الاحتراق الوظيفي: تعريفه، أعراضه، أسبابه، واستراتيجيات التعافي منه

المهنيون الذين عانوا من الاحتراق الوظيفي هم في معظم الأوقات غير راضين عن حياتهم، ولا عن إنجازاتهم في العمل؛ فعندما تناضل باستمرارٍ للتغلُّب على التوتر في مكان العمل، تُعرِّض نفسك إلى خطر الإصابة بهذا النوع من الإرهاق، والذي يمكن أن يترافق مع أعراضٍ جسديةٍ وعقليَّة.



يمكن أن تعاني من الاحتراق الوظيفي، حتَّى لو كنت راضياً عن عملك وعن مسارك المهني؛ لذلك، تُعدُّ عملية تعلُّم كيفية التعافي منه أمراً ضروريَّاً إذا كنت تريد الاستمرار في كونك شخصاً منتجاً وراضياً في حياتك ومسارك المهني والوظيفي.

هل يسبب الإرهاق كلَّ أنواع الاحتراق الوظيفي؟

صاغ عالما النفس: "كريستينا ماسلاخ" (Christina Maslach) و"هربرت فروردين برغر" (Herbert Freudenberger)، مصطلح "الاحتراق" في سبعينيات القرن الماضي، وقد درس كلٌّ منهما على حدة تأثير الاحتراق الوظيفي في العاملين في المجال الصحي والخدمة الاجتماعية، واختاروا المشاركين بناءً على التوتر المزمن الذي يختبرونه، وعلى حجم تفاعلهم اليومي مع الآخرين. اكتشف كلٌّ منهما أنَّ الاحتراق الوظيفي لا يتعلَّق بالإرهاق بالضرورة، فقد يتجلَّى جزءٌ منه في شكل سلوكاتٍ عدوانيةٍ ساخرةٍ تجاه العملاء أو الزملاء؛ كما يمكن أن يتجلَّى في صيغة شعورٍ باليأس أو هزيمة الذات المرتبطة بالعمل. توصَّلت كريستينا بعد ذلك إلى ما يسمَّى "Maslach Burnout Inventory" أو "MBI"، وهو عبارةٌ عن جردٍ نفسيٍّ شاملٍ يتكوَّن من 22 عاملاً، تقيس كلُّها أبعاد الاحتراق الوظيفي الثلاثة: تبدد الشخصية، والإرهاق العاطفي، والإنجاز الشخصي؛ ليتحوَّل هذا النموذج في النهاية إلى أداة قياسٍ أو برنامج عملٍ في هذا المجال.

طوَّرت مجموعةٌ من العلماء الدنماركيين نموذجاً جديداً يُعرَف باسم "Copenhagen Burnout Inventory" أو "CBI"، وهو أداةٌ جديدةٌ لتقييم الاحتراق الوظيفي، وقد حلَّل الأبعاد الثلاثة للاحتراق الوظيفي من: الشخصية، والأشياء المتعلِّقة بالعمل، والأشياء المتعلِّقة بالعميل.

جميع نماذج الاحتراق الوظيفي المذكورة أعلاه معقَّدةٌ للغاية؛ لذلك بدلاً من التفكير فيها، فكِّر في هذه الأعراض:

أعراض الاحتراق الوظيفي:

قد تكون مصاباً بالاحتراق الوظيفي إذا:

  • فقدت الاهتمام بعملك الحالي أو مشروعك الحالي، ولا تتمكَّن من إنهائه.
  • كنت دائماً منهكاً.
  • تحتاج إلى تحفيز نفسك للقيام بأصغر المهام.
  • تتقاضى أجراً قليلاً مقارنةً بالقيمة التي تُضيفها إلى العمل أو المشروع.
  • تتهرَّب من التفاعل مع الآخرين.
  • تغضب سريعاً في أثناء التواصل مع العملاء والزملاء.
  • تدمن العادات السيئة، مثل: المخدِّرات، أو الكحول، أو نسبةٍ عاليةٍ من السكر، أو نمط الحياة قليل الحركة، أو الإفراط في تناول الطعام.
  • تتساءل حول الحياة والخيارات المهنية بشكلٍ عام.

هل تواجه أيَّاً من هذه الأعراض؟ الخبر السار هو أنَّه يمكنك التخلُّص من الشعور بالاحتراق الوظيفي ما إن تدرك أعراضه.

أسباب الاحتراق الوظيفي:

هناك العديد من الأشياء التي قد تسبِّب الاحتراق الوظيفي، وسنذكر هنا أكثرها شيوعاً:

1. عبء العمل:

يمكنك أن تكون أكثر إنتاجيةً عندما تعمل وفق مقياس عملٍ ضخمٍ يتوافق وقدراتك؛ إذ ستجد مزيداً من الفرص للراحة والتعافي، وسيكون وسيلةً لتطوير وتنمية ذاتك؛ ولكن لن يكون هذا هو الحال عندما تكون مثقلاً بالعمل، حيث ستفقد فرصة استعادة توازنك.

2. غياب الاستقلالية:

يؤثِّر الشعور بأنَّك لا تستطيع الوصول إلى الموارد الأساسية، وأنَّه يمكن أن يؤثِّر أيُّ شخصٍ له رأيٌ في قراراتٍ مختلفةٍ في حياتك المهنية؛ في صحتك. على سبيل المثال:

  • هل تتلقَّى مكالماتٍ من مديرك طوال الليل؟
  • هل تُحمِّلك شركتك مسؤولياتٍ تفوق طاقتك؟
  • هل لديك ما يلزم للتأثير في بيئة عملك؟

3. بيئة العمل:

مع مَن تتعاون؟ إلى أيِّ مدى يمكن عدُّ علاقات العمل تلك موثوقةً وداعمة؟ لا يمكنك في بعض الحالات اختيار بيئة عملك أو زملائك، ولكن يمكنك تحسين العلاقة؛ ويمكن لبيئتك ترقية مشاركتك، أو تخفيض مستواها.

4. المكافأة:

في حال عدم توافق المكافآت الجوهرية والخارجية مع مستوى الجهد المبذول في العمل، فقد تشعر في النهاية أنَّ جهدك لا يُقدَّر حقَّ قدره، سواءً بالقيمة أم الأجر. فعلى سبيل المثال: قد تحتاج إلى عقد اجتماعٍ تكون فيه وجهاً لوجهٍ مع صاحب العمل، أو إلى الحصول على تغذيةٍ راجعةٍ إيجابية، أو زيادةٍ في تعويضك. لذا، اعرف المكافأة التي تجعلك تشعر بالتقدير، وابحث عن سبلٍ لتحقيقها ونيل مزيدٍ منها.

5. عدم تطابق القيم:

إذا كنت تعمل في مؤسسةٍ لا تتشارك معك بالقيم نفسها، فسوف تشهد هبوطاً مستمراً في مستوى التحفيز لديك. الدوافع والقيم شيءٌ متأصلٌ في الناس والمنظمات، فمثلاً: إذا كنت تؤمن بقوةٍ بأنَّ إحداث التأثير يأتي أولاً قبل المال، فسوف تعاني من الاحتراق الوظيفي في منظمةٍ تعطي الأولوية للمال قبل التأثير.

إقرأ أيضاً: 7 نصائح مهمة لتحقيق الرضا الوظيفي

إلى متى يستمر الاحتراق الوظيفي؟

هذا هو السؤال الرئيس الذي يطرحه معظم الأشخاص الذين يعانون من الاحتراق الوظيفي، إذ يريدون أن يعرفوا بوضوحٍ متى سيستعيدون دفَّة القيادة. فمثلاً: قد لا يتمكَّن "فلان" أن يقول بالضبط متى بدأت نوبات الاكتئاب تلك، ولكنَّ طبيبه استطاع تتبعها حتَّى شهر آذار من العام الماضي، عندما بدأت تظهر بعض الأعراض، مثل: ألمٍ عشوائي، ونوبات خفقان، وتعبٍ شديد، وحساسياتٍ أخرى اكتسبها حديثاً؛ إذ يبدو أنَّ احتراقه الوظيفي كان قد بدأ قبل ذلك الحين بأشهرٍ أو ربَّما سنوات، وتراكم؛ فنصحه طبيبه بأخذ إجازةٍ مرضية. قد يستغرق الأمر بالنسبة إليه -ولنفترض أنَّه مدرِّس- أكثر من عامٍ ونصفٍ ربَّما، كما قد تحتاج حالاتٌ أخرى إلى الخضوع لبرنامج إعادة تأهيلٍ لمدة عامٍ واحد، بالإضافة إلى ستة أشهرٍ من المتابعة. فكيف تتعافى من الاحتراق الوظيفي؟

5 طرق للتخلص من الاحتراق الوظيفي:

قد تساعدك الاستراتيجيات التالية في التعافي من الاحتراق الوظيفي:

1. التركيز على مشاريعك:

كرَّر عالم النفس الأمريكي الشهير "أبراهام ماسلو" (Abraham Maslow) في عام 1943، أنَّه يمكن لأيِّ شخصٍ أن يحقِّق السعادة طالما يمكنه التعبير عن نفسه وزيادة إمكاناته؛ وهذا ما أسماه "تحقيق الذات"، وحذَّر قائلاً: "تتلخص معضلة الجنس البشري في تخلي الرجال والنساء عن أنفسهم خلال وقتٍ قصير".

يفهم قادة الشركات الناجحون أهمية تحقيق الذات، لهذا السبب يسمحون لموظفيهم بالعمل على مشاريع شخصيةٍ أو اجتماعية؛ كما أنَّهم يُمكِّنون عمَّالهم من ابتكار وامتلاك المشاريع الاجتماعية التي ينفِّذونها على أنَّها مسؤوليةٌ اجتماعيةٌ للمؤسسات.

إذا كنت تعمل في وظيفةٍ من الساعة 9 وحتَّى 5، فلتحرص على تكريس بعض الساعات في الصباح الباكر وفي وقتٍ متأخرٍ من الليل على مشاريع شخصية، مثل: كتابة مدوَّنةٍ إلكترونية، أو برمجة تطبيقٍ يحلُّ مشاكل الآخرين. يمكنك بهذه الطريقة، التعبير عن قيمك في أثناء السعي إلى تحقيق أهدافك المهنية.

2. ممارسة اليقظة الذهنية:

التأمُّل استراتيجيةٌ طويلة العمر ومُجرَّبةٌ للتعامل مع الاحتراق الوظيفي؛ ووفقاً لبحثٍ من الدنمارك: يرتبط التأمُّل المستمرُّ بتحسين كثافة المادة الرمادية في جذع الدماغ.

يمكنك تجديد عقلك ودماغك لتكون أكثر تركيزاً وإنتاجيةً عن طريق ممارسة التأمُّل يومياً؛ مثلاً: خذ استراحةً لمدة 10 دقائق في أثناء العمل أو في الصباح الباكر لممارسة اليقظة الذهنية، أو إليكَ استراتيجيةً أخرى يمكنك استخدامها: إذا كنت تعمل في أيِّ وقتٍ على مهمَّةٍ مملةٍ ومتكرِّرة، فتجنَّب التفكير في شيءٍ آخر، وركِّز على المهمَّة التي أمامك.

إقرأ أيضاً: 4 نصائح فعّالة للمحافظة على قدراتك الذهنية والعقلية

3. التخلُّص من سموم الجسم من خلال ممارسة الرياضة:

يمكنك إزالة التوكسينات -السموم العالقة في أجهزة جسمك- بطريقةٍ واحدة، وهي ممارسة التمرينات الرياضية. يمكن أن تزيد التمرينات الرياضية معدَّل ضربات قلبك، ممَّا يضخُّ الدم بشكلٍ أسرع، ويزيل السموم من أجهزة جسمك.

هل لاحظت أنَّك تشعر بالتحسُّن بشكلٍ طبيعيٍّ ولفتراتٍ طويلةٍ بعد ممارسة الرياضة؟ القلق أحد الأعراض الرئيسة التي تختبرها عندما تعاني من الاحتراق الوظيفي، وممارسة التمرينات الرياضية طريقةٌ رائعةٌ لتخفيف ذلك القلق بسرعة.

كشف "جوشوا برومان" (Joshua Broman) في دراسةٍ أجراها عام 2004، أنَّ الطلاب الذين مارسوا التمرينات الرياضية أصبحوا أقلَّ حساسيةً للقلق، وعزَّزت عدة دراساتٍ إضافيةٍ وجود هذه المنفعة. لذا، أدخِل التمرينات المنتظمة في روتينك من خلال ممارسة الهرولة أو السباحة قبل العمل، أو امشِ مسافاتٍ طويلةً وشاقةً بعد الظهر، أو أمضِ بعض الوقت في صالة الألعاب الرياضية في المساء. بمجرَّد تشكيلك لعادة ممارسة الرياضة الجيدة بانتظام، فلن يمضِ وقتٌ طويلٌ حتَّى تبدأ التعافي من الاحتراق الوظيفي.

4. التدوين:

يمكن للكتابة أن تساعد على الشفاء، إذ تساعدك الكتابة عن مشاعرك وتجاربك في معالجتها؛ ممَّا يمكن أن يسرِّع عملية الشفاء؛ كما يمكن لتدوين تجاربك أن يولِّد تحسُّناً دائماً في المزاج والصحة. كيف تختبر هذا الشفاء عندما تشعر بالاحتراق الوظيفي؟

احتفظ بيومياتٍ احترافية. على سبيل المثال: يمكنك أن تأخذ استراحةً لمدة ثلاثين دقيقةً خلال عطلات نهاية الأسبوع، أو لحظاتٍ هادئةً لتقييم أدائك وتقدُّمك والتحديات التي واجهتها في الأيام القليلة الماضية. لخِّص إنجازاتك والمشاريع، وكذلك التحديات التي تعيق تقدُّمك، واسرد بعض الشكوك أو الأسئلة حول عملك الحالي؛ ويمكنك بهذه الطريقة اكتشاف الأنماط في حياتك المهنية، والتفكير في الإجراء التالي الذي يجب اتخاذه.

يمكِّنك التسجيل في دفتر اليوميات من اكتشاف حلولٍ للمشكلات المحتملة قبل أن تظهر على السطح، وهذه التقنية قابلةٌ للتطبيق للأشخاص الذين يحبُّون أن يعبِّروا عن أنفسهم؛ ولكن، إذا لم تكن تستمتع بالكتابة، فيمكنك استخدام المذكَّرة على هاتفك لتسجيل إجاباتٍ عن هذه الأسئلة.

إقرأ أيضاً: إنشاء وكتابة المدوّنات بشكل احترافي

5. تقدير المهام:

هل تشعر غالباً بأنَّك خارقٌ عندما يتعلَّق الأمر بالعمل، ثمَّ بالكاد تكمل نصف ما كنت تخطِّط للقيام به؟ إذا كانت هذه مشكلةً مألوفةً بالنسبة إليك، فحاول أن تتعلَّم كيفية تقدير الوقت الذي تستغرقه تلك المهمَّة بدقة، وعدد المهام التي يمكنك القيام بها في اليوم؛ وعندما لا تكون متأكِّداً، بالغ في تقدير الوقت.

يتطلَّب الأمر الممارسة لتصبح متمرِّساً في تقدير المهام. ومع ذلك، يمكنك استخدام استراتيجيةٍ مؤكَّدة النجاح لضمان أنَّك تعمل على أكثر المهام أهمية، والتي تُدعَى "مصفوفة آيزنهاور"؛ حيث تعرض هذه المصفوفة أربعة مربعاتٍ مختلفةٍ حول تحديد أولويات المهام، وهي:

  1. عاجلة.
  2. غير عاجلة.
  3. هامَّة.
  4. غير هامَّة.

يمكنك التعافي من الاحتراق الوظيفي من خلال تجديد استراتيجية عملك باستخدام هذا النموذج، واكتشاف المهمَّة التي تستحق أفضل اهتمامك، وما الترتيب الذي تحدِّد من خلاله أولوياتك.

إقرأ أيضاً: كيف تصبح أكثر إنتاجية باستخدام مصفوفة أيزنهاور؟

أفكارٌ أخيرة:

لا يقتصر الاحتراق الوظيفي على الإرهاق فحسب، بل هو مشكلةٌ متعددة الأبعاد، وتتطلَّب حلاً متعدِّد الأوجه. لا تنسَ، فأنت تحتاج إلى تشخيص المشكلة أولاً، وبذل أقصى جهدٍ للتغيير ثانياً.

إذا كنت لا تزال تفشل على الرغم من كلِ شيء، فقد تحتاج إلى إعادة تقييم عملك، وتحديد ما إذا كنت في المكان الذي يجب أن تكون فيه.

 

المصدر




مقالات مرتبطة