الاكتئاب هو أكثر من الحالة المزاجية السيئة: إنه تغيير في الوعي

يبدو الأمر وكأنَّك فقدتَ الأرض الصالحة للسكن، وفقدتَ دعوة العيش التي يمدك إياها الكون في كل لحظة، وفقدتَ شيئاً لا يعرفه الناس حتى؛ وذلك السبب الكامن وراء صعوبة شرح الأمر.



كانت هذه تجربة شخص في التعايش مع الاكتئاب، كما روتها عالمة النفس "غيل هورنستاين" (Gail Hornstein) في كتابها "معطف آغنيس" (Agnes’s Jacket) في عام 2009.

إذا طلبتَ من أحدهم أن يصف الاكتئاب، فسيجد صعوبةً في التعبير عنه بالكلمات؛ إذ نعلم الكثير من أعراضه، ولكن ما زلنا لا نفهم طبيعة هذا المرض، فنحن أشبه بمن يدرك أنَّ الحمى والسعال وفقدان حاسة الشم تمثل أعراضاً لشيء ما، ولكن دون أن تكون لدينا أدنى فكرة عن ذاك الفيروس الذي سبَّب حدوثها.

قد يظنُّ الأشخاص الذين لم يختبروا الاكتئاب أنَّه مجرد نمطٍ شديد ومتطرف من انخفاض المزاج، ولكن ألا نشعر جميعاً بأنَّ نشاطاتنا اليومية قد تفقد بعض بريقها أحياناً؟ ومع ذلك، تشير روايات الأشخاص المصابين بالاكتئاب إلى منحى آخر مختلف عما سبق.

ورد في كتاب "تجربة الاكتئاب" (The Experience of Depression) لعالمة النفس "دوروثي رو" (Dorothy Rowe) ما يأتي: "استيقظتُ في عالمٍ مختلف، كان الأمر كما لو أنَّ كل شيء قد تغير في أثناء نومي، لم أستيقظ في وعيي الطبيعي؛ بل استيقظت داخل كابوس".

تدعم مثل هذه التقارير فكرة أنَّ الاكتئاب يختلف عن الأشكال الأخرى من التجارب اليومية، وهذا ما أكده الفيلسوف "ماثيو راتكليف" (Matthew Ratcliffe) في كتابه "تجارب الاكتئاب" (Experiences of Depression) في عام 2015.

غالباً ما يصف مرضى الاكتئاب الأمر بأنَّه ينطوي على تحولٍ جوهري، كدخول "عالمٍ" جديد، عالمٍ منفصل عن الواقع المعتاد والأشخاص الآخرين.

يبدو الاكتئاب كما لو أنَّه نوع أكثر شمولية من غيره من التجارب، وقد يكون هو حتى بحد ذاته حالة مستقلة من الوعي، والتي يمكن بدورها أن تكشف شيئاً حول طبيعة الوعي ذاته.

تشير التقارير الذاتية للأشخاص المصابين بالاكتئاب إلى علاقة عميقة ومثيرة للاهتمام بالوعي، وحتى تكون هذه الفكرة منطقية؛ فكِّر في تأثير النوم والحلم في حياتك العقلية، أو في تجربة الخروج من نوم بلا أحلام إلى وعي يقظ.

في مثل هذه التحولات يخضع وعينا إلى تحول بنيوي عميق، خذ في الحسبان على سبيل المثال كيف تختلف تجربتك مع مرور الوقت عندما تحلم عن تجربتك له عندما تكون مستيقظاً؛ فكثيراً ما تمرُّ علينا أيام وأسابيع داخل الحلم في غضون ساعات قليلة فقط على مقياس اليقظة.

وبالمثل، فإنَّ إحساسنا بالذات والهوية يكون مرناً للغاية في الحلم؛ فنحن أحياناً عندما نحلم ندرك أنفسنا كمراقب خارجي ناظرين إلى أجسادنا نحو الأسفل، وأحياناً أخرى نحلم بأنَّنا أصبحنا أشخاصاً آخرين مختلفين عن ذواتنا الأصلية، أو قد نحلم بأنَّنا قد انفصلنا عن أجسادنا كلياً؛ إذ لا يكون الأشخاص المكتئبون حرفياً في عالم مختلف؛ بل يكونون في حالة مختلفة من الوعي.

تحدث أنواع مشابهة من التبدلات البنيوية في التجربة الواعية بعد تعاطي العقاقير المخلة بالنفس؛ إذ تتضمن الأمثلة عن تلك الظاهرة الموثقة جيداً والمعروفة باسم "موت الأنا" (ego dissolution)، والتي تُعرَّف على أنَّها انهيار الذات وفقدانها بالكامل أو التبدل الكبير لمفهوم المكان في حالة تعاطي العقاقير المخلة بالنفس.

في كل من حالتي الأحلام وتعاطي العقاقير المخلة بالنفس، تظهر لدى الأشخاص تغيرات شديدة وواسعة النطاق، والتي بدورها تخرب وتغير مفهومهم حول أنفسهم وحول تواصلهم بالواقع وبالأشخاص الآخرين، بالإضافة إلى تجاربهم الحسية أيضاً.

إقرأ أيضاً: 6 أسباب تقف وراء تقلب المزاج

صاغ مؤخراً كل من علماء الأعصاب والفلاسفة المختصين بالوعي مصطلحاً جديداً: "الحالة العالمية للوعي" (the global state of consciousness)، والذي يصف الخصائص البنيوية للتجارب؛ إذ إنَّها تتنوع بين حالة اليقظة الاعتيادية وحالة الحلم وحالة تعاطي العقاقير المخلة بالنفس وحالة الوعي الأدنى.

تدعى هذه الحالات "عالمية"؛ لأنَّ التجربة الواعية تتبدل بأكملها؛ أي إنَّ التبدل لا يكون في عنصر معيَّن دون غيره؛ إذ تتغير التفاصيل الدقيقة لما نختبره في أثناء اليقظة في حياتنا اليومية طوال الوقت، كالأصوات والألوان والروائح، فجميعها تأتي وتذهب ولكن تبقى البنية راسخة إلى حدٍّ كبير.

إنَّ الحالة العالمية هي تلك البنية الشاملة، والتي تظل ثابتةً بانتظام عندما تمرُّ علينا تجارب معينة، أمَّا عندما نحلم أو نتناول عقاقير مخلة بالنفس أو نعاني من ضرر في الدماغ، فإنَّ هذه البنية قد تتبدل وندخل حينها في حالةٍ عالميةٍ مختلفة.

هل يمكن أن يندرج الاكتئاب ضمن هذه الحالة أيضاً؟ إنَّ ما يصفه الأشخاص المصابون بالاكتئاب بأنَّه "عالمهم" أو "كابوسهم"، قد يكون حالة عالمية خاصة تُشوَّه فيها بعض الركائز البنيوية للتجارب العادية، مثل الإحساس بالذات والمكان والزمان، فالاكتئاب ليس مجرد "حلمٍ" أو "رحلة"؛ بل هو حالة أخرى تنتمي إلى العائلة ذاتها.

إنَّ إحدى الموضوعات الواضحة في التقارير حول الاكتئاب هي فكرة السكن أو الوقوع في "عالمٍ" أو "مكانٍ" آخر.

كتبت الصحفية "سالي برامبتون" (Sally Brampton) في عام 2003 مقالاً في صحيفة "ذا تلغراف" (The Telegraph) ذكرت فيه: "بالنسبة إليَّ فقد كان الاكتئاب مكاناً؛ حيث يبدو لي المنظر بارداً وأسودَ وفارغاً، إنَّه أكثر رعباً وفظاعة من أي مكانٍ آخر قد زرته في أي وقت مضى، حتى في كوابيسي".

من المحتمل أنَّ هذا الحديث ليس مجازياً فحسب؛ فالأشخاص المكتئبون ليسوا حرفياً في عالم مختلف، إلَّا أنَّهم في حالة مختلفة من الوعي؛ حالة يمكن أن يظلوا مستيقظين في عالمها، ونأمل أن يستيقظوا منها.

تُعَدُّ رؤية الاكتئاب مع حالات الوعي العالمية المتبدلة الأخرى تحولاً نظرياً أكثر منه سريرياً، إلَّا أنَّها يمكن أن تُحدِث فارقاً في كيفية تعاملنا مع الاكتئاب بشكل أكبر على طول الطريق.

على وجه الخصوص؛ يمكن أن نلقي الضوء هنا على نجاح الطب النفسي المعتمد على العقاقير المخلَّة بالنفس، والذي يُعَدُّ مجالاً بحثياً حديثاً ومتنامياً يتطلع إلى علاج الاضطرابات العقلية المختلفة باستعمال العقاقير المخلَّة بالنفس مثل "الكيتامين" (ketamine) و"الميسكالين" (mescaline) و"البسيلوسيبين" (psilocybin).

وعلى الرغم من أنَّ الطب النفسي المعتمد على المخدرات النفسية ما زال في بداياته، إلَّا أنَّ النتائج المبدئية كانت واعدة بالنسبة إلى الاكتئاب، وقد أُنشِئت الآن مراكز بحثية رئيسة في "الكلية الإمبريالية في لندن" (Imperial College London) و"جامعة جونز هوبكنز" (Johns Hopkins University).

لماذا قد ينجح العلاج بالعقاقير المخلَّة بالنفس كعلاج للاكتئاب؟ تُصرِّح إحدى الاقتراحات المطروحة بأنَّ هذه العقاقير تُقدِّم للأفراد مساحة أو نافذة غير مقيِّدة لحرية البصيرة وإطلاق العنان للعواطف، ولكن مع ذلك، فإنَّ الفكرة التي تقتضي بأنَّ الاكتئاب يُعَدُّ حالة بديلة للوعي، تقترح وجود تفسير مختلف؛ إذ يمكن أن تعمل العقاقير المخلَّة بالنفس عن طريق الإجبار على الانتقال بين حالات الوعي العالمية.

أولاً، تدفع هذه العقاقير المريض إلى حالة جديدة من الوعي، والتي نسميها الحالة المخدرة، وهي حالة الوعي المتبدلة التي تسببها العقاقير المخلَّة بالنفس، ويجب أن يخرج المريض منها في نهاية المطاف، فقد يتمكن المريض من الخروج إلى حالة من الوعي الاعتيادي بعد رحلته مع الحالة المخدرة، بدلاً من كابوس حالة الاكتئاب.

تكمن الفكرة في أنَّ العقاقير المخلة بالنفس قد تعمل على إعادة ضبط أو إعادة تشغيل حالة الوعي العالمية عند المريض، وفي خضمِّ هذه الفرضية فإنَّ الشعور بالاكتئاب يشبه الوقوع في حلم لا يمكن الاستيقاظ منه، وهنا تكون العقاقير المخلَّة بالنفس هي الهزة التي توقظك في النهاية.

ذكرت "برامبتون" (Brampton) في مذكراتها عام 2008: "يشبه الأمر العيش في كابوس وأنت مستيقظ؛ إذ إنَّ الذي نريده حقاً هو أن يأخذ شخص بيدنا ويحاول أن يوصلنا من جديد مع العالم".

يمكن أيضاً أن تعزِّز هذه الفرضية الأبحاث في الآليات البيولوجية المتعلقة بالاكتئاب، والتي ما تزال بعيدة المنال، وبدأ بعض الأطباء النفسيين بالقلق لأنَّ الاكتئاب قد لا يكون اضطراباً عقلياً موحداً على الإطلاق، ومن ناحيةٍ أخرى، إذا كنا على صواب في أنَّ الاكتئاب هو حالة عالمية من الوعي، فإنَّ اليأس يُعَدُّ سابقاً لأوانه.

عموماً، ما زلنا لا نعلم طبيعة الآليات العصبية التي تكمن خلفها أيَّة حالة وعي عالمية سواءً كانت حالة يقظة أم حالة حلم أم حالة مخدرة، وبالطبع، فإنَّ فكرة كون الاكتئاب يُعَدُّ حالة وعي عالمية تفتح احتمالية محيرة بأنَّ العمل في علم الوعي والتصوير العصبي قد يقدم لنا يوماً اختباراتٍ جديدة للاكتئاب.

في سياق آخر في تقارير الاكتئاب، يزداد مستوى كل من الخوف والانعزال نتيجة عدم الفهم الصحيح، ويعلم الشخص المكتئب أنَّ شيئاً يحصل؛ ولكنَّه لا يدرك ما هو ذاك الشيء أو ما الذي يسببه؛ إذ إنَّ انعدام القدرة على وصف أو ربط ما يحدث - سواءً لنفسك أم للآخرين - قد يكون أمراً مؤلماً على نحو كبير.

تقول المؤلفة "ج. ك. رولينغ" (J K Rowling): "إنَّه لمن الصعب جداً وصف الاكتئاب لأحدٍ لم يجربه من قبل، فالأمر أكثر من مجرد حزن".

يمكن أن تكون حالة الاكتئاب مفيدةً بشكل عظيم في كشف الجوانب المراوغة لحالة اليقظة الواعية، وبالنسبة إلى أولئك الأشخاص الذين يعانون الاكتئاب، هل يمكن أن يقدِّم التفكير في مرضهم على أنَّه حالة وعي عالمية مساعدةً فورية؟

لا يمكن أن تتلاشى الحالة المغايرة من الوعي بمجرَّد معرفتك بوجودها؛ ولكنَّ ذلك قد يساعدك على فهم تجربتك ومن ثم سردها للآخرين.

لم يعاني الجميع من الاكتئاب؛ ولكنَّ أكثرنا حَلُم، فجميعنا نعلم عن التبدلات الأخرى لبنية تجاربنا، ومن ثم قد يشكل ما سبق جسراً لفهم ما يدور في حياة أصدقائنا وأحبائنا.

نحن بحاجةٍ إلى الابتعاد عن النظرة الشائعة - والخاطئة في الوقت نفسه - عن الاكتئاب، والتي ترى أنَّه مجرد شكلٍ من الحزن، والذي يمكن أن يُخرِجَ الأشخاص المصابين به أنفسهم منه بسهولة.

إنَّ رؤية الاكتئاب على أنَّه حالة عالمية يحركنا نحو الاتجاه الصحيح؛ إذ إنَّ الحالة العالمية تبقى كما هي في حين أنَّ التجارب المحددة - والتي تتضمن التجارب العاطفية المتمحورة حول الفرح والحزن - تأتي وتذهب.

شاهد بالفديو: 6 نصائح لتقديم الدعم لشخص يعاني من الاكتئاب

يجب أن يكون علم الوعي قادراً على تسليط الضوء على الاكتئاب؛ ولكنَّ العكس صحيح أيضاً، ومن المعروف جيداً أنَّ الحالات غير الطبيعية للوعي - كالحلم أو الحالة المخدرة - تسمح لنا بفهمٍ أفضل لخصائص الحالة الطبيعية التي يخوضها الشخص السليم في أثناء اليقظة.

بتشويه تجربة الزمان والمكان والذات - على سبيل المثال - يمكننا التعرُّف إلى ما ينطوي عليه الفهم العادي للزمان والمكان والذات.

ومع ذلك، طالما واجه الباحثون مشكلة؛ ألا وهي أنَّ التغييرات التي أحدثتها العقاقير المخلَّة بالنفس كبيرة لدرجة أنَّ التداخل صريح وواضح، فالأمر مشابه لأخذ مطرقة ثقيلة واستعمالها ضمن الحالة الواعية الاعتيادية.

يمكن أن تكون الفروقات بين الحلم واليقظة أقل وضوحاً، ولكن لا يمكن أن يبلِّغ الشخص النائم عنها بشكل مباشر وموثوق، وهنا يمكن أن تكون حالة الاكتئاب ذات قيمة حقيقية، فهي تتضمن أحياناً تغيرات في اليقظة الاعتيادية - الأمر أشبه باستعمال مشرط أكثر منه باستعمال مطرقة ثقيلة - ولكن يمكن تحقيق ذلك من خلال إجراء مقابلات مع الناس.

كنتيجة لذلك، قد تكون حالة الاكتئاب مفيدة بشكل عظيم في كشف الجوانب المراوِغة لحالة اليقظة الواعية، والتي غالباً ما تُؤخَذ كأمر مسلَّمٍ به، على سبيل المثال: من خلال فحص التغييرات التي تطرأ على تجربة الشخص المكتئب للزمان والمكان والذات، فإنَّنا نتوصل إلى فهم أفضل لكيفية مساهمة كل من الزمان والمكان والذات في تجربتنا الاعتيادية للعالم.

يُلمِّح عالم النفس "أندرو سولومون" (Andrew Solomon) إلى بعض هذه التحولات في مذكراته: "عندما تكون مكتئباً، تمتص اللحظة الراهنة الماضي والمستقبل كلياً، كما هو الحال ضمن عالم طفل في ربيعه الثالث، ولا يمكنك أن تتذكر الوقت الذي شعرت فيه على نحوٍ أفضل - ليس بشكل واضح على أقل تقدير - وحتماً لا يمكنك تخيل وقت ما في المستقبل تشعر فيه بأنَّك أفضل؛ إذ إنَّ الشعور بالضيق - حتى الضيق العميق - يُعَدُّ تجربة مؤقتة، على عكس الاكتئاب فهو ليس مؤقتاً، وتتركك الانهيارات بلا أيَّة وجهة نظر".

قد يؤدي الانتباه إلى الطرائق التي يغير بها الاكتئاب حياتنا إلى وضع فرضيات جديدة مثيرة للاهتمام حول وظيفة أو وظائف الوعي؛ أي ما يقوم به الوعي​ للكائنات الحية.

ما الذي يمكن أن يفعله المرء في حالته الواعية الاعتيادية، والذي لا يمكنه القيام به عندما يكون في حالة الاكتئاب، أو بالعكس؟ وكيف تؤثر هذه التغيرات البنيوية بالزمان والمكان والذات في النشاطات العقلية؟ سيكون كل ذلك توجهاً مشوقاً للجيل القادم من الفلاسفة وعلماء الوعي.

المصدر




مقالات مرتبطة