تتحول هذه الفكرة ببطء إلى قيد يمنعك من مشاركة عملك أو التعبير عن ذاتك، فتتراجع خطوة بعد أخرى وكأنَّك ترفض نفسك قبل أن يرفضك الآخرون. لكنَّ الحقيقة مختلفة؛ إذ لا يبدأ الدعم من الخارج؛ بل من الداخل. السؤال الأهم ليس: "هل يدعمونني؟" بل "هل منحت نفسي فرصة أن أُرى وأُسمع؟"
حين يصبح الانسحاب وسيلة دفاع لا وعي بها
"تعيش لتدرك أنَّ أثقل القيود، لم تُصنَع من الحديد؛ بل من العواطف والتوقعات والأفكار" جبران خليل جبران.
الانسحاب أحياناً لا يكون قراراً واعياً؛ بل رد فعل متكرراً لحماية النفس من جرح قديم لم يلتئم، فحين لا تجد الدعم الذي تنتظره، يترسَّخ داخلك اعتقاد أنَّ غياب المساندة، أمر طبيعي، وأنَّ الآخرين، لا يرونك أصلاً أو أنهم لا يودون لك التقدُّم.
هذا الاعتقاد ليس وليد اللحظة؛ بل يتشكل من خلال تجارب متراكمة: في المدرسة حين لم يُشجع جهدك، أو في العمل حين مرَّ إنجازك مرور الكرام، أو حتى داخل العائلة حين لم تجد الاحتضان الذي تحتاجه، ومع مرور الوقت، يصبح "الانسحاب" وسيلة دفاع غير معلنة، وكأنك تفضِّل أن تخفي نفسك قبل أن يرفضك أحد.
لكنَّ المشكلة أنَّ هذا الانسحاب، يضاعف الفجوة، فحين تختفي، لا تمنح الآخرين فرصة لرؤيتك، ولا تمنح نفسك فرصة لتجربة استجابة مختلفة.
الحقيقة أنَّ كثيراً من الناس قد يكونون بانتظار أن تستقر وتستمر فقط، لا أن تكون كاملاً؛ إذ لا يبدأ الدعم من الخارج؛ بل من الداخل: من قرارك بأنَّك تستحق أن تُرى حتى لو لم يُصفق أحد. وإذا ظللت محبوساً في زاوية مظلمة تصدق أنَّ "الناس لا يدعمون"، فأنت في الواقع تحرم نفسك من أبسط حق: أن تُعلن وجودك.
المفتاح الأول للتحرر إذن، ليس أن تُطالب الآخرين بالدعم؛ بل أن تكسر دائرة الانسحاب وتواجه العالم بجرأة، ولو بخطوة صغيرة متكررة.
شاهد في الفيديو: 7 نصائح تساعدك على تحسين حياتك نحو الأفضل
5 مفاتيح تُحرِّرك من قيد انتظار الدعم وتُعيدك إلى الساحة
قبل أن تظن أنَّ غياب الدعم، يعني نهايتك، تذكَّر أنَّ كثيراً من قصص النجاح، بدأت بصمت طويل. ما تحتاجه ليس جمهوراً كبيراً يصفِّق لك من البداية، بل بوصلة داخلية تعيدك إلى المسار، مع بعض الأدوات العملية التي تساعدك على الظهور مجدداً بثقة.
لا تعد هذه المفاتيح الخمسة وصفة سحرية، لكنها خطوات مجرَّبة ستكشف لك أنَّ الدعم الحقيقي، يبدأ حين تتحرر من انتظاره، وتعود إلى الساحة بوعي وإصرار.
1. افصل بين الدعم الذي تريده والدعم الذي تحتاجه
أحياناً ما نطلب من الآخرين دعماً عامَّاً، كأن نقول: "ادعمني" أو "كن إلى جانبي"، معتقدين أنَّ هذا يكفي، لكنَّ الواقع يبيِّن أنَّ هذا النوع من الطلب، غالباً ما يُفهم بغموض، فيُهمَل أو يُؤجَّل.
الدعم الذي تريده كثيراً لا يلتقي مع الدعم الذي تحتاجه فعلاً، فالدعم العاطفي وحده قد يعين مؤقتاً، ولكنَّ ما تحتاجه عملياً هو توجيه، أو رأي في فكرة، أو ملاحظة على مشروعك، أو اقتراحات محددة، أو حتى مساعدة تقنية.
عندما تطلب شيئاً واضحاً، فإنك تنزع الغموض عن العلاقة بينك وبين الطرف الآخر، وتخفف عنه عبء الإجابة؛ لأنَّ الغموض، يجعل الآخر يتردد: ماذا تريد بالضبط؟ هل سأقدِّم ما هو مفيد؟ أم أنني سأخيِّب ظنك؟ تحديد الدعم المطلوب بدقة يُمكِّن الآخر من المساعدة بعملية وفعالية.
في دراسة نُشرت على موقع الأكاديميات الوطنية للعلوم (National Academies of Sciences) التي تضم نتائج لمسح من جامعة "ميشيغين" (Michigan) حول أولويات الصحة المجتمعية أمثلة عن نتائج المسح، الأسباب الجذرية للمشكلات وتداعياتها على السكان/المجتمعات، والمحددات الاجتماعية.
وجد الباحثون أنَّ المشاركين كانوا أكثر قبولاً للسياسات أو التدخلات التي تُعرض عرضاً محدداً (مثل بناء مسارات مشي أو إنشاء أرصفة لإصلاح حيٍّ محدد) مقارنةً بالطلبات العامة البعيدة المضمون.
لتطبيق هذا في حياتك: فكِّرْ قبل أن تقول "ادعمني": ما الذي سيُغيِّر فعلاً لو دعمني هذا الشخص؟ هل تحتاج منه أن يسمع فكرتك، يعطي تغذية راجعة، أو يقدِّم توصية، أو يساعدك بموضوع عملي معيَّن؟ حين تحدد هذا، اطلبه صراحة، وستتفاجأ كم أنَّ الناس مستعدون لأن يكونوا عوناً لك إذا علموا كيف يمكنهم أن يقدموا لك المساعدة.

2. لا تحكم على نوايا الناس من صمتهم
من البديهي أن ندرك أنَّ الصمت، لا يعني بالضرورة الرفض، وأنه في كثير من الحالات يكون نافذة مغلقة على بساط من التوقعات غير المنطوقة. ربما تتوقع أن يدعمك أحدهم، لكنه ببساطة لا يعرف مدى أهمية الأمر لديك، أو ربما يظن أنك تفضل استقلاليتك وتريد النجاح من دون تدخل خارجي، أو أنه مشغول بمسؤولياته ومشكلاته أكثر بكثير مما تتصور.
أظهرت دراسة بعنوان (Decoding Silence in Digital Cross-Cultural Communication: Overcoming Misunderstandings in Global Teams) - "فك شفرة الصمت في التواصل الرقمي متعدد الثقافات: تجاوز سوء الفهم في الفرق العالمية" أنَّ الصمت في بيئات العمل الرقمية، غالباً ما يُساء تفسيره بين فرق من ثقافات مختلفة، بسبب اختلاف التوقعات والأسلوب في التواصل. هناك من يرى الصمت احتراماً أو ضرورة للتفكير، وآخر يراه تجاهلاً أو عدم اهتمام، فالأمر ليس دائماً ما هو في رأسك عمَّا يُفكر به الآخر؛ بل في ما أنت لم توصله له.
لا تُكوِّن في هذه الحالة سيناريوهات خيالية داخل عقلك تفترض الخيانة أو التعمد؛ بل استخدِم المفتاح العملي: اسأل، وعبِّر، ووضِّح ما تحتاج إليه، بدلاً من انتظار أن يفهمك الآخر، قل: "كنت أتمنى لو قلت رأيك في مشروعي" أو "هل يمكنك مشاركتي بتعليق على العمل؟"، أو "أُقدِّر لو أخبرتني أنك مشغول حتى لا أتوقع دعماً منك وأخيب".
صرَّح رائد الأعمال العالمي "سيرغي برين" (مؤسِّس مشارك في غوغل Google) في مقابلة لمجلة وايرد (Wired) أنَّه كثيراً ما خاب ظنه بأشخاص لم يتجاوبوا، لكنه بعد سنوات أدرك أنَّ معظمهم، لم يكن يدرك مدى حاجته للرأي، ولم يفهم ضرورة تواصله معهم بوضوح. هذه التجربة تؤكِّد أنَّ الخذلان الشديد، غالباً ما يكون مجرد فرق غير معلن في التوقعات، لا رغبة في الإيذاء.
باختصار، لا تحكم على نوايا الناس من صمتهم، ولكن اجعل وضوحك أداة إعادة بناء الثقة والتواصل.
3. شارِك دون انتظار واستقبِل دون افتراض
"الاستمرارية أقوى من التصفيق؛ لأنَّ النجاح الحقيقي، لا يُبنى في ضجيج البداية؛ بل في صمت التكرار."
أن تنشر فكرة، أو تعرض مشروعاً، أو تكتب مقالة، ثم تجلس مترقباً كلمات التشجيع، هو الطريق الأسرع للإحباط، فالمشاركة ليست اختباراً لشعبية ما تفعل؛ بل ممارسة لتأكيد وجودك وتطوير مهارتك. حين تجعل معيارك الأساسي هو حبك للفعل ذاته، تتحرر من قيد الانتظار، وتكف عن ربط قيمتك بمدى تفاعل الآخرين.
التاريخ مليء بأمثلة لأعمال لم تلقَ ترحيباً في بداياتها، فالرسام الهولندي "فان جوخ" مثلاً لم يبع سوى لوحة واحدة في حياته، لكنه لم يتوقف عن الرسم، واليوم يُعد أحد أعظم الفنانين في العالم. المثال ليس لنقول أنَّ الصمت دائماً مقدمة للنجاح؛ بل لنؤكد أنَّ التقدير قد يتأخر، لكنَّ العمل نفسه هو ما يمنحك الديمومة.
يوضح الكاتب الأمريكي "أوستن كليون" في كتابه اعرض عملك (Show Your Work 2014) أنَّ مشاركة العمل في مراحله الأولى، ليست بهدف الحصول على إعجاب فوري؛ بل لتكون مرئياً؛ لأنَّ من يختفي، لا يمكن للآخرين دعمه حتى لو أرادوا.
الدرس العملي هنا: شارِِك؛ لأنَّ المشاركة بذاتها قيمة، ولأنها توثق تطورك وتُظهر التزامك، ثم استقبِل التفاعل إن أتى، بامتنان دون افتراض أنَّ الصمت، يعني الرفض، فالعالم لا يدعم من لا يظهر، ولا يصدِّق من لا يُثبِت نفسه. فالاستمرارية في الظهور، حتى بصوت خافت، هي التي تجعل الآخرين يلاحظونك في النهاية.

4. أنشئ دائرة دعم مصغَّرة بدل أن تنتظر دعم العالم
حين ننتظر أن يدعمنا العالم بأسره، نقع في شرك الخيبة؛ لأنَّ العالم كبير، ومعقَّد، وغير مخصَّص حصريَّاً لنا، والدعم الحقيقي لا يُقاس بعدد المتابعين أو حجم الجمهور؛ بل بعدد الأشخاص الذين يفهمونك، ويؤمنون بك، ويشجعونك عندما تكون في أحلك لحظاتك.
ابنِ "دائرة صغيرة آمنة" — شخصَين أو ثلاثة ربما — تشاركهم الأفكار، والنجاحات، والأخطاء، والطموحات دون تصنُّع أو خوف من الأحكام. هؤلاء هم الأشخاص الذين لا تحتاج منهم حلولاً سريعة؛ بل تحتاجهم لتتذكر بأنك إنسان، وأن ما تقوم به له معنى.
في سياق بحثي من جامعة هارفارد (Harvard) بعنوان أثر وجود "شبكات دعم صغيرة" أو "حلقة دعم مصغّرة" على الثقة الذاتية واتخاذ القرارات المهنية الصعبة، دُرِسَ أثر الشبكات الصغيرة الداعمة في اتخاذ القرارات المهنية الصعبة، ووُجد أنَّ وجود حلقة دعم حتى لو كانت صغيرة، يُعزِّز الثقة الذاتية بقرابة 50-60% في الأوقات التي تكون فيها الأهداف غير واضحة أو التحديات كبيرة.
للأسف، ينتظر كثير من الأفراد أن يكون لديهم "فريق كامل متكامل"، لكنهم لا يدركون أنَّ وجود شخص واحد يُعبِّر عن ثقته بك، يمكن أن يغيِّر كل شيء.
لا تبحث عن الكمال؛ بل عن الشخص الذي يرى قيمتك، حتى لو لم يُعلِن ذلك بصوت عالٍ، قد يُفيدك أن تشارك فكرة صغيرة مع زميل تثق به، أو صديق قديم، أو فرد من العائلة، لتختبر كيف تشعر حين تُرى وتُسمع. تلك الدائرة، مهما كانت مصغَّرة، هي رادع لك للانسحاب، ومصدر قوة لك حين يغيب الدعم الآخر.
5. ادعم نفسك أولاً قبل أن تطالب الآخرين بذلك
"لا تنتظر أن يصفق لك الآخرون كي تتحرك؛ بل تحرَّك حتى لو لم يلتفت إليك أحد." – جيم رون
الحقيقة البسيطة أنَّ الناس يراقبون أكثر مما يصرِّحون. وقبل أن يمدُّوا لك يد العون، يلاحظون: هل تؤمن بما تفعل؟ هل تأخذه بجدية؟ هل تكرره رغم الصمت؟ هنا يظهر دور الدعم الذاتي، الذي لا علاقة له بالغرور؛ بل بالقدرة على أن تمنح نفسك ما تنتظره من غيرك: كلمة تقدير، أو لحظة احتفاء بصبرك، أو دفعة صغيرة للاستمرار رغم الملل.
توضِّح الدراسات الحديثة حول التعاطف مع النفس أنَّ الأشخاص الذين يمارسون دعم الذات، أكثر قدرة على مواجهة الضغوطات والاستمرار في مشاريع طويلة الأمد، ففي بحث أجرته جامعة تكساس في أوستن (University of Texas at Austin) بقيادة "كرستين نيف" (Kristin Neff 2011)، تبيَّن أنَّ من يطبقون استراتيجيات التعاطف الذاتي، كانوا أكثر صموداً عند الفشل وأكثر قدرة على إعادة المحاولة مقارنةً بغيرهم.
يعني الدعم الذاتي أن تنظر لإنجازاتك الصغيرة بعين التقدير، وأن تقيِّم جهودك بإنصاف، وأن تعطي نفسك الحق في التدرُّج والنمو، هذه الممارسات تُرسل إشارة غير مباشرة للآخرين أنك جاد، وملتزم، وأنك لن تتوقف حتى في غياب المصفقين.
غالباً ما يبدأ التغيير هنا: حين يرونك لا تتوقف، يتوقفون بدورهم، ولكن ليراقبوا، وبعدها يبدأ أول داعم بخطوة بسيطة، ثم آخر، ثم آخر، ليُصبح ما كان عزيمة فردية موجة جماعية.
إذن، الدعم الحقيقي لا يُصنع من جمهور عريض؛ بل من قرار داخلي: أن ترى نفسك أولاً وتستمر، حتى تتبعك العيون لاحقاً.
في الختام
ليس غياب الدعم بالضرورة دليلاً على رفضك من الآخرين؛ بل غالباً انعكاس لصمتك المبكر.
ربما شعرت بخذلان من أقرب الناس، وربما تجاهلَ بعضهم جهودك، لكنَّ السؤال الأهم ليس: هل دعمني الآخرون؟ بل: هل أظهرت نفسي بما فيه الكفاية؟ هل عبَّرت عن أفكاري وأهدافي بصراحة؟ الدعم لا يُمنح لمن يختفي؛ بل لمن يصرُّ على الظهور والاستمرار، مهما كان الصمت حوله.
تبدأ البداية الحقيقية للدعم منك، حين تقرر أن تثبت نفسك، وتكرر المحاولة، وتستمر في المشوار، حتى يلاحظ الآخرون وجودك ويشاركونك رحلتك.
المصادر +
- Appendix D: Results from a University of Michigan Survey Regarding Priorities for Population Health Research
- Efficacy of Peer Support Interventions for Depression: A Meta-Analysis - PMC
- Decoding Silence in Digital Cross-Cultural Communication: Overcoming Misunderstandings in Global Teams
- Silent Suffering: Uncommunicated Expectations - Executive Matchmakers
أضف تعليقاً