التربية الحديثة: ضرورة أم بريستيج؟

شاع في الآونة الأخيرة استخدام مصطلح "التربية الحديثة"، وأدَّت منصات التواصل الاجتماعي دوراً هاماً في انتشاره، فكثرت الحسابات التي تخصصت في هذا المجال، وبدأت تعرض يومياتها في سبيل تقديم أمثلة عملية عن هذا النوع من التربية. ثم ظهر المتخصصون التربويون الذين يقدمون الاستشارات المأجورة للمربين الذين يواجهون صعوباتٍ في تطبيق التربية الحديثة. أمَّا المتخصصون النفسيون والسلوكيون، فراحوا يُفنِّدون تصرفات البشر البالغين، ويردُّون عقدهم النفسية ومخاوفهم ونقاط قوَّتهم وضعفهم إلى سن الطفولة.



وهكذا أصبحت التربية سلوكاً موضوعاً تحت المجهر، تُسهم كل الاختصاصات البشرية في تعزيز أهميتها، والترويج لها، حتى لاقت الاقتناع والقبول من قبل المتلقين، وأصبح البشر يرجعون إلى جذورهم في الطفولة وذكرياتهم مع والديهم والمواقف التي مروا بها، ليعزوا أسباب نجاحهم، أو يرموا أعباء فشلهم واضطراباتهم. بعد ذلك، جاء مصطلح "التربية الحديثة"، الذي انقسم الناس في ترديده ما بين ساخرٍ وداعم؛ لذا، وبناءً على كل ما تَقدَّم، قررنا في هذا المقال أن نناقش الآتي:

مفهوم التربية:

تُعرف عملية التربية على أنَّها مجموعة العمليات والتوجيهات والتصرفات التي يقوم بها المربِّي من أجل تنشئة فرد قادر على التكيُّف مع البيئة التي وُلِد فيها، والحياة ضمنها بشكل مستقل.

لا تقتصر عملية التربية على تقديم الاحتياجات الجسدية للأطفال، بل تتعداها لتصل إلى الاحتياجات الحركية والنفسية والعاطفية؛ إذ منذ ولادة الطفل، يتحرك الأهل - بفعل غريزتهم - نحو تقديم الطعام والدفء والأمان له، وحمايته من الأخطار المحتملة من عوامل جوية وطبيعية.

ثم بمرور الأشهر، يحتاج الطفل إلى اكتساب اللغة التي يتخاطب بها أبناء مجتمعه، ومن ثم يتدرج في تعلُّم المشي والحركة، وتعلُّم قضاء احتياجاته الشخصية، كدخول الحمام والتنظيف وغيرها، وهذه المراحل تميل نحوها الفطرة الإنسانية ميلاً طبيعياً، فالإنسان بطبعه كائن مستقل يميل إلى خدمة نفسه بنفسه.

أمَّا بالنسبة إلى التنشئة العاطفية والنفسية، فيكتسبها الإنسان من مربِّيه وبيئته، فيتعلم قيم التعاطف والاحترام، وأساليب التعامل مع الآخرين بطريقة الاكتساب، فهو كائن اجتماعي بطبعه، يميل إلى الانسجام مع الآخرين، ويقلد ما يراه، ويحاكي بتصرفاته تصرفات مجتمعه ومحيطه، فيتبنَّى أفكارهم ومعتقداتهم، ويرث عنهم تقاليدهم وأفعالهم.

وبفضل حساسية الإنسان تجاه المؤثرات التي تحيط به، تسهم مجموعة عوامل في تشكيل شخصيته، منها الاختلاف الفطري في الطبع، وهذا يفسر الاختلاف في شخصيات الإخوة على الرغم من اشتراكهم بالأب والأم والمنشأ نفسه، والاختلاف في البيئة المناخية والتي تفسر بعض الطباع، كالقساوة والصرامة التي نجدها لدى البشر الذين يسكنون المناطق الوعرة أو الحارة مثلاً، وغير ذلك من العوامل التي ينتج عنها عدد لا نهائي من الصفات البشرية وردود الأفعال.

ثم بعد التنظيم الذي شهدته التجمعات البشرية، أُضيفت إلى مهمة التربية عملية تشذيب السلوك الإنساني الفطري وتهذيبه، وتعليمه الانضباط والالتزام بالقوانين التي تفرضها الدول والمنشآت التابعة لها؛ حيث إنَّ للمدرسة آداباً يجب مراعاتها، وكذلك لوسائل النقل والمرافق العامة؛ لذا يجب على المربِّي اختيار الأسلوب الذي سيخاطب به طفله، ليضمن استجابته والتزامه احترام الضوابط وحريات الآخرين.

إقرأ أيضاً: التربية تحت مجهر علم النفس الحديث

التربية التقليدية من حيث الأسلوب والنتائج:

كانت الاستجابة التربوية الأولى تجاه تنشئة أفراد يحترمون القوانين، هي تربية أطفال مطواعين، ينفذون كل المهام الموكلة إليهم من المربِّي، من دون أن تكون لديهم حرية الاختيار أو التعبير عن أنفسهم؛ إذ إنَّهم من منظور هذه الطريقة في التربية، يُعدُّون كائنات طفيلية مدللة، تفتقر إلى العقل والتفكير، ولا تملك منطق المحاكمة ولا تعرف كيفية الاختيار.

أمَّا المربِّي فهو الشخص الناضج الواعي الذي "يعرف مصلحتهم أكثر منهم"، فيختار عنهم ويختار لهم. وهكذا وبهذه الطريقة، نشأت لدينا أجيالٌ مُتحكَّم بها، أصبحت بدورها بعد سنوات أجيالاً متحكِّمة ومفرطة في التحكم، وتوالت هذه السلسلة من التسلط والفرض حتى أيامنا هذه.

اعتمدت التربية التقليدية أسلوب العقاب الصارم، تجاه الأطفال الذين يخطئون أو الذين لا يلتزمون بقوانين الكبار، وكانت العقوبات متمثلة في الضرب والإهانات الجسدية واللفظية، والحرمان من أبسط حقوقهم كالطعام والأمان. وبهذه الإجراءات نشأ لدينا جيل خائف وغير متوازن، يمارس مهامه خوفاً من العقاب فحسب.

أمَّا عن أساليب التشجيع في هذا الأسلوب التربوي، فكانت المكافأة المادية، والتي قضت على كل طموحات الطفل للتطور في عمله، فأصبح يدرس انتظاراً لهدية تفوقه، ويعمل انتظاراً لعلاوة من مديره، وفقد بهذا الاستمتاع بلذة النجاح، وركز كل حواسه تجاه المكاسب المادية من الفعل.

ثم أهملَت هذه التربية في ممارساتها الشعورَ الإنساني للأطفال، فالأهل لا يعبِّرون عن حبهم لأطفالهم، ولا يوجهون إليهم عبارات التشجيع خشية إفسادهم، بل كان بعضهم يتقصَّد في حديثه انتقاد أخطاء طفله بشكل لاذع، ظناً منه أنَّه سيحثه بذلك نحو أداء مهامه أداءً أفضل، متناسين الجروح النفسية، وزعزعة الثقة بالنفس، وفقدان احترام الذات التي يسببها هذا السلوك.

وخير مثال على ذلك، ما تردد في الآونة الأخيرة من حادثة الكاتب الأمريكي، الذي رفض تقديم المساعدة المادية لأمه على الرغم من امتلاكه ثروة طائلة، وذلك لأنَّها كانت دائماً تسخر من كتاباته في سن المراهقة.

مفهوم التربية الحديثة:

جاءت التربية الحديثة كنوع من الثورة على الاضطهاد الذي عانى منه الأطفال، ولاحت بوادرها حين بدأ الاعتراف بالقدرات الكامنة لدى الأطفال. ثم جاءت المواثيق الدولية ومعاهدات حقوق الإنسان وحقوق الطفل لتدعم وجودهم وكينونتهم.

وقد كان للدكتورة الإيطالية ماريا مونتيسوري أثر بالغ في إرساء دعائم التربية الحديثة، فتم الاعتراف بالطفل على أنَّه شخص كامل المشاعر ناقص التجارب، وبدأت السلوكات التي تعتمد على احترام مشاعر الأطفال، كاستئذانهم بلمس أجسادهم أو استخدام أغراضهم، وإعطائهم الحق في اختيار طعامهم ولباسهم، فضلاً عن احترام رغباتهم في الاستقلالية، وذلك عن طريق إفساح المجال لهم في المشاركة في أداء المهام التي تخصُّهم كارتداء ملابسهم وترتيب أدواتهم، أو التي تخصُّ محيطهم القريب كتحضير الطعام وترتيب المنزل.

ركزت التربية الحديثة على تعزيز مشاعر الثقة لدى الطفل بنفسه، وإشعاره بأنَّه كائن مهم له دوره وواجباته عن طريق امتداح سلوكه الإيجابي، وركزت على حقوقه في التجربة والخطأ والاستكشاف وعدَّتْها محاولات منه على التأقلم.

يُعدُّ أسلوبا الثواب والعقاب في التربية الحديثة الصحيحة أمرين مرفوضين، فالعقاب مثلاً لا يعني الحرمان من الحقوق أو الرفاهيات كما يُتداول أحياناً، ولا فرض وقت مستقطع يقضيه الطفل بمفرده "Time Out"، بل يكون نتيجة الفعل الخاطئ الذي قام به؛ فعلى سبيل المثال، عند قيام الطفل بتمزيق قصته، تكون عقوبته هي قصته الممزقة التي بين يديه، ليدرك عاقبة كل عمل يقوم به. أمَّا عن أسلوب الثواب، فيكون أيضاً نتيجة الفعل الذي قام به؛ فعند قيام الطفل بترتيب غرفته، ستكون جائزته هي نتيجة فعله، أي حصوله على غرفته نظيفة مرتبة يستطيع إيجاد أغراضه فيها بسهوله.

إقرأ أيضاً: 4 قواعد تُساعد في تربية الأطفال دون اللجوء إلى الضرب

أهمية التربية الحديثة:

تنبع أهمية التربية الحديثة من أهمية التربية بشكل عام، فالغرض منها كما ذكرنا آنفاً هو إنشاء فرد مستقل متوازن نفسياً. وتركز التربية الحديثة على تعليم الاستقلال للطفل منذ مراحله الأولى، كتعليمه تناول طعامه بنفسه، وارتداء ثيابه، وترتيب ألعابه، وغيرها من المهام التي تزداد أهمية وحجماً بتقدم الطفل في السن.

وتُشجِّع التربية الحديثة الطفل عن طريق الإثناء على عمله الجيد، ممَّا يدفعه إلى القيام بالمزيد من الأعمال المفيدة ومساعدة الآخرين، وبهذا يقوم الفرد بأداء مهامه حبَّاً بها، واعتياداً منه على تنفيذها، وتقديراً منه لأهمية العمل وليس خوفاً من عقاب أو طمعاً في ثواب.

وأمَّا عن التوازن النفسي، فيكون حصيلةً لاكتساب الطفل الذكاء العاطفي منذ صغره، والذي كان عن طريق تعريفه بكل نوع من أنواع المشاعر وآلية تفريغها بشكل صحيح، فلا يصبح موظفاً يفسد عمل زميله بسبب الغيرة، ولا يصبح زوجاً يضرب زوجته بسبب الضغط في العمل.

طرائق التربية الحديثة:

أمَّا عن الطرائق الحديثة في التربية، فنذكر هذه الخطوات:

  • احترام مشاعر الطفل، والإقرار بامتلاكه لها منذ اليوم الأول لولادته.
  • احترام جسد الطفل ومشاعره وتجنب ضربه وإهانته، وخاصة أمام الآخرين.
  • تعليم الطفل على حقوقه وواجباته وإيلاء الجانبين الأهمية نفسها.
  • وضع المربِّي نفسه مكان الطفل في أيِّ إجراء يتخذه بحقه؛ كأن يضع نفسه مكان الطفل الذي يُترك باكياً في غرفته المظلمة ليتعلَّم كيف ينام بمفرده.
  • احترام القدرات الكامنة في الطفل وميوله ومواهبه، وعدم استخدام الأطفال لتحقيق طموحات الأهل.
  • الاعتذار من الطفل في حال اقتُرِف خطأ بحقه، وشرح السبب دائماً وراء أي فعل يقوم به المربِّي.
  • احترام القدرات العقلية للطفل ومحاولة استغلالها في تعلُّم شيء نافع ومفيد، وعدم هدرها بالاستخدام المفرط للتكنولوجيا.
  • تعليم الطفل الحفاظ على خصوصية جسده واحترام ملكية أغراضه، وتعليمه أيضاً احترام ملكيات الآخرين.
  • تعليم الطفل التفكير الإيجابي عن طريق القدوة، فالطفل يقلد أهله حتى في ردود أفعالهم تجاه المواقف.
  • احترام اختلاف الطفل، وعدم مقارنته بالأطفال الآخرين من أيِّ ناحية.

شاهد بالفيديو: 15 نصيحة للآباء في تربية الأبناء

التربية الحديثة والطفل الكسول المدلل:

ينجم عن سوء استخدام التربية الحديثة أضراراً جسيمة، شأنها شأن أي منهج آخر في الحياة، فكما كان للتكنولوجيا والأجهزة الحديثة دور عظيم في التطور لدى بعض الأفراد، كانت وبسبب سوء استخدامها مصدراً لتدهور بعضهم الآخر.

والأمر نفسه بالنسبة إلى التربية الحديثة، فإذا ما ركز الأهل على منح أطفالهم الحقوق، ونسوا أمر تعليمهم أداء الواجبات، فسينشأ جيل اتكالي كسول لا يُقرُّ بواجباته. وبالعودة للأسس الصحيحة لمنهج التربية الحديثة، نجدها تصرُّ على استقلالية الطفل في أداء مسؤولياته الفردية متى استطاع ذلك، ثم مسؤولياته الاجتماعية، ابتداءً بالأسرة ثم المدرسة ثم المجتمع؛ إذاً، فالتربية الحديثة بريئة من تهمة إنشاء الجيل الاتكالي، أمَّا السبب الحقيقي لنشوء هذا الجيل فهو سوء فهْم المربِّين لها.

لقد تطوَّر المجتمع اليوم عمَّا كان عليه بالأمس، وكل تفاصيل الحياة قد تطورت، ابتداءً بالعلاقات، وآليات العمل، ووسائل الاتصال وغيرها؛ لذا كان من حق التربية أن تتطور لتواكب هذا الكمَّ الهائل من التقدم، والذي يفترض وجود أفراد أكثر ديناميكية في التعامل مع كل شيء، على أن يكونوا في الوقت نفسه مدركين حقوق أنفسهم وواجباتها، ويحترمون حريات الآخرين واختلافهم، ويعملون معهم لبناء مجتمع متقدم ومتطور.




مقالات مرتبطة