الاستثمار الحقيقي: استثمارك في مواهبك

"اترك تلك الآلة الموسيقيّة، وتوجّه إلى دراستك". "هل هذا وقت مطالعة كتب علم النفس، ولديك امتحان بعد أُسبوع؟". "كيف يعجبكَ صوت هذا الفنان؟ أطفئ التلفاز، فليس الوقت بمناسبٍ لسماع الأغنيات، فلديك واجبات دراسيّة كثيرة". هذه العبارات وغيرها نسمعها داخل كلّ أسرة؛ إمّا لخوفٍ مُبرّر أو لقصورٍ في فهمهم لقانون الحياة. والأسئلة هنا: لماذا لا نضع وقتنا ومَالنا وطاقتنا في رصيد الأشياء التي نعشقها؟ لمَ نبقَ مُقيّدين في حياةٍ جامدة مبنيّةٍ على أساس ثقافة مجتمعيّةٍ لا تراعي الشغف بقدر ما تراعي القوالب الجاهزة؟ ولمَ لا نتمرّد على أنفسنا وعلى القيود التي صنعناها، والتي أفقدتنا متعتنا وبهجتنا؟ لماذا نخاف الجلوس مع أنفسنا، وطرحَ السؤال الآتي: "ماذا نريد من الحياة؟ وما هي رسالتنا فيها؟ وأين يكمن شغفنا؟ لماذا أصبحنا بعيدين كُلَّ البعد عن الإبداع، لصيقي الأشياء العادية التّقليديّة؟". دعونا نخوض سويةً في ملفّ الإبداع: تعريفه، وأنواعه، ومجالاته، ومعيقاته.



1. مفهوم الإبداع:

الإبداع هو عملية الإتيان بشيءٍ جديد، وتنفيذ الأفكار الابداعيّة. ويختلف عن التفكير الإبداعي؛ فالأخير عبارة عن أفكار جديدة -قد تكون خلّاقة- إلا أنّها لم تتحوّل بعد إلى واقعٍ ملموس؛ وذلك لكونها خياليّة يصعب تنفيذها، أو لكون أصحابها لا يملكون الطّاقة اللازمة لتحويلها إلى واقع.

الإبداع من وجهة نظر "ستيف جوبز": "ربط الأشياء بطريقةٍ إبداعيّة"، فعندما تسأل شخصاً مبدعاً كيف فعل شيئاً ما، فإنّه سيشعر بالقليل من الذّنب لأنَّه لم يفعل ذلك حقاً. إنّه فقط رأى أشياء بدت واضحةً له بعد فترةٍ من الزمن، فاستطاع ربط الخبرات التي امتلكها وتوليد أفكار جديدة".

ولا يأتي الربط بين الأشياء وليدَ المصادفة، حيث تحتاج النظرة الشّمولية للأمور إلى معرفةٍ متكاملةٍ على أكثر من صعيد، وإلى خوض تجارب متعددة مع التفكير العميق حيالها ومحاولة استنباط الرسائل الكامنة فيها.

2. أنواع الإبداع:

2. 1. الإبداع المتأنّي والإدراكي:

يكون الأشخاص الذين يتمتّعون بالخصائص المتأنّية والمعرفية، ذوي عزمٍ ولديهم قدرٌ كبيرٌ من المعرفة حول موضوعٍ معين، ويستطيعون الجمع بين مهاراتهم وقدراتهم لإعداد دورة عملٍ لإنجاز شيءٍ ما. يتمّ بناء هذا النوع من الإبداع عندما يعمل الناس في مجالٍ معيّن لفترةٍ طويلةٍ جداً.

يندرج تحت هذا النوع من فئة الإبداع الأشخاص البارعين في البحث وحلّ المشكلات والتحقيق والتجريب، وتقع مسؤولية القيام بهذا النوع على عاتق قشرة الدماغ الأماميّة.

يُعدّ "توماس ألفا إديسون" مثالاً بارزاً على هذا النوع من المبدعين؛ حيث أجرى 260 تجربةً قبل اختراع الكهرباء والمصباح الكهربائي والاتصالات السلكية واللاسلكية. وقد قال بخصوص ذلك: "لقد اكتشفتُ 260 طريقةً غير مجدية لتوليد الكهرباء". وبالتالي يتطلّب الإبداع المُتأنّي والمعرفي قدراً كبيراً من الوقت والتّفاني ووفرة المعرفة حول موضوعٍ معيّن.

إقرأ أيضاً: 5 أشياء تساهم في قتل روح الإبداع

2. 2. الإبداع المُتأنّي والعاطفي:

يتأثّر عمل الأشخاص المُصنّفون على أنّهم متأنّين وعاطفيّين بحالتهم الشّعورية، ويكونون أشخاصاً حسّاسين للغاية؛ إذ يُفضِّلون الهدوء وتخصيص وقتٍ للتفكير. وغالباً ما يكون لديهم "عادة كتابة مذكرات". كما تجدهم منطقيين وعقلانيين في عملية صنع القرار.

ويكون إبداعهم نتاجاً متوازناً للتفكير العاطفي المتأنّي والإجراءات المنطقيّة. يقع مسؤولية هذا النوع من الإبداع على عاتق اللّوزة وأجزاء القشرة المخية للدماغ البشري. تُعدّ اللّوزة مسؤولةً عن المشاعر الإنسانية، في حين تُساعد القشرة الحزاميّة على التعلّم ومعالجة المعلومات. يحدث نوع الإبداع هذا للأشخاص في لحظاتٍ عشوائيّةٍ، كأن يفكّر شخصٌ ما فجأةً في حلٍّ لبعض المشكلات، أو أن يخرج بفكرةٍ مبتكرة.

على سبيل المثال: قد تشعر بالضعف والعاطفة في مواقف معيّنة، الأمر الذي يصرف انتباهك عن عملك. في مثل تلك المواقف، يجب أن تأخذ 5 دقائق وتُحدّد الأشياء التي تحزنك وتضعها جانباً، وتركز على العمل الذي تقوم به. سوف يساعدك ذلك على الحصول على النتائج المرجوّة، وعلى إنجاز عملك بسهولة.

2. 3. الإبداع العفوي والإدراكي:

أنت تقضي في بعض الحالات وقتاً طويلاً في محاولةٍ لإيجاد حلٍّ لمشكلةٍ ما، إلّا أنّك تجد نفسك غير قادرٍ على التفكير في أيِّ حلٍّ كان؛ وفجأة، وأثناء استمتاعك بوقتك ومشاهدتك التلفاز، يقفز الحلّ إلى عقلك وتتّضح الصورة أمامك. حدثت نفس الحالة مع العالم الكبير "إسحاق نيوتن"، فقد حصل على فكرة "قانون الجاذبية" عندما ضربت تفاحةٌ رأسه بينما كان مسترخياً تحت ظلِّ شجرة تفاح.

يحصل هذا النوع من الإبداع عندما يملك الشخص المعرفة للقيام بعملٍ ما، لكنَّه يحتاج إلى شيءٍ من الإلهام والتّلميح للمشي في المسار الصحيح. ويحدث في الأوقات غير المناسبة -وأنتَ تأخذ حماماً مثلاً كما جرى مع أرخميدس- حيث يعمل عندما يتوقف العقل الواعي عن العمل آخذاً قسطاً من الراحة، ليأخذ اللاواعي فرصته للعمل.

عندما يحتاج الأشخاص المبدعين إلى "التفكير خارج الصندوق"، فإنّهم يتوقفون عن التفكير الواعي، وذلك من خلال الانغماس في أنشطةٍ مختلفة وغير ذات صلة، عندها يحصل اللاواعي على فرصةٍ لربط المعلومات بطرائق جديدة توفِّر حلولاً ناجعة للمشكلات.

2. 4. الإبداع العفوي والعاطفي:

يحدث الإبداع العفوي والعاطفي في "لوزة" الدماغ البشري، وهي المسؤولة عن كلّ نوعٍ من التفكير العاطفي في الدماغ. ويتم عندما يستريح الدماغ الواعي والجبهي. يتواجد هذا النوع عند الفنانين العظماء غالباً؛ مثل الموسيقيّين والرسّامين والكُتّاب وأمثالهم.

الإبداع العفوي والعاطفيّ مسؤولٌ عن التقدّم العلميّ والاكتشافات الدينيّة والفلسفيّة. يسمح هذا للشخص المستنير بالنّظر إلى المشكلة أو الموقف من وجهة نظرٍ مختلفة وأكثر عمقاً. ولا يحتاج هذا إلى معرفةٍ محدّدةٍ لكي يَتُم، وإنّما يجب أن يكون هناك مهارةٌ مثل الكتابة أو الموسيقى أو الفن.

3. مجالات الإبداع:

هذه بعض المجالات الوظيفية التي يُعتَقَد عموماً أنّها إبداعية:

  • التّمثيل.
  • الإعلان والتسويق (لا سيما مجالات مثل كتابة النّصوص والمحتوى).
  • الهندسة المعمارية.
  • الفن والتّصميم (تصميم المنتجات والجرافيك والأزياء، والفن، وتنسيق المعارض الفنية).
  • الحِرف (صناعة الفخار والسيراميك، صناعة الأثاث أو الخياطة وما شابه ذلك).
  • إنتاج الأفلام.
  • الإنتاج الإذاعي والتلفزيوني.
  • التصوير الفوتوغرافي والفيديو.
  • وظائف التحرير والنشر.
  • الصحافة.
  • المتاحف والمكتبات.
  • وظائف تنطوي على الكتابة.
  • وظائف في المسرح.
  • الموسيقى على اختلاف أشكالها وأنواعها.

4. الإبداع والنُّظم التَّعليمية، طرفي نقيض:

في إحصائيّةٍ عن نسبة المبدعين بين البشر، تمّ تقدير نسبة المبدعين من الأطفال ذوي الأعمار 5 سنوات بـ 90%.

والأمر الصادم جداً: انخفاض نسبة الأطفال المُبدعين في عمر السبع سنوات، إلى نسبة 10% فقط. فما السبب في ذلك؟

ما جرى هو دخول الأطفال إلى المدرسة، وهذه النتيجة تدفعنا إلى التمعّن في نظامنا التعليمي: فإلى أيّ مدى يحفز نظامنا التعليمي على الإبداع؟ وهل تخاطب مناهجنا التعليميّة الجانب الإبداعي لدى أطفالنا؟

هل تُراعي الكوادر التعليميّة المساحات الإبداعية للطلبة؟ وهل يجد الطلبة حرية في التعبير عن مكنوناتهم وفضولهم وشغفهم؟

إقرأ أيضاً: 10 طرق يمكن للمعلمين اتّباعها لجعل التعليم أكثر متعة

5. الاستثمار في المواهب هو الطريق الأول والأسرع للثّراء:

ليس بالضرورة أن يكون ما نشأنا عليه من معتقدات صحيحاً؛ فنحن لم ننشأ على فكرة الاستثمار في المواهب. وساعدَ نظامنا التّعليمي في تكريس المعتقدات الخاطئة.

فعندما سُئلت طالبةٌ عن شغفها في الحياة أجابت: "شغفي هو الكتابة، لكنَّ المشكلة أنّها لا تجلب مالاً ودخلاً جيداً".

تبدأ البرمجة الخاطئة من المدرسة، حيث أنَّنا لم نُعلَّم الاستثمار في مواهبنا، وتبدأ من الجهل المطلق بمصدر المال، حيث يُعدّ عدم معرفة مصدره السبب الرئيس لتقييد الناس وجعلهم عبدةً للمال، بدلاً أن يكون المال باعثاً على الرّاحة.

يأتي المال من مصدرٍ واحد هو الناس، ويتعيَّن على الشخص لكي يحصل عليه أن يقُدّم قيمة. وبالتالي، فالمال وسيلة للتبادل، أمّا ما يُقدِّمه الشخص من قيمة هو ما يَخلق نوعاً من الجدل، إذ يوجد نوعان من القيم: تُقدَّم إحداهما لحلّ مشكلةٍ ما، والأخرى للاستمتاع. ومن هنا يأتي مفهوم القيم المفيدة والقيم الوهميّة الضّارة.

يُبرمجنا النّظام التّعليميّ على أنّ المال يكون نتاجاً للوقت لا القيمة، كما يعزّز ذهنية الموظّف. وتُبعِدنا هذه البرمجة عن الرّيادة، حيث نكبر راسمين مستقبلنا الوظيفي التقليدي والأجر الشهري لعملنا، متجاهلين شغفنا وقدرتنا في أن نكون أسياد الموقف وليس مجرد أشخاص خاضعين لمعتقداتٍ مُدمِّرة، علماً أنّه في حال سلكنا طريق القيمة، سنصل إلى الثراء والرّاحة لأنّنا نحن من يصبح مصدر القوة والإبداع والطاقة.

إنّ الموهبة هي الأساس، وهي ما يصنع قوةً خلّاقة، كما يُفعِّل الاستثمار فيها رسالتك على الأرض. ففي اللحظة التي تصبح فيها إحدى المواهب خلّاقة للقيمة، يتحوّل الشخص فيها إلى مصدر ثراء، ولا يبقى مُعتمداً على مصدرٍ خارجي، إذ يكون قد تحرّر من العبوديّة الماليّة.

والسؤال هنا: كيف أستثمر في موهبتي؟

لنعد إلى الفتاة الشغوفة بالكتابة، باستطاعتها الاستثمار في موهبتها تلك وتحويل موهبتها إلى قيمة، كأن تكتب كتباً أو تُقدّم برنامجاً تدريبياً عن قواعد وأساليب الكتابة الناجحة، أو تمتهنَ التدوين عبر الإنترنت.

عندما يخطو الإنسان خطوته الأولى في طريق الاستثمار في موهبته، فإنّها ستقابله بيدين مفتوحتين وصدرٍ رحب؛ فهي لم تُوجد لديك صدفةً، بل لتلبية غرض وهدف سامٍ.

لا يحتاج الاستثمار في المواهب بالضرورة إلى المال، فبمقدورِ الشخص التسجيل في دورات على الإنترنت وتبنّي تقنيات التعلّم الذاتي، كما يمكنه اللجوء إلى كتبٍ تحتوي على قصص نجاح لأشخاص يملكون موهبته نفسها.

والنقطة الأساسية هنا، أن تسأل نفسك: كيف سأتعلّم؟ وكيف سأزيد من خبرتي حتى أصل إلى مرحلة إعطاء قيمة تحلّ مشكلات الناس؟

6. أقوالٌ في الإبداع:

  • "الإبداع لا وطن له"، أندريه جيد (فنان، كاتب).
  • "إنّ القيام بخطوةٍ جديدة أو التّلفظ بكلمةٍ جديدة هو أكثر ما يخشاه الناس"، فيودور دوستويفسكي (فنان، كاتب، روائي).
  • "الإتيان بالجديد والغريب والمدهش هو ما يجعل الإبداع والجنون متقاربان!"، شيماء فؤاد.
  • "الحريّة هي روح الموقف الأخلاقي، وبدونها لا وجود لأخلاقٍ ولا إتقانٍ ولا إبداعٍ ولا واجب"، مصطفى محمود.
  • "القدرة على ربط الأمور بطريقةٍ غريبةٍ هي محور الإبداع الذهني، بغض النظر عن المجال"، جورج سيدل.
  • "الألم هو مفتاح الإبداع وطريق العبقرية"، وليام جيمس.
  • "رحلة الاستكشاف الحقيقية لا تستلزم الذهاب إلى أراضٍ جديدة، بل تستلزم الرؤية بعيون جديدة"، مارسيل بروست.
  • "إذا كنت تبحث عن فكرةٍ مبتكرة، فاذهب لتتمشى، فالإلهام يتنزل على الأشخاص الذين يمشون"، ريموند إينمون.
  • "لكي تخترع أنت بحاجةٍ إلى مخيّلةٍ جيدةٍ وكومة خردة"، توماس أديسون.
  • "الإبداع تمرُّد"، د. حنان فاروق.
  • "لا يرى معظم الناس أنفسهم مبدعون، ذلك لأنَّهم يربطون الإبداع بالتعقيد، ولكن الإبداع هو البساطة"، ستيف تشاندلر.

7. الخلاصة:

تكمن الرّيادة في التّقاطع بين دائرة شغفك ودائرة حلّ مشاكل الناس، وكلمّا ازدادت الوسائل التي تُعطِي القيمة في دائرة الرِّيادة، ازداد الثّراء أكثر فأكثر.




مقالات مرتبطة