه عن إدارة ذاته بشكل صحيح، وهذا ما تعمل عليه مهارات الذكاء العاطفي بأن تجعل المرء قادراً على تحديد مشكلاته من خلال التعرُّف إلى مشاعره ومشاعر الآخرين، والفصل بين تلك العواطف وتوظيفها بشكل صحيح، وخاصة أنَّه يمر خلال يومه بعديد من الحالات الشعورية التي يمكن أن تؤدي إلى اتِّخاذ بعض القرارات الخاطئة.

لتجنُّب ذلك وتحقيقاً لإدارة ذاتٍ قوية وفعَّالة، لا بدَّ للمرء من تعلُّم واكتساب مهارات الذكاء العاطفي التي تُمكِّنه من معرفة مشكلاته ومراجعتها من أجل دراستها، وتحديد الحلول التي يجب استخدامها لتجنُّب أي خطأ في القرارات التي يتَّخذها، ومن ثم فإنَّ هذه الطريقة هي التي تجعل المرء أقرب إلى الصواب عند اتِّخاذ أي قرار من قرارات حياته، وبهذه الطريقة يُحقِّق المرء أعلى درجات الكفاءة والجودة في إدارة الذات.

إقرأ أيضاً: 6 خطوات تُسهّل عليك حل مشكلاتك

3. التزام الصبر:

يقول تولستوي في العمل الكلاسيكي الرائع "الحرب والسلام": "إنَّ أقوى محاربَين هما الوقت والصبر"، ولو تأمَّلنا قليلاً في هذه العبارة، لوجدنا أنَّها تحتوي على عنصرين هامين من عناصر الذكاء العاطفي، فكيف لمرءٍ أن يفهم مشاعره ويتعرَّف إليها ويحددها ما لم يكُن صبوراً مع نفسه؟ وكيف لمرءٍ أن يفهم مشاعر الآخرين ودوافع سلوكاتهم ما لم يكُن صابراً ويعطي الوقت الكافي لفهم تلك المشاعر وتحليل تلك السلوكات؟

إنَّ ميزة الصبر تزوِّد المرء بميِّزة إدارة الوقت، فهُما متلازمتان تماماً، إضافة إلى أنَّ الصبر وإدارة الوقت بشكل صحيح هي عوامل تمنح الإنسان المدة اللازمة لفهم الحالات التي تعترض سبيله خلال تجارب الحياة اليومية، وهنا لب إدارة الذات، فكم من قرارٍ خاطئ وكم من فرصة ضاعت فقط لعدم التزام الصبر ولعدم حسن استخدام الوقت؟

إنَّ إدارة الوقت بشكلٍ فعَّال والتزام الصبر معها هي أمور تساعد المرء بشكل فعَّال ورئيس على إدارة الذات، لما لها من علاقة مباشرة بمهارات الذكاء العاطفي من حيث تفهُّم الإنسان لعواطفه وعواطف الآخرين.

4. جعل التركيز منصباً على الفرص لا القيود:

لم تكُن الحياة سهلة في يوم من الأيام، فهي لا تعطي المرء فرصاً مجانية؛ بل تكون فرصها قليلة أيضاً في غالب الأوقات، وهي زاخرة بالمُتغيرات القاسية أحياناً دون أن تكون للمرء أيَّة قدرة أو يد في معالجة تلك الصعوبات التي تعترضه، فأين الحل إذاً؟

هل الاستسلام والحسرة وإطلاق الآهات حل؟ أم أنَّ كل الحلول لكل المشكلات تكمن في المواجهة؟ إنَّ إدارة الذات بشكل صحيح وفعَّال تتطلَّب من المرء أن يواجه مشكلات الحياة ومتغيراتها، وقد ينجح المرء أحياناً وقد يفشل في أحيان أخرى، وهنا يأتي دور مهارات الذكاء العاطفي في تمكينه من إدارة ذاته بفاعلية وجودة عالية؛ وذلك من خلال تزويده بالمحفزات الداخلية التي تجعله متأهباً إلى اقتناص الفرص المُتاحة واستغلالها، فيكون المرء بذلك مثل ذاك الذئب الذي لا يمل من انتظار فرصته، ويواجه كل المعوقات لكي يحصل على ما يريد ويحقق هدفه.

توجد العديد المواقف التي لا نستطيع أن نفعل فيها شيئاً، وهذا لا يعني أنَّه قد حان وقت رفع الراية البيضاء؛ بل عليك في هذه اللحظة تحديداً أن تُراجع الطريقة التي تتعامل بها مع الموضوع لا أن تركِّز في الموقف بقيوده؛ الأمر الذي يؤدي إلى طفو المشاعر السلبية وفقدان الطاقة ومن ثم ضياع القدرة على إدارة الذات بشكل صحيح.

شاهد بالفديو: تعلم كيف تغتنم الفرص بـ 10 خطوات

5. وضع أهدافك وتحفيز ذاتك:

لكي يحقق المرء أعلى درجات الكفاءة في إدارة الذات لا بدَّ له من أن يضع لنفسه أهدافاً يسير عليها، ومحطة يريد الوصول إليها مهما بلغت الصعاب، وإنَّ تنفيذ هذا الأمر يتطلَّب منه أن يستخدم مهارات الذكاء العاطفي التي تساعده بشكل فعَّال على إدارة ذاته، فيضع الأهداف لنفسه ويخطط لتلك الأهداف ويمشي وفق خطته؛ بل يجعل منها محفزاً له يقوده حتى يصل إلى المكان الذي يريد.

إنَّ استخدام مهارات الذكاء العاطفي يمد الإنسان بشحنات التفاؤل التي تُنير دربه في الصعاب وتسهِّل عليه طريقه نحو ما يريد، فلا يتأثر في المؤثرات الخارجية "الزوجة - الشهرة - المال"؛ بل يبقى حافزه شغفه وإيمانه بجدوى ما يقوم به من أفعال وتصرفات تقرِّبه إلى الهدف المُراد.

إقرأ أيضاً: شرح نظريات الذكاء العاطفي

6. تقبُّل تغييرات الحياة:

على المرء أن يدرك يقيناً أنَّه لم يُولَد ولديه العلم بالمستقبل يتحكَّم به كما يشاء؛ بل الحياة من لحظة ولادته إلى حين وفاته ما هي إلَّا متغيرات يجب على كل مرء أن يسلكها، والسبيل الوحيدة لمواجهة متغيرات الحياة هو ضبط المرء لمنظوره قبل مواجهة تلك المتغيرات، وهنا يأتي دور مهارات الذكاء العاطفي في تحقيق إدارة ذاتٍ ناجحة؛ إذ إنَّ مهارات الذكاء العاطفي تزوِّد المرء بطرائق وأساليب تقبُّل الآخرين، وتقبُّل المحيط الذي يعيش فيه الفرد بكل ما فيه من متغيرات وظروف طارئة وصعوبات.

نستنتج مما سبق أنَّ حسن إدارة الذات يستند بشكل فعَّال إلى كيفية النظر إلى المتغيرات، وهذه النظرة مُرتبطة بشكل وثيق بمدى فهم العواطف والسيطرة عليها وحسن إدارتها، وكل ما سبق يساعد المرء على تقبُّل تغييرات الحياة والتعامل معها.

إقرأ أيضاً: 4 نصائح للتعامل مع التغييرات الكبيرة في الحياة بطريقة إيجابية

في الختام، خذ قرارك الآن:

عليك أن تدرك أنَّ المسؤولية الأولى والأخيرة في إدارة الذات بشكل فعَّال وبكفاءة عالية تقع على المرء وحده وبنسبة 100%؛ لذا عليه أن يجد الطرائق المناسبة من أجل تحقيق هذا الأمر، وتُعَدُّ مهارات الذكاء العاطفي واحدة من أهم الطرائق التي تجعل المرء قادراً على إدارة ذاته بشكل فعَّال ومؤثر، ومن ثم تحقيق الفوائد الكبيرة لنفسه ولمحيطه الذي يعيش فيه.

يجب على أي فرد فينا أن يدرك يقيناً أنَّ إدارة الذات لا تعني فقط مواجهة المشكلات الحياتية؛ بل هي حسن التعامل مع المشكلات أيضاً لتحقيق أفضل النتائج، ولن يكون هذا الأمر متاحاً ما لم يستخدم المرء مهارات الذكاء العاطفي من خلال النقاط الآتية:

  1. تحديد العواطف.
  2. مراجعة المشكلات.
  3. التزام الصبر.
  4. التركيز في الفرص لا في القيود.
  5. تحفيز الذات.
  6. تقبُّل تغييرات الحياة.

القرار الآن لك فإمَّا أن تمتلك ذاتك لتقودها نحو النجاح وتحقيق الإنجازات، أو أن تأسرك ذاتك لتقودك نحو الفوضى والتشتت الفكري والعملي، فلا تحقق أي هدف ولا ترى أمامك سوى المعوقات والقيود التي تظن أنَّ الحياة تفرضها عليك.




مقالات مرتبطة