اقتصاد السوق الاجتماعي وتجارب دولية فيه

تسعى حكومات الدول على اختلاف تقدمها الاقتصادي إلى تحقيق الرفاه الاجتماعي لمواطنيها وتحسين أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية، وسعياً إلى تحقيق ذلك الهدف تبنت العديد من الدول نظام اقتصاد السوق الاجتماعي الهادف في مبادئه وأفكاره إلى تدعيم الأمن الاقتصادي وتحقيق التماسك الاجتماعي.



لقد أبصر مصطلح اقتصاد السوق الاجتماعي النور بعد الحرب العالمية الثانية وهو بذلك ليس بحديث العهد؛ إذ حاولت الدول من خلال تبني هذا النظام تحقيق التوازن بين المنافسة الاقتصادية وبين العدالة الاجتماعية وبين الربح الفردي والرفاه الاجتماعي، وذلك من أجل زيادة الأرباح وتحقيق التنمية الاجتماعية في الوقت نفسه.

في ظل سعي نظام العولمة الاقتصادي إلى تحقيق الربح على حساب الأجور، يأتي نظام اقتصاد السوق الاجتماعي بمنزلة الرد عليه ليكون نظاماً اجتماعياً إنمائياً يلبي مطامح الشعوب في ظروف العولمة الرأسمالية.

مفهوم اقتصاد السوق الاجتماعي:

يقول "آدم سميث": "إنَّ اليد الخفية للسوق تقود إلى أفضل النتائج الاقتصادية حين يسعى الأفراد إلى تحقيق مصالحهم الشخصية"، والقصد من هذا القول هو أنَّ أسعار السوق تقوم بتنسيق قرارات السوق بين المنتجين والمستهلكين، فعندما تكون الأسعار مرتفعة تنخفض معها مشتريات المستهلكين، وخلاف ذلك صحيح، فإنَّ الأسعار المنخفضة سوف تشجع المستهلكين على عمليات الشراء لإشباع حاجاتهم، لكن يمكن أن يتحول السوق إلى شكل آخر هو اقتصاد السوق الاجتماعي عندما يرتبط بأسباب اجتماعية وسياسية وثقافية وقانونية واقتصادية.

يقوم مفهوم اقتصاد السوق الاجتماعي على حرية النشاط الاقتصادي وتُتخذ القرارات فيه بشكل لا مركزي، كما يرتبط الناس فيه بعلاقات أفقية، ولا تقوم الدولة بالتدخل بشكل مباشر؛ وإنَّما تتدخل بطريقة غير مباشرة، وعندما لا يكون للدولة أي تدخل سواء مباشر أم غير مباشر يكون قد بلغ أقصى حالات التطرف في الاقتصاد وهو الاقتصاد الحر.

يعرف (Alfred Armac) اقتصاد السوق الاجتماعي بأنَّه "مفهوم أيديولوجي يهدف إلى إنشاء وتعزيز علاقات التعاون والتنسيق بين مختلف مجالات المجتمع، متضمنة مختلف تكوينات الطبقة الواحدة وعَدَّه فكرة استراتيجية تروج لتعاون حقيقي بين مجموعات المجتمع المختلفة والمتعارضة في الأهداف، كما يهدف إلى وصول بعض المكاسب الاجتماعية إلى العمال والعمل في كامل النظام الاقتصادي".

كما يعرف بأنَّه "نظام اقتصادي اجتماعي توجد فيه العمليات الاقتصادية الأساسية (إنتاج وتبادل وتوزيع)، ويعمل الجزء الأكبر رداً على القرارات الحرة للمستهلكين والمنتجين المنافسين في السوق؛ إذ تخضع أهدافهم للتقييد عن طريق طلبات العدالة الاجتماعية".

من خلال ما سبق من تعريفات لاقتصاد السوق الاجتماعي نصل إلى القول إنَّه نظام اقتصادي يهدف إلى تحقيق النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية عن طريق الاعتماد على آلية السوق والمنافسة الحرة وفاعلية النشاطات الاقتصادية.

أهداف اقتصاد السوق الاجتماعي:

الأهداف الاقتصادية:

  1. تحقيق الاستقرار المالي وضمان استقرار الأسعار من خلال الموازنة بين النفقات والإيرادات.
  2. تحقيق التوازن في التجارة الخارجية واستقرار أسعار الصرف من خلال الصادرات والواردات.
  3. تحقيق الاستخدام الأمثل للموارد الاقتصادية المتاحة.
  4. الاهتمام النوعي بالمنتجات والعمل على تقديم منتجات جديدة باستخدام أحدث التقنيات.
  5. زيادة معدل النمو الاقتصادي.

الأهداف الاجتماعية:

تحقيق العدالة الاجتماعية في المجتمع التي تتجلى من خلال جوانب عدة منها:

  1. توفير فرص التعليم لجميع أبناء المجتمع وبصرف النظر عن طبقتهم الاجتماعية.
  2. توفير الرعاية الصحية لجميع المواطنين.
  3. توفير الحماية الاجتماعية لأبناء المجتمع.
  4. تفعيل المشاركة المجتمعية في إنشاء الثروة.

الأهداف البيئية:

يقوم اقتصاد السوق الاجتماعي على الاهتمام بالبيئة وتشجيع استخدام التقنيات الصديقة لها مثل الاعتماد على الطاقات المتجددة وإعادة تدوير النفايات وسوى ذلك.

الاقتصاد الاجتماعي

خصائص اقتصاد السوق الاجتماعي:

1. من حيث التنظيم الاقتصادي:

يتميز اقتصاد السوق بالحرية الفردية بالنسبة إلى اختيار مكان العمل والاستثمار والاستهلاك، كما يوفر حرية التجارة والتعاقد.

2. من حيث التنسيق:

الاعتماد على اللامركزية في اتخاذ القرارات والتقليل من الخطط المركزية وتصحيح القرارات الفردية الخاطئة بواسطة السوق والعمل على إيجاد التناغم بين الأسعار والمنافسة.

3. من الناحية الاجتماعية:

الالتزام بالقيم الإنسانية الأساسية لا سيما فيما يتعلق بكرامة الإنسان وتحقيق الدولة الاجتماعية؛ إذ يسعى اقتصاد السوق الاجتماعي إلى تحقيق أهداف فردية متمثلة في تحقيق الرخاء وأهداف على مستوى المجتمع متمثلة بالأمن الاجتماعي.

إقرأ أيضاً: اقتصاد السوق: مفهومه ونشأته ومبادئه

مبادئ اقتصاد السوق الاجتماعي:

  1. مبدأ المرونة: أي إمكانية زيادة أو التقليل من تدخل الدولة في النشاطات الاقتصادية.
  2. مبدأ الانفتاح: أي قدرته على التعامل مع المتغيرات والأحداث الداخلية والخارجية، ومن ثمَّ ضمان حرية التعامل والنفاذ إلى الأسواق المختلفة.
  3. مبدأ الاعتماد على السياسة النقدية: التي تعمل على تحقيق الاستقرار في الأسعار.
  4. مبدأ الملكية الخاصة وحرية امتلاك وسائل الإنتاج.
  5. مبدأ تفادي الاحتكارات: التي يمكن أن تؤدي إلى تشويه الأسعار.
  6. مبدأ حرية التعاقد: الذي يدعم ويزيد من المنافسة.
  7. مبدأ إعادة توزيع الدخل: بهدف ضمان تحقيق العدالة الاجتماعية.

الشروط المطلوبة لتطبيق نظام اقتصاد السوق الاجتماعي:

1. وجود بيئة قانونية مناسبة تضمن الحقوق الفردية والحرية الأساسية:

من أجل تحقيق الانتقال الأمثل إلى اقتصاد السوق الاجتماعي ينبغي وجود تشريعات قانونية تضمن حقوق الإنسان سواء الفردية منها أم الجماعية وتسمح بالمشاركة في اتخاذ القرار، وهذه التشريعات والأنظمة مدعومة بنظام قضائي عادل ونزيه ومستقل، إضافة إلى دعم حقوق الملكية وحيازة الأفراد للأراضي والعقارات واقتناء وسائل الإنتاج ومنحهم إمكانية التصرف فيها، ويضاف إلى ما سبق ضرورة توفر حرية التعاقد بحيث يتمكن كل فرد من إبرام العقود التي تناسبه ضمن إطار القانون.

2. المنافسة الحرة في السوق:

يُقصَد بالمنافسة الحرة تنافس كل من المنتجين والعارضين على إشباع حاجات المستهلكين من السلع والخدمات التي يحتاجونها ويطلبونها بالشكل الذي يمنع سيطرة إحداهما (المنتجين – العارضين)، وبحيث تتخذ القرارات في السوق بشكل يومي ووفقاً لآليات العرض والطلب، وهنا يجب أن تعمل الدولة على تنظيم المنافسة من خلال مراقبتها عن قرب لمعالجة أيَّة انحرافات ممكنة مثل الاحتكارات التي يمكن أن تحدث.

3. التنظيم النقدي:

تُفوَّض القرارات النقدية في السوق الاجتماعي للمصرف المركزي الذي يعمل على ضمان استقرار العملة عبر أدوات السياسة النقدية منها معدل الفائدة ومعدل الخصم ويؤكد اقتصاديو السوق الاجتماعي على أهمية استقلالية البنك المركزي واستقلالية قراراته.

4. الشراكة الفاعلة بين الجهات الموجودة في المجتمع والاقتصاد:

من الجهات الفاعلة في السوق الاجتماعي الأفراد وقطاع الأعمال والدولة ومؤسسات المجتمع المدني وشبكات الحماية الاجتماعية ومدى استعدادها جميعها للمشاركة في عمليات التطوير الاقتصادي والعمل على حل الخلافات التي قد تطرأ فيها والوصول إلى التنمية الاقتصادية والاجتماعية، كما تقتضي الشراكة أن يكون لتلك الجهات رأي في صياغة السياسة الاقتصادية.

اقتصاد

التجربة الصينية في اقتصاد السوق الاجتماعي:

بدأت ملامح اقتصاد السوق الاشتراكي بالظهور في الصين منذ عهد (Deng Xiaoping) الذي قام بإصلاحات اقتصادية عدة تمت تسميتها بأسماء مختلفة مثل اشتراكية السوق أو نظام السوق الاشتراكي، وقد هدفت الإصلاحات الاقتصادية في بدايتها إلى تشجيع الزراعة والإنتاج الصناعي والتقليل من الواردات والتقليل من سيطرة الدولة على الاقتصاد واستبدال تأثيرها بتأثير قوى السوق لتحويل الاقتصاد إلى اقتصاد تنافسي.

استمرت الإصلاحات؛ إذ ركزت على الحد من التخطيط المركزي وإقامة الاستثمارات الأجنبية وتشجيع الأبحاث التي حولت الصين نتائجها فيما بعد إلى سلع ومنتجات ووسعت من خلالها سوق التكنولوجيا.

توقفت هذه الإصلاحات في عام 1988 حين عانت الصين من ظروف اقتصادية صعبة نتيجة للتضخم ومن ثم عاودت في عام 1992؛ إذ حُدد في اجتماع الحزب الشيوعي الرابع الهدف، وهو تحقيق اقتصاد السوق الاجتماعي، ومنذ ذلك سادت الأسعار الحرة واستكملت عمليات إصلاح منشآت القطاع العام وأُنشئ نظام ضريبي ونظام مصرفي حقيقي، وفي عام 2001 انفتحت الصين على الأسواق العالمية من خلال انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية.

كانت الخطة الخمسية التاسعة أول خطوة في ظل اقتصاد السوق الاجتماعي، فقد هدفت إلى زيادة نصيب متوسط الفرد إلى أربعة أضعاف عما كان عليه في عام 1980، ومن الأهداف التي وضعتها: القضاء على الفقر وتحسين مستوى معيشة الشعب والإسراع في تحديث المؤسسات والمنظمات الحكومية، إضافة إلى العديد من الإصلاحات التي طالت المجالات كافة المالية والتكنولوجية والتعليمية والطبية وفي هياكل القطاعات الرئيسة لا سيما الزراعة والصناعة.

نتيجة لتلك الإصلاحات نجحت الصين في توفير السلع المختلفة وتأمين الغذاء والكساء وتبديد اقتصاد الندرة بشكل تدريجي؛ إذ ارتفعت الصادرات الصينية التقنية بنحو سبعة أضعاف وحققت أيضاً زيادة ملحوظة في دخل الفرد من 41.8 دولار في عام 1980 إلى 939.4 دولار في عام 2003.

في عام 2005 أصبحت ثاني أهم اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية، وانخفض معدل البطالة بنسبة 4.3% في عام 2007؛ أي بنسبة 10% من عام 2001، وتحسن مستوى المعيشة، وقُلِّصَت الفروق بين الأرياف والمدن، وأتت الخطة الثانية عشرة في عام 2015 لترسيخ التوازن الاقتصادي والاستمرار بالنمو الاقتصادي المستقر.

إقرأ أيضاً: قصة نجاح المليارديرة الصينية زوو كنفي أغنى امرأة في الصين

في الختام:

ما يميز اقتصاد السوق الاجتماعي أنَّه يعبر عن أفكار متناسقة وتقدمية وتصور طموح، وهو ليس بمشروع لفكر منجز نهائي؛ بل هو مفتوح ومتطور باستمرار، لكن مهما اختلفت التفاصيل تبقى الفكرة الرئيسة به أنَّه اقتصاد حر تحكمه المنافسة الحرة والكفاءة الاقتصادية، كما يمثل إطاراً لروابط اجتماعية واقتصادية وسياسية تضمن الدولة من خلالها الحقوق والحريات والعدالة الاجتماعية والتوزيع العادل لكل من الدخل والفرص وتبقى مراقبة وتتدخل فقط لضبط السوق عند حدوث انحرافات ناتجة عن آلية عمل السوق.




مقالات مرتبطة