اضطراب تبدد الشخصية: تعريفه، وأعراضه، وأسبابه، وطرق علاجه

يسافر عدد كبير من الأشخاص إلى بلدان أخرى بعيدة عن بلدهم الأم، تاركين وراءهم ذكرياتهم وتجاربهم وأهاليهم وطفولاتهم وأصدقاءهم، وقد يتطلب الأمر منهم بعضاً من الوقت للانغماس في الواقع الجديد، والتماهي مع أسلوب الحياة المختلف، ولكن تبقى مشاعرهم وذكرياتهم القديمة مخزنة في لا وعيهم، وقابلة للاستدعاء في كل لحظة، فتجدهم يستمتعون بكَمِّ المشاعر المرهفة الحقيقية التي أُنشئت على مر سنوات عمرهم.



من جهة أخرى، لم يعايش العديد من الأشخاص تجربة السفر، وما يزالون ضمن أكناف عائلاتهم وأصدقائهم؛ إلا أنَّهم يُشككون في كل لحظة في حقيقة مشاعرهم، ويعيشون شبه حياة؛ وكأنَّهم موجودون ضمن حلم ولا يستطيعون الاستيقاظ منه، فهم دائمو التساؤل عن حقيقة وجودهم، وأحاسيسهم.

لقد احترفوا صناعة المنطق للمشاعر، وبرعوا في عدم السماح لها في التجلي الحر والطبيعي، فهم لا يعترفون بالفطرة السليمة بل يميلون إلى خلق حاجز بين مشاعرهم وطرائق تعبيرهم الطبيعية، مما يقودهم إلى تشويه قدراتهم على عيش اللحظة، مبتعدين كل البعد عن حالة السلام والهدوء الداخلي، متعلقين بحالة مرضية من القلق والتوتر والخوف الدائم.

قد تقودهم حالة الانفصال عن الواقع والتشكيك الدائم بالكينونة والمشاعر؛ إلى الاعتقاد بإصاباتهم بالجنون، مؤمنين بتدهور أوضاعهم النفسية والعقلية كثيراً، وبأنَّهم على شفير الهاوية، الأمر الذي يُفاقم الأمور أكثر بكثير؛ إذ لا تؤدي حالة الرفض والمواجهة إلا إلى المزيد من المشكلات النفسية، وتبدأ الحلول في الظهور بمجرد القبول والاعتراف؛ ففي اللحظة التي يتقبل فيها هذا الشخص ما يعانيه من صعوبات واضطرابات، ويكفُّ دماغه عن التوتر والخوف والقلق؛ تبدأ جملته العصبية في رؤية الموضوع من زاوية مختلفة وبطريقة أكثر وعياً، وحكمة وواقعية.

عندما تهرب من مخاوفك، فأنت تعزِّز فكرة أنَّ مخاوفك أقوى منك؛ لذلك أول خطوة في سبيل العيش براحة وسلام هي أن تواجه مخاوفك وتعترف بها، وأن تقرر مسايرتها وترويضها عوضاً عن مقاومتها ورفضها.

إنَّه لشعور قاسٍ أن تكون في صلب الواقع، إلا أنَّك تشعر بالغربة عنه وعدم الاتحاد معه.

نعم، يعاني مريض اضطراب تبدد الشخصية ما فيه الكفاية، أما عن أسباب وأعراض وعلاج الاضطراب؛ فهذا ما سنتعرف إليه من خلال هذا المقال.

ما هو اضطراب تبدد الشخصية؟

يشعر الإنسان في هذا الاضطراب بأنَّه منفصل تماماً عن واقعه؛ وكأنَّه ينكر وجوده الحقيقي في الواقع، ويُخضِع حياته ومشاعره ووجوده إلى الشك، فيتساءل إن كانت مشاعره تخصه أم تخص شخص آخر، وإن كان هو مَن يعيش حياته أم إنَّه مجرد مراقب خارجي للأحداث والتفاصيل، وإن كانت هذه هي حياته فعلاً أم إنَّه مجرد حلم لا يملك السيطرة عليه وإيقافه؛ إنَّ هذا الاضطراب حالة من تشوه الوعي والإدراك الخاص بالمشاعر، وعدم القدرة على الاعتراف بالحقيقة الصرفة.

أعراض اضطراب الاغتراب عن الواقع:

1. تشوه التفكير والإدراك:

يعبِّر كل الناس عن مشاعرهم بطريقة مباشرة وعفوية وتلقائية، فعندما يشعرون بالفرح، فإنَّهم يسمحون لموجات السعادة أن تتخللهم وتجتاحهم، في حين يصنع مريض تبدد الشخصية وسيطاً بين مشاعره وبين التعبير عن هذه المشاعر؛ إذ إنَّه يبدأ فور شعوره بشعور ما عملية فحص مشاعره والتأكد من حقيقتها، فلا يسمح لها بالسريان، بل يقيدها ويحدها ضمن قوالب فكرية وإطارات معينة مبالغ بها كثيراً، صابغاً تعليقات وملاحظات كثيرة على مشاعره؛ ففي اللحظة التي يحمل بها ابنه الصغير في حضنه، ويستشعر تلك الراحة النفسية والسعادة؛ يبدأ مباشرة بفصل ذاته عن الشعور واللجوء إلى إلقاء الاتهامات والشكوك على مشاعره، كأن يتساءل فيما إذا كانت مشاعره حقيقية تجاه ابنه أم أنَّها مزيفة، فهو على الرغم من إحساسه بالأمر إلا أنَّه لا يريد تصديقه، فكأنَّ هناك جرس إنذار داخلي ينبهه عند قدوم أي شعور، ويطلب منه الفحص والتدقيق الشديد.

من جهة أخرى، يعاني مريض تبدد الشخصية من شكوك خطيرة عن الوجود والخلق، تجعله دائم القلق والخوف من المستقبل والآتي؛ ففي حين يميل الكثير من الأشخاص إلى البحث في القضايا الوجودية كبدايات الخلق وماهية الكون ومصير البشر والغاية من الحياة والتساؤل عن الله؛ إلا أنَّهم يتقربون ببحثهم من الحقيقة ويصبحون أكثر هدوءاً وحكمة وصبراً، على عكس مرضى اضطراب تبدد الشخصية الذين يصبحون أكثر خوفاً ورعباً.

2. الخوف الدائم والقلق وقلة التركيز:

يبتعد مرضى اضطراب تبدد الشخصية عن الهدوء والتوازن النفسي، فتجعلهم حالة الانفصال عن الواقع والشك الدائم بمشاعرهم ووجودهم؛ دائمي الخوف والقلق، وقد تتطور الحالة لديهم إلى الاعتقاد بأنَّهم قد تحولوا إلى مجانين، الأمر الذي يزيد من حدة الأمر وسوئه؛ فالاستسلام المطلق للأفكار الوسواسية دون أدنى إدراك لمقدار سخافتها؛ يزيد من ضعفهم ومن توغلهم في الاضطراب، ومن انفصالهم عن الواقع وتفكك شخصياتهم، ويُضعِف تركيزاتهم وانتباهاتهم.

إقرأ أيضاً: الخوف المَرضي.. أنواعه، أسبابه، وطرق علاجه

ما هي أسباب اضطراب تبدد الشخصية؟

1. الصدمات النفسية العنيفة:

قد يتعرض الطفل إلى أزمة نفسية قاسية جداً في طفولته؛ كأن يَخبَر تجربة اعتداء جنسي عنيف أو حالة من القهر العاطفي الشديد؛ ولأنَّه لا يملك قدرة على خلق تفسيرات منطقية وعقلانية لما يتعرض له من ظواهر وآلام مبرحة، فيقوم العقل بصناعة تقنية نفسية للتعامل مع الألم الهائل، وهي تقنية الإنكار والتجاهل الكامل.

يعتمد مبدأ هذه التقنية على خلق حاجز منيع بين التجربة التي تعرض لها الطفل وبين مشاعره حيالها وإدراكه لها، كأن ينكر ويرفض خُبْرَه هذه التجربة تماماً، وتبدأ حالة انفصاله عن الواقع في الظهور وبشدة وذلك مع تكراره لحالة الإنكار وعلى مدار سنوات طويلة، فتضيع عنده الرؤية وتختلط لديه الحقائق ويتوه ما بين الوهم والواقع، ويتحول الشخص نتيجة إدمانه لحالة التجاهل المؤذية؛ إلى إنسان متشككٍ في كل مشاعر حياته، بطريقة يخاف فيها الوثوق بأي شعور يشعر به، وكأنَّه يخاف الاعتراف الصادق بمشاعره؛ إذ يكبله الخوف الداخلي المزروع فيه من أيام الماضي، ويسيطر على إدراكه ووعيه، فيتشوه لديه الوعي، ويحترف سيناريو رفض الحقيقة وعدم الوثوق في أي أمر، ويجد في سؤال "هل مشاعري حقيقية أم لا" مصدراً لأمانه المزيف ومُخدِّراً لخوفه الشديد، وكأنَّه يعود لإسقاط آلية الدفاع القديمة على كامل حياته.

2. ضعف معالجة وليس وراثة:

أثبتت الدراسات أنَّ اضطراب تبدد الشخصية لا علاقة له بالعوامل الوراثية؛ بل هو نتيجة لعدم القدرة على معالجة الترسبات النفسية الماضية وصورة عن الاستسلام المطلق لمشاعر الخوف والقلق دون محاولة المواجهة والمعالجة.

3. اضطراب نفسي وليس عقلي:

أثبتت الدراسات أنَّ اضطرب تبدد الشخصية لا علاقة له بالمرض العقلي أو الجنون، فهو حالة نفسية بامتياز، وضعف في قدرات الشخص على تفسير المؤثرات الخارجية والتعاطي مع متغيرات الحياة.

4. خلل في مركز العمليات:

يتعرض الكثير من الأشخاص إلى الظروف الخارجية ذاتها؛ ولكن رغم ذلك نجد أنَّ قصة كل إنسان مختلفة عن الآخر، فما هو السبب في ذلك؟ في الحقيقة يختلف مركز العمليات لدى كل شخص عن الآخر؛ إذ يفسر كل شخص الظرف الذي يتعرض له من زاوية مختلفة.

ويعاني مريض اضطراب تبدد الشخصية من ضعف في مركز المعالجة لديه، فهو قد فسر ما تعرض له من ظروف حياتية بطريقة سلبية، شوهت وعيه وإدراكه للأمور، فقد يتعرض شخصان للتجربة النفسية المؤلمة ذاتها، وفي حين يجد فيها الأول فرصةً للنمو الروحي وتحدياً حقيقياً لقوته ومناعته النفسية؛ يميل الآخر إلى الانهيار والإحباط ويعيش حالة من الصراعات والاضطرابات، مُسقِطاً اللوم على الظروف الخارجية أو على الحظ، مُبعِداً ذاته عن تحمل المسؤولية.

شاهد بالفيديو: 8 طرق لهدوء النفس

كيف نعالج مريض اضطراب تبدد الشخصية؟

1. إصلاح مركز العمليات (العلاج المعرفي السلوكي):

لقد تشوه مركز العمليات والمعالجة لدى مريض اضطراب تبدد الشخصية على مدار سنوات طويلة، فقد غُيِّب الإدراك وخسر المريض القدرة على التفسير الصحيح لما يتعرض إليه من أحداث، وسلَّم قيادة حياته إلى التوتر المفرط والقلق المبالغ فيه، الأمر الذي أثر في أدائه وتركيزه وإنتاجيته؛ ولكي نُعيد الفعالية لمركز العمليات والمعالجة، يجب على المريض:

  • التقبل: تأتي معظم المشكلات النفسية من الرفض، فتولد حالة الرفض الصراعات الداخلية وعدم السلام، فعندما يرفض مريض اضطراب تبدد الشخصية الأحداث التي خَبِرَها في الماضي؛ فهذا يعني مقاومته لها أو هروبه منها، وتخلق لديه كلتا الحالتين الكثير من المشاعر السلبية المدمرة؛ ويبدأ المريض بالتشافي في حال اتخذ الخطوة الأولى من العلاج وهي التقبل، كأن يعترف ويتقبل ما يرد إلى عقله من أفكار وسواسية تطلب إليه فحص مشاعره بطريقة مرَضية، ومن ثم يسمح لها بالمرور بمنتهى السلاسة، وتساعدك هنا آليات التنفس الاسترخائي في الوصول إلى حالة من الهدوء ووقف الأفكار المطلوبة.
  • المواجهة: اسأل نفسك: إلى متى ستعتمد آلية الهروب والتخدير في معالجة آلامك الماضية؟ إلى متى ستتبنى حالة الإنكار؟ لا بد من مواجهة الأفكار الوسواسية بقوة، بدلاً من الهروب منها أو محاربتها؛ وتعني المواجهة هنا قبولها دون الخوف منها أو القلق بشأنها، أي عُدَّ نفسك أنَّك أقوى منها وأنَّك مسيطر عليها؛ ففي كل مرة تُثبِت لدماغك أنَّك لست خائفاً أو متوتراً من هذه الأفكار التي تنقض عليك لحظة شعورك بشعور ما؛ فإنَّك تعزز فكرة أنَّك قوي ومتحكم، على عكس ما كنت تفعله في الماضي إذ كنت تبدي الكثير من الخوف وفقدان السيطرة والاستسلام فور ورودها إليك.
  • التفسير الصحيح: لكي يصل المريض إلى إعادة تنشيط مركز العمليات؛ يجب عليه أن يَعِي مسألة هامة؛ وهي أنَّ كل المشكلات النفسية سببها أحد أمرين؛ نقص معلومات أو معلومات خاطئة؛ لذلك عليه أن يُعِيد تفسيره لتفاصيل حياته بعد التقبل والتحرر من تسلط الأفكار الوسواسية، ليكتشف بعدها الحكمة من وراء المواقف السلبية التي خَبِرها؛ أي لينظر إلى الأمور من زاوية مختلفة؛ فعلى سبيل المثال: ينظر مَن تعرض إلى الاعتداء إلى تجربته بوصفها فرصة لكي ينمو ويتحسَّن، وتحدياً قوياً لكي يُظهِر أفضل ما لديه، وقد يستطيع أن يربط رسالته بهذه التجربة من خلال بناء مشروع لحماية الأطفال المعتدى عليهم.
  • الصبر: يستدعي الأمر الصبر؛ إذ يحتاج العقل إلى الكثير من التكرار والتدريب على منهجية التفكير الجديدة، والرؤية المختلفة للأمور.
  • بناء العادات: على مريض اضطراب تبدد الشخصية أن يبني عادات صحية؛ لكي يشغل وقته في أمور مفيدة، وبالتالي ينمي ثقته بذاته ومهاراته بهدف بلوغ رسالته في الحياة، وبالتالي لا يعود إلى الانشغال بتوافه الأمور، ويصبح أقوى من سيطرة الأفكار الوسواسية عليه.
إقرأ أيضاً: الشخصية القهرية أو اضطراب الوسواس القهري (OCD): أسبابه، وطرق علاجه

2. العلاج الدوائي:

يميل بعض الأطباء إلى وصف أدوية للتقليل من حالة الخوف والقلق والتوتر التي يعاني منها مريض اضطراب تبدد الشخصية؛ ولكن يبقى العلاج الأنفع هو العلاج المعرفي السلوكي المذكور سابقاً.

الخلاصة:

تليق بك الحياة، وتستحق خُبْر كل المشاعر الصادقة الحقيقية، فكن مواجهاً ولا تهرب من مشاعرك، وفسر ظروفك بحكمة وذكاء، واستفد من نقاط قوتك، واشغل كل وقتك بالعادات المفيدة، واسمح للأفكار السلبية بالسريان دون مقاومة، وغذي الأفكار الإيجابية وامنحها الحب والاهتمام.

 

المصادر: 1، 2، 3، 4، 5




مقالات مرتبطة