بهذه الكلمات بدأ "ميخائيل نعيمة" برواية أحداث حياته في إحدى مؤلفاته ذات الثلاث أجزاء والتي حملت عنوان (سبعون حكاية عمر)، اعتقاداً منه بدنوِّ أجله، لكنَّه عاش بعد ذلك حتى بلغ 100 عام، فكان هناك كثيراً من الإنجازات في جعبة ميخائيل نعيمة الذي يعدُّ واحداً من أبرز الأدباء في العالم العربي، وتجلَّى تأثيره الأدبي الكبير في أعماله التي تنوَّعت بين الرواية والشعر والمقالة، وبجرأته في التعبير وغِناه بالفكر والأسلوب، فاستطاع نعيمة أن يحقِّق مكانة مرموقة في عالم الأدب العربي، فجذبت أعماله اهتمام القرَّاء والنقَّاد على حدٍّ سواء، فمن هو ميخائيل نعيمة؟ وكيف نشأ؟ وما هي أشهر أعماله؟
من هو ميخائيل نعيمة؟
ميخائيل نعيمة، الأديب والشاعر والكاتب والقاص والمسرحي والناقد، والمتأمل في الحياة والنفس الإنسانية اللبناني الجنسية، وُلِد في 17 تشرين الأول/أكتوبر من عام 1889 في قرية بسكنتا، الواقعة في سفح جبل صنين في لبنان، ويعدُّ نعيمة من قادة النهضة الثقافية والفكرية في المنطقة، كان له الدور الكبير في إحداث اليقظة الأدبية والثقافية، وقيادة حركة التجديد في الأدب، فتنوَّعت كتاباته بين المسرح والفلسفة والشعر والنقد، وله عدد من المؤلفات باللغة العربية والإنجليزية والروسية، التي تُعدُّ من أفضل الأعمال في الوطن العربي، وحفظت له مكانةً رفيعةً في عالم الأدب، وما زالت كتاباته خالدة ليومنا هذا، ويُعدُّ عدد منها مراجعَ أدبيةً هامة، نشأ نعيمة في حضن عائلة محافظة ومتديِّنة، وكان يعدُّ الثالث من بين ستة أولاد وهم (أديب، هيكل، نجيب، نسيب، غالية)، واسمه يأتي تقليداً لاسم جده من الأب، فقد جَرَت العادة فعل ذلك لحفظ أسماء السَّلف بين الخلف.
تعليم ميخائيل نعيمة
بدأ ميخائيل نعيمة تعليمه في سنِّ الخامسة من عمره، وذلك بتعلُّم القراءة والكتابة العربية والحساب في المدرسة المحلية، وفي سنِّ السابعة أنهى " كرَّاس طوبى"، وهو كرَّاس مختارات من مزامير النبي داود، وبإنهائه لهذا الكرَّاس أجيز في حفل تخرج باهر، وذلك وفقاً لتقاليد المدارس في ذلك الزمان، فقد جَرَت العادة على أن يُساق الطفل إلى أهله بيدين موثقتَين خلف ظهره، ولا يُفكُّ إلَّا بعد تقديم الأهل حلوانية (زبيب وجوز وغيره) للمعلم ولمرافقيه.
انضمَّ في عام 1889 إلى المدرسة النظامية عندما كان في سنِّ العاشرة من عمره وهي إحدى المدارس التي أُسِّست من قبل المعيَّة الإمبراطورية الروسيَّة لفلسطين في لبنان وسوريا، وفي عام 1902 وتقديراً من المدرسة لتفوق ميخائيل وسلوكه أرسلته على نفقتها إلى دار المعلمين الروسية (المدرسة المسكوبيَّة) في الناصرة.
منذ اللحظة الأولى التي وطأت فيها ساحات مدرسة الناصرة، تفاوتت أفكاره بين طموحات الطفل العادي ورؤى الشاب الطموح، كان حلم السفر إلى روسيا يتردد في ذهنه دائماً، ولم تفارقه الرغبة في تعلُّم لغتهم، لأنَّه يُدرك تماماً أنَّ باب أحلامه المغلق سيُفتح بواسطة مفتاح اللغة، وبانتهاء سنته الدراسية الرابعة، اختارته مدرسته في الناصرة للتوجه باتجاه روسيا لمتابعة دراسته، ليحقِّق بذلك حلمه المنشود، وهو مكافأة من المدرسة لاجتهاده وسلوكه الحميد.
انتقل إلى بولتافا الروسية التي تقع في أغنى منطقة في روسيا في عام 1906 فدخلَ إلى (السِّمنار الروحي)، والسِّمنار هو مدرسة ثانوية أو فوق الثانوية بقليل وكان لكلِّ أبرشية في كل ولاية سمنار تنفق عليه، والبرنامج الدراسي فيها يتوزع على ستِّ سنوات، فخصِّصت السنوات الأربع الأولى لدراسة المواد العلمانية والسنتين الأخيرتين لدراسة الطقوس والعقائد الدينية.
لقد تمكَّن ميخائيل خلال هذه الفترة من التعمق في الأدب الروسي العريق، وانطلق في عام 1912، نحو أفقٍ جديد باتجاه الولايات المتحدة الأميركية، فانضمَّ إلى جامعة واشنطن في مدينة سياتل، وختم مشواره الأكاديمي بتخرُّجه بإجازتين، إحداهما في الحقوق والأخرى في الآداب.
شاهد بالفيديو: أشهر الكتاب والأدباء العرب ومؤلفاتهم
الحياة المهنية لميخائيل نعيمة
قرَّر نعيمة بعد إكمال دراسته الاستقرار في الولايات المتحدة الأمريكية، لمدة تقارب العشرين عاماً، فحصل على الجنسية الأمريكية، وبدأ مسيرته الأدبية عام 1913 بنشر أول مقال له بعنوان "فجر الأمل بعد ليل اليأس"، ولاحقاً في عام 1920، شارَكَ في تأسيس الرابطة القلمية مع جبران خليل جبران ومجموعة من الأدباء المهاجرين، وكان مقرها في نيويورك، فشغل ميخائيل دوراً هاماً في وضع دستورها وكان مستشاراً لها، بينما كان جبران خليل جبران رئيساً للرابطة.
عاد ميخائيل في عام 1932، إلى لبنان، واستقرَّ في بلدة الشخروب، التي جذبته بجمال طبيعتها الساحرة ومحيطها الهادئ الذي يناسب حبه للتأمل، وكان يقضي وقته بجانب الشلال، ممارساً تأملاته وكتاباته، وظلَّ في الشخروب حتى وفاته في عام 1988.
تجسَّدت تجربة ميخائيل نعيمة الأدبية في روايته الشهيرة "مذكَّرات الأرقش" التي نُشرت عام 1949، وحاوَلَ من خلالها توصيل أفكاره وآرائه في الحياة، تدور أحداث الرواية حول شاب يعمل في مقهى ويراقب الناس والأحداث من حوله بروحه النقية وخياله الواسع، ثمَّ يعود ليدوِّن كل ذلك في مذكَّراته، وتتميَّز الرواية بأسلوبها الرائع وجمالية القصة وسرد الأحداث، وهذا جعلها تحقِّق نجاحاً كبيراً وتستمر في إلهام القرَّاء حتى يومنا هذا، وقد تخطَّت أعمال ميخائيل الثلاثين مؤلفاً بين الرواية والمسرح والشعر والمقالة والنقد، أبرز أعماله:
قصص (كان ما كان) 1937 |
مجموعة قصصية (أكابر) 1956 |
مجموعة قصصية (أبو بطة) 1958 |
مجموعة قصصية (هوامش) 1965 |
مسرحية (الآباء والبنون) 1917 |
مسرحية (أيُّوب) 1967 |
مجموعة شعرية (همس الجفون) 1945 |
رواية (لقاء) 1948 |
رواية فلسفية (مرداد) 1948 |
رواية (مذكرات الأرقش) 1949 |
رواية (اليوم الأخير) 1963 |
رواية (يا ابن آدم) 1969 |
(الغربال) 1923 |
سيرة ذاتية (جبران خليل جبران) 1934 |
مقالات (زاد المعاد) 1936 |
مقالات (البيادر) 1945 |
مقالات (الأوثان) 1946 |
أمثال وأقوال (كرم على درب) 1946 |
مقالات (صوت العالم) 1948 |
مقالات (النُّور والديجور) 1950 |
ترجمت روايته للغة الإنكليزية (مذكرات الأرقش ) 1952 |
مقالات (في مهب الريح) 1953 |
مقالات (دروب) 1954 |
مقالات (أبعد من موسكو ومن واشنطن) 1957 |
ترجم روايته (لقاء) إلى اللغة الإنكليزية 1957 |
سيرة ذاتية (سبعون، حكاية عمر) 1960 |
مقالات ( في الغربال الجديد) 1971 |
(نجوى الغروب) 1973 |
(أحاديث مع الصحافة) 1973 |
(من وحي المسيح) 1974 |
(المراحل، دروب) 1934 |
(اليوم الأخير) 1965 |
لماذا لُقِّبَ ميخائيل نعيمه بـ (ناسك الشخروب)؟
لُقَّب ميخائيل نعيمة بـ "ناسك الشخروب" وهو اللقب الذي أطلقه عليه توفيق يوسف عواد الذي زاره في الشخروب؛ لإعداد ريبورتاج خاص به، ونشره في صحيفة (البرق) لصاحبها الأخطل الصغير (بشارة عبد الله الخوري)، وذلك نظراً لميله الواضح نحو العزلة والتأمل في الطبيعة، حيث يجد هدوءه وسلامه، فقد استقرَّ بعد عودته من الولايات المتحدة الأمريكية، في قريته الأم في لبنان، التي تُدعى "الشخروب"، وهي مجاورة لقريته الأصلية "بسكنتا"، فهناك كان يتَّجه إلى أحد الشلالات، ويمكث في تأمُّلٍ عميق لكتاباته وفلسفته، مغموراً في عالمه الخاص بعيداً عن صَخَبِ الحياة اليومية.
الفيلم الوثائقي الخاص بـ ميخائيل نعيمة
عُرض الفيلم الوثائقي "تسعون" للمخرج مارون بغدادي في المركز الثقافي الفرنسي، وهو لقاء مميز أجراه المخرج مع الكاتب ميخائيل نعيمة، خلال هذا اللقاء، فتح نعيمة أبواب حياته الشخصية المتعددة للمخرج، واستعرَضَ مجموعة من القضايا الهامة التي تشكَّلت في عالمه الفكري والثقافي خلال حياته، وصُوِّر الفيلم في عام 1977، بعد مرور سنتين على اندلاع الحرب الأهلية، ورغم أنَّ الفيلم كان مفقوداً لفترة طويلة، إذ عُرض مرة واحدة في المركز الثقافي الفرنسي في عام 1981، إلَّا أنَّه عُثِرَ عليه بعد قرابة 40 عاماً، وهذا جلبه إلى الأضواء مرة أخرى في المكان نفسه في العام 2021.
الجوائز التي حاز عليها ميخائيل نعيمة
- مُنِحَ نعيمه جائزة رئيس الجمهوريَّة في لبنان، التي تُمنح سنوياً لكاتب لبناني تميَّزت آثاره بالعمق والجودة وذلك عام 1961.
- قررت في 1977 الحكومة اللبنانية، بناءً على رغبة رئيس الجمهورية آنذاك إلياس سركيس إقامة مهرجان تكريمي لنعيمة شاركت فيه الدولة ومختلف أوساط أدبية وفكرية وثقافية في لبنان والعالم.
كتاب السيرة الذاتية لميخائيل نعيمة
نشر نعيمة في عام 1959، بمناسبة بلوغه السبعين، سيرته الذاتية في ثلاثة أجزاء تتكوَّن من مجموع 1248 صفحة، وقسَّم السيرة إلى ثلاث مراحل: المرحلة الأولى (1889-1911) التي تتناول فترة حياته منذ ولادته حتى عودته من رحلته الدراسية في روسيا، أمَّا المرحلة الثانية (1911-1932)، فتتحدث عن فترة دراسته وعمله في الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك فترة خدمته بوصفه جندياً في الجيش الأمريكي خلال الحرب العالمية الأولى، أمَّا المرحلة الثالثة (1932-1959)، فتغطِّي فترة عودته إلى لبنان واستقراره النهائي في بلدته بسكنتا.
قدَّم نعيمة نظرة شاملة على حياته وتجاربه، بدءاً من طفولته في بسكنتا وصعوبات الحياة التي واجهته هناك، ومروراً بسنوات دراسته في روسيا والولايات المتحدة وخدمته في الجيش الأمريكي، وانتهاءً بعودته إلى لبنان واستقراره في بسكنتا.
الحياة الشخصية لميخائيل نعيمة
يعتقد عدد من القرَّاء أنَّ حياة الكاتب ميخائيل نعيمة كانت خالية تماماً من العلاقات العاطفية، وعاش عازباً طوال حياته التي امتدت لمدة 100 عام، ولم يتزوج أبداً، فقد عبَّر في كتاباته عن هذا الوضع قائلاً "خُلقت لأكون أخاً للمرأة لا بعلاً لها"، ومع ذلك، كانت الحقيقة أكثر تعقيداً من ذلك بكثير، فقد أحبَّ نعيمة ثلاث نساء في حياته، ولكنَّه لم يتمكَّن من الزواج من أيٍ منهنَّ لأنَّهن متزوِّجات بالفعل.
وفاة ميخائيل نعيمة
توفي الكاتب ميخائيل نعيمة في 29 فبراير 1988 عن عمر يناهز 100 عام في قريته الشخروب، وكان سبب وفاته الالتهاب الرئوي الحاد، وحُوِّل تخليداً لذكراه وإحياء إرثه في منطقة الشخروب، إلى إحدى الوجهات السياحية الرئيسة في لبنان، ونَحَتَ النحات اللبناني عساف عساف تمثالاً لميخائيل نعيمة على صخرة، تكريماً لشخصيته ومساهمته الأدبية.
في الختام
ميخائيل نعيمة، شخصية استثنائية بامتياز، تجلَّى فيها مزيج نادر من العطاء الأدبي والروح الإنسانية العميقة، من خلال رحلته الطويلة والمثيرة، ترك لنا ميراثاً ثقافياً وأدبياً لا يُقدَّر بثمن، فقد كان رمزاً للإبداع والتفاني في خدمة الفن والثقافة.
عاش نعيمة حياة مليئة بالتحديات والتجارب المختلفة، ومع ذلك استطاع أن يترك بصماته العميقة في عالم الأدب والفكر، وذلك من خلال أعماله الأدبية الرائعة التي تعكس رؤيته الفلسفية والإنسانية، وتعلَّمنا في ظلِّ هذه الحياة المُلهمة، من ميخائيل نعيمة كثيراً عن الإصرار والعزيمة، وعن قوة الفن في تشكيل الوعي وتحقيق التغيير، وإنَّ إرثه الثقافي والأدبي سيظل حياً في قلوب الأجيال القادمة، مُلهِماً وموجَّهاً لكلِّ من يسعى لتحقيق الجمال والعبقرية في عالم الأدب والفن.
أضف تعليقاً