الأمان الغذائي وتأمين الغذاء في العالم النامي

تاريخياً، كان تقسيم العالم بحسب مستوى المعيشة للأفراد مؤشراً حيوياً يقيس قدرة الدولة على تحقيق الاكتفاء الذاتي أو توفير مستوى مناسب للفرد يمكِّنه من تحقيق حياة مستدامة، وقد ترتَّب على هذا التقسيم ظهور دول تزخر بالثراء والرفاهية، بينما تظهر أخرى تعاني من الفقر والنقص، وهذا يستدعي ضرورة توفير الأمان الغذائي لها وتجنب دخولها دائرة الفقر والنقص الغذائي بشكل خاص.



من هنا ظهرت فكرة "الأمان الغذائي" الذي يُعَدُّ فكرة رئيسة تسبق عملية التنمية الاجتماعية الشاملة؛ لذا ينبغي علينا الآن النظر إلى كيفية تحقيق هذا الأمان في الدول النامية وتأمين الغذاء بشكل فعال.

قضية تحقيق "الأمان الغذائي" من بين القضايا الرئيسة التي تواجه العالم، وتحظى باهتمام كبير من قِبل المنظمات والهيئات الدولية، كما أنَّها تشكل قضية أمن قومي لأي بلد، فهي قضية متعددة الأبعاد، وتشمل جوانب إنسانية واجتماعية واقتصادية وسياسية، إلى جانب النظر في القدرات الإنتاجية وكيفية استثمارها بما يحقق الكفاءة والكفاية الإنتاجية.

ما هو الأمان الغذائي؟

تُعَدُّ قضية الأمان الغذائي من الأمور الحيوية التي تعكس صحة واستقرار المجتمعات؛ إذ يتعلق هذا المفهوم بأكثر من مجرد توفير الطعام اليومي؛ بل يتعداه ليشمل توفير كميات كافية من الطعام الآمن والمغذي بشكل مستمر، وهذا يضمن للأفراد القدرة على العيش بحرية وكرامة.

إنَّ فهم تعريف الأمان الغذائي يتطلب النظر إلى جوانب عدة، مثل الوصول البدني والاقتصادي المستدام إلى الطعام، وكذلك جودة الطعام ومدى تلبيته لاحتياجات التغذية، وبحسب تعريف منظمة الأغذية والزراعة الدولية "الفاو" الأمان الغذائي هو "توفير الغذاء لجميع أفراد المجتمع بالكمية والنوعية اللازمتَين للوفاء باحتياجاتهم بصورة مستمرة من أجل حياة صحية ونشطة"، وعرَّفه البنك الدولي بأنَّه الحالة التي يحقق فيها الأفراد في المجتمع القدرة على الحصول على كميات كافية من الطعام الآمن والصحي لتلبية احتياجاتهم الغذائية اليومية.

حالة الأمان الغذائي في العالم:

شهدت إحصاءات الأمم المتحدة لعام 2020 ارتفاعاً مؤلماً في معدل النقص الغذائي؛ إذ ارتفع بنسبة 1.5%، ليبلغ 9.9%، ووفقاً لهذه الإحصاءات، يعاني ما بين 720 و811 مليون شخص في العالم من الجوع، وهذا يشكل زيادة بلغت 161 مليون شخص مقارنةً بالعام السابق 2019، وبحسب التوقعات قد يزداد هذا الرقم إلى 660 مليون شخص إضافي يعانون من النقص الغذائي بحلول عام 2030.

يتوزع أكثر من نصف الأشخاص الذين يعانون من نقص التغذية في العالم في قارة آسيا، ويصل عددهم إلى 418 مليون إنسان، في حين يشكل الثلث الباقي ويصل عددهم إلى 282 مليون إنسان في قارة أفريقيا، وفي سياق متصل، كشف تقرير الأمم المتحدة عن وجود 149.2 مليون طفل دون سن الخامسة يعانون من التقزم، بينما يعاني 45 مليون غيرهم من الهزال.

حالة الأمان الغذائي في العالم

المصدر: تقرير الأمم المتحدة، موجز عن حالة الأمان الغذائي في العالم 2021.

أسباب انعدام الأمان الغذائي في الدول النامية:

1. النزاعات:

أحد أسباب انعدام الأمان الغذائي في الدول النامية هو وجود النزاعات، فقد يؤدي النزاع إلى تأثيرات سلبية في الإنتاج الزراعي وتوزيع الموارد الغذائية، وقد يتسبب النزاع أيضاً في تهجير السكان وتدمير البنية التحتية الزراعية وتشويه الأراضي الزراعية.

على سبيل المثال، في سوريا تأثرت الإنتاجية الزراعية تأثراً كبيراً بسبب النزاع المستمر، وهذا أثر سلباً في إمكانية السكان في الحصول على طعام كافٍ، وفي اليمن وجنوب السودان أيضاً تسبَّب النزاع أيضاً في تدمير البنية التحتية الزراعية وتعطيل عمليات الإنتاج الزراعي، وهذا أدى إلى نقص حاد في إمدادات الغذاء وارتفاع معدلات الجوع.

2. تقلبات المناخ:

يؤثر التغير المناخي في الظروف البيئية والزراعية، وهذا يؤدي إلى تقلبات في إنتاج المحاصيل وتأثيرات سلبية في موارد المياه والحياة النباتية، على سبيل المثال، في عام 2011، تعرضت دول شرق أفريقيا، مثل الصومال لفترة جفاف وتقلبات مناخية، وقد أدت هذه الظروف إلى نقص حاد في الموارد المائية وتدهور في إنتاج المحاصيل، وهذا أسفر عن أزمة إنسانية وانعدام للأمان الغذائي.

في عام 2010 شهدت باكستان فيضانات هائلة أثرت في الأراضي الزراعية والبنية التحتية الزراعية، وتسببت هذه الفيضانات في تدمير المحاصيل وفقدان الماشية، وهذا أدى إلى نقص في إمدادات الطعام وتأثيرات سلبية في الأمان الغذائي.

إقرأ أيضاً: كيف تساعدنا التكنولوجيا على الحد من تغيرات المناخ؟

3. حالات التباطؤ:

يؤثر التباطؤ الاقتصادي سلباً في القدرة الشرائية للفرد والاستثمار في القطاع الزراعي، وهذا يؤدي إلى تراجع في الإنتاج الزراعي وضعف في البنية التحتية الريفية، فعندما تواجه الدول التباطؤ الاقتصادي، قد تنخرط في تقليل الإنفاق على الزراعة وتطوير بنيتها التحتية، وهذا يشمل تخفيض الإنفاق على التكنولوجيا الزراعية وبرامج الري، وانخفاض القدرة على شراء المواد الزراعية الضرورية، على سبيل المثال، يواجه لبنان حالياً تحديات اقتصادية كبيرة، وهذا يؤثر في الأمان الغذائي لمواطني هذا البلد.

4. الانكماش الاقتصادي:

يشير الانكماش الاقتصادي إلى انخفاض في النشاط الاقتصادي على مستوى البلد، وخلال فترات الانكماش الاقتصادي، قد يتراجع الاستثمار في الزراعة، وهذا يؤدي إلى تقليل الإنتاج الزراعي وتراجع الدخل الفردي وتراجع الاستثمار في البنية التحتية الزراعية، مثل الري والنقل، وقد تزيد الحكومات من الضرائب والرسوم لتعويض نقص الإيرادات، وهذا يزيد من التكلفة الإجمالية للإنتاج الزراعي.

قد يرافق الانكماش الاقتصادي أيضاً ارتفاع معدلات التضخم، وهو ما يؤدي إلى زيادة في أسعار المواد الغذائية ويجعلها غير متاحة للفئات الفقيرة، على سبيل المثال، تعاني فنزويلا من أزمة اقتصادية خانقة، وشهدت انكماشاً اقتصادياً حاداً، وهذا أدى إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية والأمان الغذائي فيها، وأيضاً سوريا، ولبنان، ونيجيريا، والسودان، وغيرها من الدول النامية التي عانت من الانكماش الاقتصادي وسببت أزمات في الأمان الغذائي.

5. سلاسل الإمداد الغذائي غير الفعالة:

تتعدد أسباب فشل سلاسل الإمداد الغذائي، فقد يحدث تحدٍ في عملية الإنتاج وتوزيع المنتجات الغذائية، وهذا يؤثر في توفُّر الطعام في الأسواق المحلية أو يُحدِث خللاً في التخزين، ونقصاً وسائل النقل قد يؤدي إلى هدر المنتجات الزراعية قبل أن تصل إلى الأسواق، أو حدوث فشل في ضمان جودة الطعام والسلامة الغذائية قد يؤدي إلى عدم الثقة في المنتجات الغذائية وتقليل الطلب عليها والتسبب في أزمة غذائية.

6. الإنتاجية المنخفضة:

الإنتاجية المنخفضة في الدول النامية هي نتيجة لعوامل عدة مجتمعة، منها الاعتماد على التقنيات التقليدية الزراعية، ونقص المياه والأسمدة، والتقلبات المناخية مثل الجفاف أو الفيضانات قد تُلحِق أضراراً بالمحاصيل، وهذا يؤدي إلى انخفاض الإنتاج وتقليل إمكانية توفير الطعام.

7. عدم القدرة على تحمُّل تكلفة الأنماط الغذائية الصحية:

في عدد من البلدان النامية، قد يواجه الأفراد الذين يعيشون في ظروف فقر مشددة تحديات كبيرة في توفير أطعمة صحية، على سبيل المثال، إذا كان يوجد فقر ونقص في الدخل، فقد يكون الأفراد مضطرين إلى الاعتماد على الأطعمة ذات القيمة الغذائية المنخفضة التي قد تكون أقل تكلفة، حتى وإن كانت أقل صحة، وهذا يؤدي إلى نقص في التنوع الغذائي، وقد يسهم في انعدام الأمان الغذائي.

أزمة الأمان الغذائي، الواقع في بعض الدول حول العالم:

أزمة الأمان الغذائي، الواقع في بعض الدول حول العالم

1. أفريقيا الشمالية والساحل الإفريقي:

تواجه بعض الدول في هذه المنطقة تحديات كبيرة في مجال الأمان الغذائي، مثل "مالي"، و"تشاد"، و"السودان".

2. جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا:

تواجه بعض الدول مثل "نيجيريا"، و"النيجر"، و"مالاوي" تحديات في هذا الصدد.

3. جنوب شرق آسيا:

تواجه بعض الدول في هذه المنطقة تحديات في مجال الأمان الغذائي، مثل "بنغلاديش" و"كمبوديا".

4. أمريكا اللاتينية:

تعاني بعض الدول في هذه المنطقة، مثل "هايتي"، و"نيكاراغوا"، وغيرها من تحديات في مجال الأمان الغذائي.

5. منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي:

توجد "سوريا"، و"اليمن"، و"لبنان"، و"ليبيا"، و"العراق".

إقرأ أيضاً: الوضع الاقتصادي الصعب وتأثيره في صحة الإنسان النفسية والجسدية

سبل تحقيق الأمان الغذائي وتأمين الغذاء في العالم النامي:

1. تعزيز التنمية الزراعية:

زيادة الإنتاجية الزراعية من خلال التحسين في تقنيات الزراعة المستخدَمة وتوفير تدريب ودعم فني للمزارعين حتى يتعلموا ويعتمدوا تقنيات حديثة في زراعتهم، مثل استخدام الأسمدة والري الحديث ومحاربة الآفات الزراعية، وتعزيز استخدام الأسمدة العضوية لتحسين تركيبة التربة وجودة المحاصيل.

2. تحسين البنية التحتية الزراعية:

تطوير البنية التحتية الريفية، وتعزيز نظم الري الفعالة والمستدامة، وتوسيع شبكات النقل لتسهيل وصول المنتجات الزراعية إلى الأسواق.

3. تعزيز التنوع الغذائي:

تشجيع المزارعين على زراعة مجموعة متنوعة من المحاصيل لتحسين التنوع الغذائي وتقليل تأثير أي طارئ زراعي، إضافة إلى تعزيز استخدام الأصناف المقاوِمة للأمراض والظروف البيئية المختلفة والتشجيع على تربية الأبقار، والأغنام، والدواجن لتوفير مجموعة متنوعة من منتجات اللحوم والحليب.

4. التشجيع على تبني التكنولوجيا والابتكار:

تبنِّي التكنولوجيا الرقمية لتحسين إدارة المحاصيل والتنبؤ بالظروف الجوية.

5. تعزيز التثقيف والتدريب:

تقديم برامج تعليمية وتدريبية للمزارعين ونقل المعرفة المتعلقة بأفضل الممارسات الزراعية.

6. التحكم في الفاقد الغذائي:

تطوير نظم فعالة لتخزين الطعام ونقله وتقليل الهدر.

7. التعامل مع التحديات البيئية:

التكيف مع التغيرات المناخية والتقليل من تأثيرها في الإنتاج الزراعي من خلال تبنِّي ممارسات زراعية مستدامة.

8. تعزيز الاستثمار في القطاع الزراعي:

جذب الاستثمارات لتحسين البنية التحتية وتعزيز الإنتاجية.

9. تحسين الوصول إلى الأسواق:

دعم الفلاحين في الحصول على فرص الوصول إلى الأسواق المحلية والعالمية.

10. التعاون الدولي والشراكات:

تعزيز التعاون الدولي والشراكات مع الحكومات والمنظمات الدولية والقطاع الخاص.

11. توفير بيئة سياسية واجتماعية واقتصادية آمنة خالية من النزاعات.

إقرأ أيضاً: مفهوم الهندسة الزراعية: أهميتها وتخصصاتها

في الختام:

مسألة الأمان الغذائي وتأمين الغذاء هي محور حيوي يمس أرواح الملايين في الدول النامية، فإنَّ القدرة على الوصول إلى طعام صحي وكافٍ أصبحت ليس فقط قضية تتعلق بالنمو الاقتصادي؛ بل هي جوهرية للحفاظ على كرامة الإنسان وتحقيق التنمية المستدامة.

تتعرض الدول النامية لتحديات جمة في ظل الظروف البيئية القاسية، والتقلبات الاقتصادية، والنزاعات المستمرة، وتتجلى هذه التحديات بوضوح في قدرتها على توفير الغذاء بشكل آمن ومستدام لمواطنيها، وإنَّ أمننا الغذائي يتوقف على قدرتنا على التفكير بشكل استباقي وابتكاري في مواجهة تلك التحديات، والعمل المشترك لضمان أن يكون لكل إنسان في هذه الدول الحق في الحصول على طعام يغني جسده ويغذي روحه.




مقالات مرتبطة