أفكار لتعزيز الحافز والتغلب على كآبة العمل من المنزل

مع مرور الأيام التي نقضيها في الحجر الصحي، أو في العمل من المنزل (إذا كان من المفروض العمل في المكتب)، نواصل العمل دون أن تكون هناك نهاية واضحة في الأفق، ومن كان يستلذ منا بمتعة العمل من المنزل في بداياته، ما لبثَ أن فقدَ تلك اللذة، وباتت أيامنا عبارة عن نسخة مكرَّرة ليس إلا، فعندما تصبح حياتنا رتيبةً، يتسلل الملل إلينا، مما يؤدي إلى فتور الدافع، والذي يؤدي بدوره إلى انخفاض الإنتاجية.



قد يساعد الذكاء البدني، ففي الوقت الحالي، تتسابق مئات المواد الكيميائية (الهرمونات والناقلات العصبية) عبر أجسامنا في مجرى الدم والجهاز العصبي، وبعض هذه الهرمونات مألوف بالنسبة إلينا، مثل: الكورتيزول والأدرينالين والتستوستيرون، والتي تُحدِّد إلى حد كبير طريقة تفكيرنا وشعورنا وحديثنا وتصرُّفنا، حيث يعمل معظمنا تحت رحمتها ونشعر بالأفكار وردود الفعل والعواطف دون أن ندرك أنَّه يمكِننا إدارتها بفاعلية. يعني الذكاء البدني القدرة على اكتشاف توازن بعض الهرمونات الرئيسة والتأثير فيها استراتيجياً حتى نتمكن من تحقيق المزيد وتقليل التوتر والعيش والعمل بسعادة أكبر.

تُستخدَم تقنيات الذكاء البدني منذ عقود -كثير منها مستمد من عالمَي الرياضة والفنون- وكلها مدعومة بعلم الأعصاب، وهناك المئات من تقنيات الذكاء البدني التي يمكِن دمجها بسهولة في حياتنا اليومية، مثل: التنفس والحركة والتفكير (على سبيل المثال: التخيل) والتفاعل مع بعضنا بعضاً، ويوجد أربعة عناصر للذكاء البدني: القوة والمرونة والتكيف والتحمل، وكل منها هام للتحفيز والإنتاجية بطرائق مختلفة:

1. القوّة:

عندما نشعر بالإيجابية تجاه شيء ما أو شخص ما، فإنَّنا نواجه استجابة "الإقبال"، حيث يرتفع "الدوبامين" (المسؤول عن السعادة والمكافأة)، ويستقر "الكورتيزول" (المسؤول عن التوتر) على النحو الأمثل، فنشعر بأنَّنا نُكافَأ، مما يجعلنا نرغب في التفاعل والعمل والإحساس في الموقف أكثر، أما عندما نشعر بخيبة الأمل أو الإحباط أو انخفاض الحافز أو الغضب أو الاستياء من شيء ما، فإنَّنا نواجه استجابة "الإدبار"، وهي استجابة تهديد أولية يرتفع فيها "الكورتيزول" وينخفض "​​الدوبامين"، فنشعر بأنَّ الموقف غير مجزٍ، ونبتعد عنه أو نقاومه بالفطرة.

يُعَدُّ الانخفاض في الحافز الذي يعاني منه العديد من الأشخاص في أثناء مواجهتهم لروتين العمل غير المُلهم أو ربما المثير للقلق في فترة الحجر الصحي بمثابة "استجابة إدبار" كلاسيكية، وإذا تمكَّنَّا من التعرُّف إلى المواقف والمطالب والتوقعات كما هي -محفزات استجابات التهديد الأولية (الإدبار) أو محفزات استجابات المكافأة الأولية (الإقبال)- فيمكِن أن نكون أقل تفاعلاً وأكثر تنظيماً في كيفية استجابتنا، وإذا كنا نعمل مع فريق أو نقوده (أو حتى نربي الأطفال) ونعرف ما يحتاجه الناس ليشعروا بتفاعلهم، فيمكِننا التحدث والتصرف بطريقة تجمع الناس معاً، من خلال إنشاء وتعزيز الانجذاب نحو استجابة "الإقبال" سواء كنا نعمل معاً في مكتب أو نتواصل من خلال مؤتمر عبر الفيديو.

من أجل إدارة استجابتَي الإقبال والإدبار وإنشاء بيئة تُعزز استجابات الإقبال، نحتاج إلى القوة، القوة الداخلية والثقة والعزم والقدرة على التشبث بمواقفنا والتصرف والتفكير بحكمة وحزم دون تهديد الآخرين أو الشعور بالتهديد، وأن نكون حازمين إيجابياً، ومستقلين في التفكير، وأذكياء وأكثر إنتاجاً، حيث تُوفر تقنيات القوة التالية أساساً لإعداد نفسك للتعرُّف والتجاوب مع استجابتَي الإقبال والإدبار وخلق استجابات الإقبال عبر فِرَقنا:

  • ترسيخ نفسك: تؤثر وضعيتك تأثيراً كبيراً في شعورك بالقوة والثقة والتسامح، حيث تُمكِّنك الوضعية الشامخة من الشعور بالقوة والحضور واليقظة والطمأنينة في آنٍ واحد، ويعزز الارتكاز انسجام هرمون "التستوستيرون" المرتفع و"الكورتيزول" المنخفض، ويدعم وظيفة "الدوبامين" لدينا، مما يمكِّننا من تركيز وتنسيق طاقتنا الجسدية والعقلية للإنجاز والفوز، ولترسيخ نفسك، اشعر بثقل جسدك على الأرض أو على الكرسي متجذراً وليس "متوتراً"، وواصِل التنفس المنتظم، وحرِّر التوتر من جميع أنحاء الجسم، وضعْ مركز كتلتك في المكان الذي تريده (حرِّك جسمك إلى الأمام والجنب والخلف للعثور على النقطة المثلى)، وتنفَّس حتى أسفل السرة (إلى مركز ثقلك)، وركِّز، وكرِّر ثلاث مرات: التوازن، والتنفس، والتركيز.
  • التنفس المنتظم: اشعر بأنفاسك وأنت تقرأ هذا. هل تتنفس بسرعة أم ببطئ، بضحالة أم بعمق؟ يحبس الكثير من الناس أنفاسهم في أثناء تفكيرهم، ويتنفسون بسرعة في أثناء كتابة رسائل البريد الإلكتروني، وبضحالة في اجتماعات العمل أو في أثناء إعداد العشاء أو مشاهدة التلفزيون، حيث تؤثر الحياة في طريقة تنفُّسنا عن غير قصد، مما يضر بوظيفتنا المعرفية، واستقرارنا العاطفي، وإنتاجيتنا، بينما يُمكِّننا التنفس المنتظم من تقوية أدمغتنا وتهدئة عواطفنا، حيث تُطلَق مادة "الأسيتيل كولين" (acetylcholine) الكيميائية التي تقاوم "الأدرينالين" وتمكِّننا من الشعور بالاستقرار العقلي والعاطفي والثقة، وتمنحنا القدرة على التعامل مع المواقف بوضوح وتوازن وسيطرة.
  • من الناحية المثالية: اقضِ أكثر من 10 دقائق يومياً في التنفس البطني، مع العد الثابت للشهيق (من خلال الأنف) والزفير (من خلال الفم)، فقد يكون عدد مرات الشهيق والزفير مختلفين، فاكتشِف العدد الذي يناسبك. وجدَت دراسةٌ أُجرِيَت على مصرفيين في جنوب إفريقيا أنَّه بعد 21 يوماً من التنفس المنتظم، حققوا تحسناً بنسبة 62% ​​في القدرات المعرفية الخاصة بمهام تتطلب اتخاذ قرارات معقَّدة، ووجدَت أنَّ التنفس غير المنتظم يؤدي إلى التسويف وتأجيل اتخاذ القرارات الهامة، ويُعَدُّ التأمل طريقةً رائعةً لدمج التنفس المنتظم في حياتك اليومية.
إقرأ أيضاً: فوائد تمرينات التنفس للعقل والروح والجسد

2. المرونة:

قد يكون انخفاض الحافز أيضاً نتيجةً لانخفاض الإلهام -خاصة إذا كنا نتَّبع الروتين القديم نفسه- وتشتت انتباهنا بسبب عدم اليقين والقلق. ولزيادة الإلهام، نحتاج إلى تحسين قدرتنا على الإبداع والابتكار، وكذلك القدرة على التفكير بشكل متباين (ضروري للإبداع والابتكار)، كما تُعَدُّ هذه التقنيات بدايةً جيدةً:

  • عدم المرونة الجسدية تؤدي إلى عدم المرونة العقلية، وسيساعد تخفيف التوتر في جسمك على تحرير عقلك، فافحص جسدك يومياً لتحديد ومعالجة الأجزاء التي تشعر فيها بالتوتر.
  • ابدأ المشي حتى لو كان حول المنزل، حيث تشير الأبحاث إلى أنَّ فرصة التوصل إلى فكرة مبتكرة تزداد بنسبة 45% في أثناء المشي مقارنةً بالجلوس، حتى لو كان ذلك على جهاز المشي.
  • تحويل تركيزك للنظر إلى الطبيعة أو أي شيء جميل يثير الإبداع أيضاً.
  • بالنسبة للفِرَق، أنشِئ ثقافاتٍ قائمة على الثقة والتجديد مع تشجيع المغامرة، وحافِظ على مزاج إيجابي من خلال تقييم مساهمات الأشخاص حتى يستمروا في الانغماس بعمق في التفكير معاً، وشجعهم على وضع خطط واضحة لتطبيق الأفكار الجديدة التي وافق عليها الفريق.

يُعَدُّ الابتكار هاماً جداً اليوم، حيث تعمل المنظمات على تنفيذ حلول إبداعية استجابةً للتحديات والفرص الفريدة التي أوجدَتها الجائحة.

إقرأ أيضاً: 4 أسباب تجعل المرونة مهارة شديدة الأهمية

3. التكيّف:

التكيف هو قدرتنا على التعافي من المحن والتحديات (مثل الأزمة الحالية)، والبقاء متفائلين في مواجهة خيبة الأمل، وتنمية عقلية التعلم، وبناء شبكات دعم مؤثِّرة لزيادة الإنتاجية:

  • يفيد البحث الذي أجراه خبير الاقتصاد العصبي "بول زاك" (Paul Zak)، المنشور في كتابه: "عامل الثقة" (The Trust Factor)، أنَّه في المنظمات التي تشارك المعلومات على نطاق واسع وتبني العلاقات عن قصد، ويطلب القادة فيها الدعم، هناك مشاركة أكبر بنسبة 76%، ويمتلك الناس طاقةً أكثر بنسبة 106%، وهم 50% أكثر إنتاجاً، و29% أكثر رضاً عن حياتهم، ولديها إجازات مرضيَّة أقل بنسبة 13%، وحالات إنهاك أقل بنسبة 40%. ولقد اختبر مستويات الأوكسيتوسين (المسؤول عن الترابط الاجتماعي والثقة) في مجرى الدم لآلاف الموظفين في العديد من القطاعات والثقافات، وأظهر أنَّ الثقة والهدف يعززان بعضهما بعضاً، مما يخلق آليةً لمستويات عالية من "الأوكسيتوسين" على مدى فترة أطول، ويرفع كل من الشبكات القوية وإيجاد الدعم "الأوكسيتوسين"، مما يساعد على بناء الثقة؛ وبالتالي هما جزء أساسي من سعادتنا وحجر الزاوية في قدرتنا على التكيف.
  • يُعَدُّ بناء شبكات الدعم هذه والحفاظ عليها أمراً هاماً بشكل خاص في خضمِّ هذه الأزمة؛ لأنَّنا غير قادرين على قضاء الوقت معاً وجهاً لوجه، مما يقلل من مستويات "الأوكسيتوسين" لدينا، فابذل جهداً مشتركاً للاستفادة من شبكة علاقاتك الشخصية والمهنية من خلال الوصول إلى الأشخاص عبر شبكتك لتقديم الدعم، وفي حالة الاجتماع عن طريق الفيديو، انظر إلى عدسة الكاميرا لزيادة "الأوكسيتوسين" في الآخرين حتى من مسافة بعيدة.
  • أحد المكونات الأساسية الأخرى للتكيف هو الاسترخاء والتعافي، ففي بعض الأحيان، يرتبط نقص الحافز والإنتاجية بالعمل الزائد، فإن وجدتَ أنَّك تعمل بجد أو لساعات أطول من المعتاد وبحدود أقل في خضمِّ هذه الأزمة، فتأكَّد من إتاحة الوقت الكافي للأنشطة المجدِّدة للنشاط، فالحياة عمل متوازن بين الجهد والتعافي، وبعد إرهاق أنفسنا، يجب أن نخصص وقتاً للتعافي. جرِّب ما يلي:
    اكتب كلمة "REST" في أجزاء من تقويمك على مدار الأسبوع، واحترِم تلك الفترات الزمنية، والتي تضم:
    • التراجع "Retreat" (الابتعاد عن جميع الأجهزة الرقمية والوسائط ووسائل التواصل الاجتماعي وما إلى ذلك لإعطاء نفسك استراحة ذهنية).
    • الأكل "Eat" (تناوُل طعام صحي، مثل: البروتين الخالي من الدهون والخضار والفاكهة والكربوهيدرات البسيطة المحدودة والسكر).
    • النوم "Sleep" (من 7 إلى 9 ساعات كل ليلة مع زيادة الساعات حسب الحاجة من خلال أخذ قيلولة، أو النوم بضع دقائق في وقت مبكر كل ليلة).
    • الاستمتاع "Treat" (أمور صحية تنشِّطك، مثل: التنزه أو أخذ حمام ساخن أو تناول فنجان شاي مهدئ أو اللعب مع الأطفال أو الاستماع إلى موسيقى جميلة أو أي شيء آخر تجده منعشاً).
إقرأ أيضاً: ما هي مهارات التكيف؟ وكيف تطورها؟

4. التحمل:

يشير التحمل إلى القوة الذهنية والمثابرة والتخطيط، فعندما نعمل على شيء يتطلب صبراً شديداً أو جهداً مستداماً على الأمد الطويل، نحتاج إلى التحمل. تخيَّل "نفق التحمل"، ففي أثناء مرورك بهذا النفق، قد تضيق الجدران ويخفت الضوء في نهاية النفق، ولكن إذا أردتَ الحفاظ على هذه الجدران عريضةً وقويةً والنور ساطع، خاصةً عندما تصبح الأمور صعبةً، ستساعد هذه النصائح على زيادة حافزك؛ وبالتالي إنتاجيتك:

  • خصِّص أول ساعتين من اليوم للمهام الرئيسة، حيث يؤدي التعامل مع المهام الهامة مبكراً إلى رفع مستوى هرمون "التستوستيرون"؛ لأنَّ مواجهة المهام بدلاً من تأجيلها أو تجنُّبها يمنحك إحساساً بالانتقال بشجاعة إلى منطقة جديدة، كما يؤدي إلى تعزيز "الدوبامين" أيضاً؛ لأنَّ الإنجاز سيمنحك شعوراً بالحصول على مكافأة، وبدء الصباح بذهن صافٍ، عندما تكون الذاكرة حادةً وتكون قادراً على استيعاب المعلومات بسرعة، يُمكِّن "الأسيتيل كولين" أيضاً من موازنة "الأدرينالين"، وسوف تشعر بالثقة والتحفيز طوال بقية يومك، حتى لو لم يكن ذهنك متقداً كما كان في بداية اليوم. على العكس من ذلك، يُخفِّض كل من التسويف والتجنب إنجاز المهام مستويات "الدوبامين"، ويزيدان مستويات "الكورتيزول"، مما يديم دورة الإحباط ونقص الإنتاجية.
  • يُمكِّننا تقدير الذات وتشجيع من حولنا وتشجيعهم لنا من تحمُّل الصعوبات في أي "نفق تحمُّل" نعايشه؛ إذ من الهام أن نحتفل بنجاحاتنا ونعطي ونتلقى التقدير من أجل زيادة مستويات "الدوبامين" التي تسمح لنا بالتركيز على أهداف صعبة، فنحن بحاجة إلى بعضنا بعضاً، والدعم والتقدير الذي نُقدِّمه ونحصل عليه جزء هام من التحفيز.
  • يتحسن الدافع عندما نتوافق مع قيمنا وهدفنا الأساسي، ونفعل ما يُسعدنا، ونستخدم قوَّتنا على أكمل وجه؛ فإدراك هذه الدوافع العميقة يعزز إنتاجيتنا ويزيد من احتمالية مثابرتنا.
  • تؤدي اللغة دوراً كبيراً في كيفية شعور الناس المتحفزين؛ إذ نحتاج إلى استخدام لغة المسؤولية مقابل اللوم من أجل جعل انتقاد فريق أو أداء الشركة أمراً محفزاً. ضع في الحسبان تبنِّي هذا النشاط الجماعي بعد أي حدث هام أو اجتماع أو مشروع، واطلب من أعضاء الفريق واحداً تلو الآخر أن ينتقدوا أنفسهم أولاً من خلال الحديث عما سار على ما يرام وعن الأمور التي تحتاج إلى تحسين، ثمَّ تبادلوا التغذية الراجعة، حيث يؤدي هذا النشاط إلى تطوير الاستقلالية والارتباط، وهما عاملان حاسمان للتحفيز حددهما "إدوارد ديسي" (Edward Deci) و"ريتشارد رايان" (Richard Ryan) في كتابهما الذي صدر عام 2016: "نظرية تقرير المصير: الاحتياجات النفسية الأساسية في التحفيز والتنمية والعافية" (Basic Psychological Needs in Motivation, Development, and Wellness). إنَّ تطوير ثقافة يمكِن للأفراد فيها أن يكونوا مستقلين (ارتفاع "الدوبامين" و"التستوستيرون") ولكنَّهم مرتبطون بقوة (نسبة عالية من "الأوكسيتوسين") يُهيئ الظروف للتحفيز المستمر والإنتاجية.

باستخدام تقنيات الذكاء البدني هذه، يجب أن تكون قادراً على تحفيز نفسك وتحفيز الآخرين من حولك، وتعزيز الإنتاجية خلال هذه الأزمة وما بعدها.

المصدر




مقالات مرتبطة