الجهاز المناعي السلوكي: كيف يحمينا؟ وما ثمن الحماية هذه؟

لم تُعانِ أيَّة من حواسنا بسبب جائحة "كورونا" (COVID-19) كحاسة اللمس، وعلى الرغم من أنَّ هذا الحرمان اللمسي ربما كان بارزاً أكثر فيما يتعلق بانفصالنا عن العائلة والأصدقاء، فقد شعر العديد منا أيضاً بفقدان الأشكالِ الاعتيادية من اللمس؛ وهي أشكال ربما تكون الأساس في العلاقات الاجتماعية على نطاقٍ أوسع.



لقد اعتدنا على فتح الأبواب إلى أماكن عملنا وإبقائها مفتوحة للآخرين دون أي تردُّدٍ؛ إذ تلمسنا 100 يد أخرى يومياً، واعتدنا على مصافحة الغرباء قبل أن تتسنى لنا معرفتهم، كما اعتدنا على تمرير الأغراض اليومية فيما بيننا من خلال أيدينا، ولكن ليس بعد الآن.

وحتى مع بداية التخفيف لعمليات الإغلاق والحظر، فقد نظلُّ نلوِّح بأيدينا عوضاً عن العناق ونُطهِّر أيدينا بهوسٍ شديد، ويبقى اللمس من المحظورات؛ فهو يقربنا من خطورة مرض شديد أو من الموت.

وبما أنَّ العديد منا قد فقدوا تواصلهم حرفياً مع أحبائهم وأصدقائهم وتوقفوا عن لمس الغرباء، فقد عانينا من تجربة اجتماعية غير مخطط لها من النفور اللمسي وتوق "لمس الجلد" (skin hunger).

لقد شعر بعضنا بارتياح كبير لعدم الاضطرار إلى مصافحة الزملاء والمعارف والغرباء، وبالنسبة إلى العديد من الأشخاص؛ كان الخوف من العدوى وتجربة النفور اللمسي شيئاً جديداً، ومن المحتمل استمرارها إلى ما بعد الجائحة، فهل يمكن أن تفسد هذه التجربة علاقاتنا الاجتماعية، حتى بعد تلاشي التهديد الخطير لفيروس كورونا؟

يوجد - بعد كل ذلك - تاريخ طويل من التعصب المرتبط باللمس، بدءاً بالاشمئزاز، ووصولاً إلى سياسة العنصرية.

لقد ناقشت الفيلسوفة "مارثا نوسباوم" (Martha Nussbaum) أنَّ الاشمئزاز مرتبطٌ بالميل البشري إلى إنكار ورفض حقيقتنا ككائناتٍ دنيوية فانية، وفي كتابها "مملكة الموت" (The Monarchy of Fear) دوَّنَت أنَّ الاشمئزاز "يُحَرَّضُ ويُثار بواسطة القلق الشديد من السمات الحيوانية للبشر والفناء لذلك، بالمميِّزات الجسدية - حقيقية كانت أم افتراضية - وهذا ينتج علاقة وثيقة مع قلقنا بخصوص الفناء والجسد الشهواني الهش.

عملياً، الاشمئزاز هو نفور من التلامس؛ سببُه الخوف من التلوث. أيدينا وأفواهنا هي أعضاء الجسم التي يقع عليها العبء، والتي قد تحمينا، أو تودي بنا إلى التهلكة.

قد يسبب الخوف الحقيقي من التلوث تصرفات اجتماعية أكثر عنصريةً، فعلى مر التاريخ، استغلَّت المجموعات الاجتماعية المُسيطرة الشعور بالاشمئزاز هذا كطريقة للتحكم الاجتماعي ضد الأشخاص "الخطرين"، إذ تعتمد الممارسات الاجتماعية كالفصل والتمييز العنصري والعرقية على الاستفادة من هذا الشعور.

تاريخياً، استعملت الجماعات الحاكمة الخوف الافتراضي من التدنيس لتعكسَ الاشمئزاز؛ وذلك للحفاظ على تدابير جائرة تجاه مجموعات معينة، وهذا هو الحال أيضاً؛ إذ إنَّ الخوف الحقيقي من التدنيس قد يسبب زيادة السلوكات الاجتماعية العنصرية، وتوجد آليات بيولوجية ونفسية أيضاً تشرح جزئياً نشوء تصرفات كهذه.

يثير التعرُّض لأي من المُمْرِضات جهازَنا المناعي، والذي سيحاول بناء دفاع، ولكن بحلول الوقت الذي نتعرَّض فيه لجرثومةٍ ما، فقد نكون متأخرين جداً؛ وكنتيجةٍ لذلك، فقد طوَّر البشر ما سماه الطبيب النفسي "مارك شولر" (Mark Schaller) "جهازاً مناعياً سلوكياً": مجموعة تفاعلات تنجم عن إدراكنا لوجود مُمْرِضات مُعدِية في البيئة حولنا، عوضاً عن التعرُّض المباشر، ويحشدُ الجهاز المناعي السلوكي ردات فعل إدراكية وعاطفية كالخوف والقلق والاشمئزاز؛ وذلك لتجنُّب المُمْرِضات.

بالنَّظر إلى المخاطر المرتبطة بفيروس كورونا، فقد تضاعفت سرعة جهازنا المناعي السلوكي بطريقة مبررة، وفي سياق الجائحة قد تكون للحساسية المتزايدة تجاه الاشمئزاز فوائد وظيفية عدَّة كتشجيع نظافة الأيدي.

يمكن أن يُستَثمَر الجهاز المناعي السلوكي لأهداف مختلفة، وحالما يُثار يمكن أن يمتدَّ إلى مجالات جديدة أبعد مما يُفتَرض به حمايتنا؛ إذ أظهرت دراسة أنَّ الأشخاص الأوائل الذين لديهم معلومات متعلِّقة بالأمراض، تحرَّكوا بطرائق أكثر تجنباً اجتماعياً.

وقد وُثِّقَت هذه التأثيرات خلال جائحة كورونا؛ وكما هو مُتوَقَّع كان الأشخاص المصابون بحساسيةٍ مَرَضيَّة أكثر احتمالاً للانخراط في سلوكات صحية وقائية؛ كالتباعد الاجتماعي وغسل الأيدي والتنظيف والتطهير، ولكن في الوقت نفسه، أظهرت دراسة أُجريَت في الولايات المتحدة الأمريكية أنَّ الأشخاص القلقين خصوصاً من الإصابة بالمرض أبدَوا كرهاً أكبر للغرباء.

ماذا لو تمت السيطرة على خطر فيروس كورونا، ثم رفض الأشخاص العودة إلى عاداتهم المرتبطة باللمس في عالمنا قبل الجائحة؟ يبدو أنَّ خطر السلوكات القائمة على التفريق - سواءً كان حقيقياً أم مُتَخيَّلاً - راسخٌ؛ وهذا يدل على أنَّ الطريقة التي نتلامس ونترابط بها فيما بيننا هي في الوقت نفسه سبب ونتيجة للسياق الاجتماعي والسياسي الذي تحدث به.

وتساعدنا أيضاً تلك العلاقة الحيوية الاجتماعية بين اللمس والاشمئزاز على فَهم تاريخ السبب وراء نشر الجماعات المسيطِرة - في كثير من الأحيان - الخوفَ من التدنيس لتهميش وقمع الناس.

تاريخياً، استعملت الجماعات الحاكمة الخوف الافتراضي من التدنيس لتعكسَ الاشمئزاز؛ وذلك للحفاظ على تدابير جائرة تجاه مجموعات معيَّنة، ومع الوقت نجد خوفاً تجاه أنماط التفاعلات البشرية الأساسية نفسها: كملامسة أشياء الآخرين نفسها، واستنشاق الهواء ذاته؛ فهذه هي أصناف النشاطات البشرية اليومية التي أزالتها جائحة كورونا من حياتنا فجأةً.

بالنسبة إلى أُناسٍ وحيدين كُثُرٍ حول العالم، سواءً يعيشون في مُدن كبيرة أم لا، تلك اللمسات اليومية المُعتادة هي غالباً اللطف الوحيد الذي ينالونه، وبينما يكون من المنطقي التباعد الاجتماعي وتجنُّبُ التواصل خلال جائحة ما، فإنَّ عاداتٍ كهذه قد تسبِّب آثاراً جانبية غير مقصودةٍ إن استمرت بعد القضاء على مخاطرها الحقيقية على الصحة.

لذا يوجد تحدٍّ إضافي علينا مواجهته في عالمنا ما بعد الجائحة: ماذا لو تمت السيطرة على خطر العدوى بفيروس كورونا ولكن رفض عدد كبير من الناس العودة إلى عاداتهم المرتبطة باللمس في الحياة ما قبل الجائحة؟ يذكر العديدُ تكرارَ القلق خوفاً من استئناف طرائق الحياة قبل الجائحة، مع وجود خطر للأشخاص المُقرَّبين.

إقرأ أيضاً: 5 أسباب تستدعي زيارة الطبيب النفسي

تُناقَشُ الآن متلازمة قلق الكورونا في الطب النفسي، والتي تتميز بعاداتٍ صحيةٍ قهرية وخوف من الأماكن العامة. وفي الحالات الأقل حدة، لا يتطلَّع العديدُ منا إلى معاودة المصافحة بالأيدي أو تنفُّس هواء الآخرين في القطارات أو الحافلات المزدحمة.

وفقاً لاستطلاع أُجرِيَ في شهر شباط/ فبراير من عام 2021، صرَّح واحدٌ من كل أربعة من البريطانيين أنَّهم لا يتطلَّعون إلى تحية بعضهم من خلال المصافحة أو العناق أو القُبَل. وفي استطلاعٍ مختلف أُجريَ في شهر تموز/ يوليو من عام 2021، أعلن 40% عن تجنُّب لمس الأشياء في الأماكن العامة بسبب خوفهم من الفيروس.

وفي عالمٍ نكون فيه أقل استعداداً إلى ملامسة الآخرين، هل سنصبح وببطء أكثر كرهاً للغرباء ومفرِّقين ومتعصِّبين، على الرغم من نوايانا الحسنة؟ الملامسة المتبادلة دافع حيوي نتشاركه مع العديد من الحيوانات الأخرى؛ وهي أيضاً الطريقة الأكثر أساسية للتواصل والشعور بفرح الآخرين وحزنِهم ومخاوفِهم ورغباتِهم.

وبسهولة، فإنَّ عدمَ ملامستنا لبعضنا يُفقِدنا التلامس مع أنفسنا؛ إذ ينبغي أن يجعلنا إدراكنا للطرائق المُتقَنة التي من خلالها يُستَمدُّ النفورُ اللمسيُّ والاشمئزاز والتفرقة القوة من بعضهم، نضاعف جهودنا للتواصل وملامسة الآخرين والسماح لهم بذلك أيضاً.

المصدر




مقالات مرتبطة