5 أسباب للحد من المعرفة

قد يبدو من الجيد أن نعيش في مجتمع غني بالمعلومات، ولكن من السهل ملاحظة كيف يؤثِّر فيض المعلومات تأثيراً سلبياً. يصاحب وهم المعرفة اكتساب المعلومات، كما يصاحب وهم الفهم المعرفة، وعندما يؤثر فهمك تأثيراً مباشراً في خطتك في الحياة، فمن الهام حينها أن تقلل من التعرُّض المفرط إلى المعلومات ومن ثم تقليل معرفتك.



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن المدوِّن "إيفان ترافر" (Evan Tarver) ويُحدِّثُنا فيه عن أسباب الحد من المعرفة.

وقبل أن نبدأ، من الهام أن نعرِّف المعرفة: فهي وجهة نظر مطلقة للحياة، والمعرفة هي فكرة أو نظرية لا نؤمن بها شخصياً فحسب؛ بل نبني عليها كل حياتنا؛ لذا، عندما أقول: "قلل ما تعرفه"، فأنا لا أدعوك إلى أن تنقص ذكاءَك؛ بل إنَّني أقول إنَّه لا ينبغي علينا بالضرورة أن نعتقد أنَّ معرفتنا صحيحة كما أنَّها بالتأكيد ليست مطلقة.

والآن سنتحدث عن خمسة أسباب حول أهمية الحد من معرفتك:

1. نتمسك بالأفكار بقوة، حتى السيئة منها:

نحن نحب أفكارنا وبعضنا يحب أن يُخبَر الناس بها، وما هو محيِّر حول الأفكار هو أنَّه من السهل أن نحبها؛ وحتى السيئة منها، فلدينا جميعاً نظرياتنا المحببة والتي نتمسك بها كما لو أنَّها تحدد حياتنا، وهذا التماهي المُبالغ فيه مع الأفكار يجعلنا نغفل عن الحقيقة الفعلية.

فعندما نتمسك بالأفكار والنظريات، فإنَّنا نميل إلى إساءة تفسير المعلومات ووجهات النظر الجديدة المحتملة، وغالباً ما يسبب ذلك ضرراً لنا.

يقول الكاتب اللبناني الأمريكي "نسيم طالب" (Nassim Taleb) في كتابه "البجعة السوداء" (The Black Swan): "المشكلة هي أنَّ أفكارنا متحجرة، فحالما نتوصَّل إلى نظرية ما، يصبح من الصعب علينا أن نغير رأينا بعدها، وعندما تكوِّن آراؤك مبنية على أساس أدلة ضعيفة، ستجد صعوبة في تفسير المعلومات اللاحقة التي تتعارض مع هذه الآراء حتى لو كانت هذه المعلومات الجديدة أكثر دقة".

ومن خلال الحد مما "تعرفه" كحقائق مطلقة؛ تتعامل مع العالم دون تحيُّز، والأهم من ذلك كله غياب الإيمان الأعمى ببعض المعتقدات، وستصبح قادراً على رؤية الخبرات والحقائق والناس كما هي في جوهرها؛ فتلك هي القدرة على البقاء منفتحين لوجهات النظر الجديدة التي تجعلنا في الواقع مُطَّلعين اطلاعاً أكبر.

إقرأ أيضاً: 7 نصائح لتزيد آفاق المعرفة لديك

2. كل شيء دوري ولكن لا شيء قابل للتكرار:

فكِّر في الأمر من حيث الاقتصاد، فيمكننا جميعاً أن نتَّفق على أنَّ دورة الأعمال والاقتصاد كليهما دوري، أليس كذلك؟ سيكون هناك دائماً ازدهار أو كساد اقتصادي، وكنتاج لاثنتين من فترات الركود الكبير؛ تهمني فكرة واحدة أخرى وهي مدى الدقة التي يمكنك التنبؤ بها بالانكماش الاقتصادي القادم.

إذا اعتمدنا على التاريخ كمؤشر - ويجب أن أنوِّه أنَّ ذلك يجوز ولا يجوز في الوقت نفسه - فمن الواضح جداً أن نرى مدى صعوبة التنبؤ بدقة بتوقيت وتداعيات حدوث الانكماش؛ على سبيل المثال، ربما تَوقَّع كبار الاقتصاديين الانكماش الاقتصادي الذي حصل في عام 2008، ولكن ما يهم هو عدد المرات التي توقعوا فيها حدوث انكماش؛ فربما كل سنتين؛ وهذا ما يقودني إلى الاعتقاد بأنَّ المزيد من المعرفة لن تجعل توقعاتك أفضل.

"كلما قدمتَ معلومات أكثر لشخص ما، زادت الافتراضات التي سيصوغها حول أمر ما، وكلما أصبح الوضع أكثر سوءاً، سيستقبل الكثير من المغالطات ظنَّاً منه أنَّها نوع من المعلومات" - "نسيم طالب"، "البجعة السوداء"

والمقصود هنا هو أنَّه بغض النظر عن مستوى المعلومات التي تعرفها، لن يكون من السهل التنبؤ بدقة بموعد حدوث أزمة اقتصادية تالية، ولكن إذا كنت تعرف أنَّ الانكماش الاقتصادي سيحدث في مرحلة ما - وهو ما يمكن أن نتفق على أنَّه صحيح - أليست هذه هي المعلومة التي تحتاج إليها؟

المعرفة الوحيدة التي نحتاج إليها لحماية أنفسنا من الانكماش الاقتصادي القادم هي أنَّه قادم لا محالة، ولسنا بحاجة إلى معرفة السبب أو الوقت أو مدى سوء الأمر؛ بل يجب أن تستعد له ببناء استراتيجية تسمح لك بالاستفادة من الموقف عند حدوثه؛ وذلك استناداً إلى معرفتك المسبقة بحتمية حدوثه.

حقيقة الأمر هي أنَّ التاريخ دوري ولكنَّه ليس قابلاً للتكرار، وسوف يكون للانكماش القادم نتائج مماثلة لفقاعة التكنولوجيا أو الأزمة المالية، وسيكون له ما يكفي من الفروقات الدقيقة التي من شأنها أن تجعلنا "ننسى العلامات" التي أنذرت بحدوثها؛ لذا اعلم أنَّه سيحدث وخطط له.

شاهد بالفيديو: ما هي أهمية إدارة المعرفة؟

3. الانحياز التأكيدي:

دعونا نواجه الأمر، نحن جميعاً منحازون، وكما بتنا نعلم الآن لدينا أفكار محببة نتمسك بها حتى في ضوء الأدلة الجديدة، ولكنَّ الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أنَّنا نسعى إلى الحصول على المعلومات التي تؤكِّد توقعاتنا المتحيزة؛ لذلك لا نكتفي بتجاهل المعلومات الجديدة بسبب ما نعتقد أنَّنا نعرفه فقط؛ بل أيضاً نبحث بعد ذلك عن أدلة تدعم ما نريد أن نؤمن به على أي حال.

يُعرِّف "قاموس المشككين" (The Skeptics Dictionary) الانحياز التأكيدي بأنَّه: نوع من التفكير الانتقائي؛ إذ يميل المرء إلى الملاحظة والبحث عما يؤكِّد معتقداته وتجاهل والكف عن البحث، أو التقليل من أهمية ما يتناقض مع معتقداته.

وعندما نبحث عن شيء نريد أن نراه ونصدقه، يُذكِّرنا "طالب" مرة أخرى بأنَّ "هذه الحالات يسهل العثور عليها دائماً"، ومن السهل أيضاً أن تبحث عن معلومات تجعلك تشعر بالرضى عن تفكيرك أو وجهة نظرك، بينما من الصعب أن تبحث عن معلومات تتعارض مع معرفتك ومعتقداتك، ولكن عبر "الحد من معرفتك" بدلاً من "البحث عن تأكيد لما تؤمن به" ستبحث عن أدلة متناقضة له.

وفي كلتا الحالتين ومن خلال البحث عن التناقضات، يمكنك في الواقع زيادة فهمك للعالم من حولك، فإذا كانت هناك معلومات متناقضة، تصبح لديك القدرة على تجديد معرفتك ووجهة نظرك، وإذا لم تكن هناك معلومات متناقضة، فهذا يعني أنَّ وجهة نظرك كانت صحيحة طوال الوقت.

يقول "طالب": إنَّ "هذه هي الثقة الحقيقية بالنفس؛ أي القدرة على النظر إلى العالم دون الحاجة إلى البحث عن علامات لإظهار تفوقك".

إقرأ أيضاً: كيف تتعامل مع المعلومات بوعي وتثري حياتك

4. القصص الجيدة هي مغالطة سردية:

المغالطات السردية هي أفكاري المفضلة وسأكون أول مَن يعترف بذلك، وبغض النظر عن ذلك فإنَّ المغالطة السردية تصف الطبيعة البشرية التي تهم بوضع كل شيء ضمن إطار بسيط منطقي.

فهي القصة التي تخبر بها نفسك لتعطي نظاماً للعالم؛ على سبيل المثال: "جميع المشردين رائحتهم كريهة"، هذا مثال صحيح في الغالب، ولكن أنا متأكِّد من أنَّك يمكن أن تجد شخصاً مشرداً ويعتني بنظافته، ومن الممكن أن يكون قد اختار أن يعيش حياة التنقل.

لكنَّك لن تمر بجانب كل شخص مشرد وتشمه؛ بل ستفترض أنَّهم حثالة الأرض لأنَّ هذا السرد منطقي بالنسبة إليَّ، ولكن إذا قابلتَ شخصاً مشرداً جذاباً، فسوف يحطم ذلك معتقداتك، وبما أنَّ تحطيم المعتقد أمر مخيف، فإنَّنا نختار تصديق السرد البسيط والمضي قدماً في حياتنا.

عندما نفشل في الحد مما نعرفه، نعيش حياة تتكوَّن من مغالطات سردية؛ فما نقوله لأنفسنا ليس صحيحاً في الواقع، وتجتمع المغالطة السردية مع التحيز التأكيدي لإحداث تشويه للواقع؛ إذ يوجد فارق بين ما تراه وما هو موجود.

5. المشكلة التي يقع بها الخبراء:

أعتقد أنَّنا يمكن أن نفسر هذه المشكلة في كلمة واحدة: "الغرور"، فعندما نصبح خبراء، نعتقد أنَّ معرفتنا وفهمنا يمكن أن يُفسِّرا كل ما سنواجهه ونفترض أنَّ ذكاءنا سيوفر لنا رؤى مطلقة.

ولكن للأسف الأمر ليس كذلك؛ فأولاً وكما ذكرنا آنفاً، سنصل إلى نقطة حيث لن تقدر المعلومات الإضافية على جعلنا أفضل في الوصول إلى الاستنتاجات:

في عام 1965 قدَّم الباحث "ستيوارت أوسكامب" (Stuart Oskamp) لعلماء النفس السريريين - الذين هم خبراء حسب المجتمع - ملفات مختلفة يحتوي كل منها على كميات متزايدة من المعلومات حول مرضاهم، وعلى عكس المنتظر، لم تتطور تشخيصات علماء النفس بالمعلومات الإضافية، فعندما يتعلق الأمر بالعلوم التي تتعامل مع عدم القدرة على التنبؤ بالبشر - كما هو الحال في الكثير من العلوم - فإنَّ غريزتنا الداخلية غالباً ما تكون أقوى من الاعتماد على المعلومات.

ثانياً؛ عندما نصبح "خبراء"، فإنَّ معرفتنا تعمينا في الواقع عن رؤية الصورة الكاملة؛ فعلى سبيل المثال، يشير "طالب" إلى عمل عالم النفس "فيليب تيتلوك" (Philip Tetlock) الذي درسَ الخبراء السياسيين والاقتصاديين؛ "وكشفت دراسته عن مشكلة الخبراء؛ فلم يكن هناك فارق في النتائج سواءً كان المرء حاصلاً على درجة الدكتوراه أم درجة البكالوريوس، فالأساتذة المخضرمون لم يكونوا أفضل من الصحفيين، والأمر المشترك الوحيد الذي وجده "تيتلوك" كان التأثير السلبي للسمعة في التنبؤ؛ فأولئك الذين يملكون سمعة كبيرة كانوا أسوأ من أولئك الذين لم يكن لديهم أي منها".

وعلاوة على ذلك يواجه الخبراء صعوبة في رؤية الأحداث التي تقع في خارج تخصصهم، فعلى الرغم من أنَّ الأحداث قد يكون لها تأثير كبير في تخصصهم أو حياتهم، ولكن قد يبدو أنَّه من الأفضل بكثير البحث عن فهم أوسع للعالم؛ وذلك من خلال اختيار معرفة أقل بدلاً من محاولة الحصول على خبرة عميقة تعميك عن محيطك.

وأود أن أُشير مرة أخرى إلى أنَّه عندما أتحدث عن الحد من المعرفة، فأنا لا أدعو إلى الجهل، في الواقع، أنا أقصد العكس تماماً؛ فعندما نبالغ في الثقة في معرفتنا الحالية، نبدأ التفكير في الأمور بصورة مطلقة، بدلاً من التمتع بعقل مُنفتح وغير متحيِّز.

من خلال الحد مما تعرفه، فإنَّك تتقبل فكرة أنَّ الحياة عشوائية ولا يمكن التنبؤ بها وتحياها بذهن منفتح؛ وذلك من خلال التخلص من فيض المعلومات المتزايدة في المجتمعات اليوم، فعندها ستعطي لنفسك أفضل فرصة للنجاح، وبالنسبة إليَّ النجاح يتفوَّق على المعلومات بعشرة أضعاف.

المصدر




مقالات مرتبطة