يشعر الناس اليوم بالإرهاق المزمن؛ إذ يجيبون أي شخص يجرؤ على السؤال عن أحوالهم بأنَّهم مشغولون، وإن كنتَ مفعماً بالحيوية، فقد تقول إنَّك مشغول جداً، بينما ترسل رسائل نصية إلى رب عملك، وغالباً ما يجيب الناس عن سؤال الآخرين لهم عن أحوالهم بشيء من عدم الشعور الذي لا يُشاهَد عادة إلَّا عند المرضى المخدَّرين.
لقد وصلت الإدارة الخاطئة للوقت في نهاية الأمر إلى مستويات مرتفعة بشدة؛ وهي النقطة التي تؤثر فيها تأثيراً ضاراً في قدرة المرء على قيادة ذاته والآخرين.
للتغلُّب على هذه المشكلة؛ قد تقرأ مقالاً مليئاً بالأمل حول الاستخدام البنَّاء للوقت أو تحضر ورشة عمل حول إدارة الوقت، وقد تلتزم بالتغيير، ولكن بعد ذلك، ستقع في فخ الوقت نفسه. ولتشاهد مؤتمراً ملهماً مرة أخرى؛ ربما تعطيك هذه الحلول صدمة تحفيزية، فتشتري مذكَّرة باهظة الثمن لتخطيط وقتك، ولكنَّها تبقى على الرف لتجمع الغبار بجوار نسختك من كتاب "4 ساعات عمل في الأسبوع".
إنَّ مصطلح إدارة الوقت هو الذي يسبب لك سخرية مريرة، فعلى مَن يجب أن يُلقى اللوم؟
هل عليك أن تلوم نفسك؟
يشير مكتب إحصاءات العمل في الولايات المتحدة إلى أنَّ الموظفين بدوام كامل يعملون ما يقرب من تسع ساعات في اليوم؛ إذ تزايدت الساعات اليومية التي يقضونها في العمل منذ سبعينيات القرن الماضي.
لقد ولَّت أيام العمل لثماني ساعات في اليوم، ناهيك عن أربع ساعات في الأسبوع، فمثل القلعة الرملية التي تُبنى عندما ينحسر المد؛ لتتحطَّم لاحقاً عند عودة المياه، وهكذا دُمِّر هيكل إدارة الوقت عبر الزمن. والأسوأ من ذلك أنَّ موقع "غلاس دور" (Glassdoor) قد أشار إلى أنَّ الموظفين بدوام كامل في الولايات المتحدة يأخذون أقل من نصف الوقت المخصص لهم في الإجازة، وعلاوة على ذلك، فإنَّ ثلثيهم اعترفوا بأنَّهم يعملون خلال إجازاتهم.
إنَّ الذهاب إلى العمل يؤدي دوره أيضاً، ففي الولايات المتحدة ارتفعت أوقات السفر إلى العمل ذهاباً فقط من 21 دقيقة في عام 1980 إلى ما يقرب من 27 دقيقة اليوم؛ أي أكثر بما يقرب من 30%، وليس الوضع أفضل في أماكن أخرى، ففي "طوكيو" يبلغ متوسط أوقات الذهاب إلى العمل 49 دقيقة، ويبلغ حتى 60 دقيقة في كل أنحاء "ألمانيا"، فقد أصبحت هذه المشكلة قضية عالمية.
لكنَّ الحل لا يكمن في إدارة الوقت؛ فهذا النوع من التفكير ليس إلَّا حفنة من الهراء، ولا يمكنك إدارة الوقت؛ لأنَّ الوقت ثابت تماماً، وتوجد 168 ساعة كل أسبوع؛ فتقبَّل ذلك وامضِ في حياتك. لكن يمكنك على الرغم من ذلك إدارة سلوكك من حيث صلته بالوقت؛ فمفتاح الحل هو تغيير السلوك. إنَّ وعيك ويقظتك وتركيزك في موقعك الحالي جميعها تُعَدُّ أموراً بالغة الأهمية لقيادة نفسك والآخرين، ويمكنك تسميتها القدرة على البقاء حاضراً.
قصة "بيس كامب" (Basecamp)
لهذا السبب تُعَدُّ قصة "بيس كامب" (Basecamp) مثيرة للغاية؛ فـ "بيس كامب" هي أداة لإدارة المشاريع عبر الإنترنت، ولقد نشأت بدافع الضرورة؛ ففي عام 1999 أسَّس "جايسون فرايد" (Jason Fried) شركة لتصميم مواقع الويب تُسمى "37 سيغنلز" (37signals)، وطوَّر هو وشريكه المؤسِّس "ديفيد هاينماير هانسون" (David Heinemeier Hansson) "بيس كامب"، مدركين عدم وجود أداة تعاون مفيدة قائمة على الويب تسمح بالتواصل وإدارة المشاريع جنباً إلى جنب.
دعا "جايسون" و"ديفيد" العملاء إلى استخدام منصتهم للتعاون في مشاريعهم، ولقد أحبَّ العملاء الأداة كثيراً، وربما أكثر من خدمات تصميم الويب الخاصة بالشركة، بحلول عام 2004 أصبح "بيس كامب" المنتج الأساسي - وسُمِّيَت الشركة باسمه - وكل ما حدث بعد ذلك معروف جيداً، وداعاً لإدارة المشاريع من خلال الرد على سلاسل طويلة ومرهقة من رسائل البريد الإلكتروني، وأهلا بك في "بيس كامب".
لقد نجحت الشركة منذ نشأتها في كسب أكثر من 3 ملايين مشترك فريد في منصة "بيس كامب"؛ إذ إنَّ المنتج رائع، والقول إنَّ الشركة ناجحة فحسب هو قليل بحقها، و"بيس كامب" هو برنامج مُربح وما زال كذلك كل عام منذ تأسيسه عام 2004، ويعمل به ما يزيد قليلاً عن 50 موظفاً منتشرين في جميع أنحاء العالم، ويعمل "جايسون" في "شيكاغو" ويعيش "ديفيد" في جنوب "إسبانيا'، والمشاركة عالية بين جميع أعضاء الفريق.
ولكنَّ ما يجعل "بيس كامب" قصة فريدة من نوعها ليس منتج إدارة المشروع التعاوني الذي تبيعه - على الرغم من أنَّه جيد جداً - وإنَّما بالأحرى الطريقة التي تعمل بها الشركة. موظفو "بيس كامب" هم من هواة الوقت؛ فَهُم واعون ومنتبهون وسادة في البقاء حاضرين دوماً، إنَّهم خبراء حقيقيون في سلوكات الوقت، وقد يكون ذلك سبباً أكثر أهمية من المنتج الذي يروجوِّن له، والذي يساعد الملايين.
يجسد هذا السلوك قادة بارعين في إدارة أنفسهم والآخرين؛ فلا يعطون أهمية للوقت وتجدهم مُعجبين بفكرة "عمل جيد في النهار ونوم جيد في الليل"، ويُصرُّون على إدارة الشركة بهدوء قدر الإمكان، فَهُم لا يريدون موظفين مرهقين يعملون طوال الليل، ويؤمنون بـ 40 ساعة عمل كحد أقصى في الأسبوع باستثناء أشهر الصيف؛ إذ تُقلَّل إلى 32 ساعة، ومن الشعارات الشائعة في "بيس كامب" أنَّه إذا كان لا يمكنهم حل المشكلة بحلول الساعة الخامسة مساءً في يوم الجمعة، فسيبدؤون بحلِّها مجدداً يوم الاثنين الساعة 9 صباحاً حصراً.
شاهد بالفيديو: 11 مهارة تنظيمية يحتاجها كل قائد ذكي
السلوكات في "بيس كامب"
وضع المؤسسون المشاركون قواعد تشبه قواعد مكتبات المطالعة؛ إذ تُعَدُّ أيام الخميس أياماً ممنوع التحدث فيها، وتبقى هذه الأيام هادئة - سواءً على المستوى الشخصي أم على الإنترنت - تماماً مثل المكتبة، وإذا لم يَكُن ذلك كافياً، فإنَّ تقويمات الموظفين تبقى خاصة. لا يمكنك حجز اجتماع باستخدام أداة مثل "مايكروسوفت آوت لوك" (Microsoft Outlook)؛ وذلك لأنَّك لا تملك أيَّة فكرة عمَّا إذا كان الطرف الآخر متاحاً، وينشر أعضاء فريق "بيس كامب" ساعات العمل التي يكونون خلالها متاحين رسمياً لعقد الاجتماعات والمناقشات مثل أساتذة الجامعات.
قد يبدو هذا كله ضرباً من الجنون، ولكنَّ الجنون الحقيقي هو أن تستمر في الاعتقاد بأنَّ الخضوع لعدوك المتمثل في الوقت هو فكرة جيدة.
كتب المؤسسون في أحدث كتبهم "ليس عليك أن تكون مجنوناً في العمل": "لا تعني أخلاقيات العمل الرائعة العمل وقتما يُطلَب منك؛ بل تعني أن تفعل ما تقول إنَّك ستفعله، وتقدِّم مجهوداً عادلاً في يوم العمل، وتحترم العمل والعميل وزملاء العمل، ولا تهدر الوقت أو تُحمِّل الآخرين مسؤولية عمل غير ضروري، ولا تكُن عقبة في وجههم".
إنَّهم لا يديرون الوقت؛ بل يشجعون سلوكات أفضل في التعامل مع الوقت، وبصفتهما الرئيس التنفيذي والمدير التنفيذي للتكنولوجيا على التوالي؛ فقد خلقا جواً من التوازن وظلَّا هادئَين عندما سارت الأمور عكس إرادتهم؛ إذ إنَّ الهدوء هو السلوك الحاكم في الشركة وليس الفوضى والانشغال والتوتر، فلا يوجد انشغال مجنون في "بيس كامب"؛ إذ يعتقدون أنَّ نمط الحياة الصحي يتضمَّن الحصول على قسط كبير من الراحة، وقضاء إجازتك والاستمتاع بهواياتك؛ إذ إنَّ ذلك سيجعل حياتك نفسها أفضل، وسيمتد بدوره إلى عملك.
يُصرُّ مؤسسو الشركة على قيادة هذا النوع من الحياة، وإلَّا فَهُم لا يَعُدُّون أنفسهم قادة؛ إذ يقولون: "إنَّ إدمان العمل مرضٌ مُعدٍ، فلا يمكنك إيقاف انتشاره إذا كنتَ الشخص الذي جلبه إلى المكتب"، ويقولون أيضاً: "ليست أفضل الشركات عائلات؛ بل هم داعمون للعائلات وحلفاء لها؛ إنَّهم موجودون لتوفير بيئات عمل صحية ومُرضيَة؛ فعندما يُغلِق العمال حواسيبهم في ساعة معقولة، يمكنهم أن يكونوا أفضل الأزواج والزوجات والآباء والأشقاء والأطفال".
لا تنفرد "بيس كامب" وحدها في ذلك، خُذ على سبيل المثال الرئيس التنفيذي لشركة "شوبيفاي" (Shopify) "توبياس لوتكي" (Tobias Lütke)، الذي كتب: "أعود إلى المنزل الساعة 5:30 مساءً كل يوم ولا أسافر في عطلة نهاية الأسبوع؛ إذ إنَّ وظيفتي مذهلة، ولكنَّها تبقى مجرد وظيفة، وتحتل الصحة العائلية والشخصية مرتبة أعلى في قائمة أولوياتي؛ إنَّنا لا نُرهِق الناس؛ بل نُعطيهم مساحة؛ ولهذا السبب يأتي الناس إلى العمل بكامل طاقتهم ونشاطهم".
عندما تُسيء استخدام وقتك وتخدع نفسك ظناً منك أنَّ إدارة الوقت هي حل حقيقي، ينتهي بك الأمر بإضاعة أيَّة فرصة لتحقيق اليقظة الذهنية، ولكن عندما تُدرِك أنَّ تحسين استخدامك للوقت يتحقق بسلوك أفضل - من خلال الوجود واليقظة الذهنية والتركيز - فقد ينتهي بك الأمر هادئاً ومتفاعلاً مثل أي موظف في "بيس كامب" أو "شوبيفاي".
أضف تعليقاً