مع تعمق الركود والأزمة الاقتصادية في عام 2008، أصبح لدى العديد من المؤسسات خطط استراتيجية لا يمكنهم المضي قدماً في تنفيذها. لأنَّها لا تساعد في معرفة البدائل المحتملة للخطط المرسومة؛ وكأنَّ تلك المؤسسات قد أضحت أسرى هذه الخطط.
وحتى قبل الأزمة الاقتصادية، كان هناك تذمّرٌ واسعُ النطاق حول التخطيط الاستراتيجي، فغالباً ما تفشل عشرات الاجتماعات في إنتاج رؤىً جديدة. وغالباً ما يشعر الموظفون بالإحباط من "عدم استخدام الخطة الاستراتيجية مطلقاً"، في حين أنَّ العديد من القادة التنفيذيون يشعرون أنَّ الخطة الاستراتيجية هي مجرّد وسيلةٍ تَحَقُّقٍ مما يقوم به الموظفون فعلاً أو الذي قرروه؛ فلا يبدو أنَّها تضيف كثيراً إلى عملهم أو إلى المؤسسة. وغالباً ما يبدأ المديرون التنفيذيون بطموح عالٍ وأفكار جديدة ورائعة قبل البدء في التخطيط الاستراتيجي. وبمجرد حلول وقت الانتهاء من وثيقة "التخطيط الاستراتيجي"، تختفي أو تذوب هذه الأفكار في ثنايا الوثيقة ولا يعود لها قيمة فعلية أو آثار عملية.
غالباً ما تتعهّد المؤسسات -ضمن أهداف التخطيط الاستراتيجي- بإشراك الجميع في التخطيط وتدّعي أنَّها تدعم العمل الجماعي وتقدّر قيمة المشاركات الفردية، وهي أهداف يمكن الوصول إليها بطرائق مختلفة ومتنوعة بكفاءة وإنتاجية أفضل. وفي الوقت نفسه، يكسب الاستشاريون الاستراتيجيون أموالاً طائلة من المؤسسات التي كُتبت لها الخطط الاستراتيجية ولم تُقْرَأ من أصحابها أبداً؛ بل وُضِعَتْ في واجهات المؤسسات أو في مكاتب الرؤساء التنفيذيين للتزيين والمباهاة.
هذا لا يعني أنَّ التخطيط الاستراتيجي لم يكن أداةً مفيدةً وفعالةً للعديد من المؤسسات؛ فغالباً ما يكون الموظفون ومجالس الإدارة متحمّسين لمناقشات التخطيط الاستراتيجي، ويحتفلون بما يرون أنَّها أهداف أكثر وضوحاً، وهي وثيقةٌ هامةٌ تُقنِعُ الممولين أولاً، وتعطي إحساساً رائعاً بأنَّ عملاً جيداً قد جرى إنجازه في وقتٍ قصير.
لا شكّ أنَّ التخطيط الاستراتيجي له مزاياه التي لا يمكن أن تخطئها العين؛ ففي مرحلة تحديد الأهداف طويلة الأمد، غالباً ما تُثار وتناقش القضايا المتعلقة بالقيم والأولويات للمؤسسة - والتي لا تناقش في اجتماعات مجلس الإدارة أو أي اجتماعات روتينية. كما أنَّ -الاجتماعات والمناقشات في أثناء التخطيط- فرصةٌ مثاليّةٌ للمدير التنفيذي وللفريق القيادي لرؤية الصورة الحقيقيّة والثقافة والمستوى الفكريّ والاستراتيجي الذي يملكه الموظفون؛ بالإضافة إلى الاطلاع على أمور في المؤسسة في أثناء الاستماع إلى المحادثات والمناكفات في كلّ اجتماع.
عادةً ما تُفضي عملية التخطيط الاستراتيجي إلى فتح ملفات المشكلات الحقيقية في المؤسسة، مثل التي تتعلق بالمدير التنفيذي، وبالتخطيط المالي وبسوء الإدارة، والصراعات بين مجلس الإدارة والفريق التنفيذي، والتوتر العنصري، وما شابه ذلك من مشكلات. لسوء الحظ، فإنَّ معالجة هذه المسألة من خلال إطار التخطيط الاستراتيجي، غالباً ما يزيد المشكلة تعقيداً ويجعلها حلها أكثر صعوبة.
يستمتع أعضاء مجلس الإدارة عادةً بعملية التخطيط الاستراتيجي؛ فهي تُشعرهم بالإبداع وتسمح لهم بطرح أفكارٍ جديدة -حيث نادراً ما يتمّ تشجيع طرح هذه الأفكار في اجتماعٍ عاديّ لمجلس الإدارة- ومناقشة بيئة العمل وتحدياته، وتعطيهم شعوراً بأنَّ المجلس يؤدي وظيفة حقيقية.
أضف إلى ذلك؛ يمكن أن يكون التخطيط الاستراتيجي وسيلةً للقادة لإثارة أفكار وطموحات جديدة؛ إذ في كثير من الأحيان، لا يستطيع المسؤولون التنفيذيون معرفة المدخل المناسب للبدء بالتغيير داخل مؤسساتهم. لذا عندما يأتي نقاش التخطيط الاستراتيجي؛ تنفتح الآفاق.
وهذا بالمناسبة يُرينا الحاجة إلى فتح قنوات وطرق مختلفة للتعبير عن الرغبات والطموحات بخلاف التخطيط الاستراتيجي التقليدي.
إن كانت هذه مزايا التخطيط الاستراتيجي فلماذا نبحث عن بدائل له؟
التخطيط الاستراتيجي -حاله حال الكثير من الأدوات الإدارية- له مزاياه، ولكن له عيوبه أيضاً:
بدايةً؛ نحن لسنا بصدد تسليط الضوء على الممارسات السيئة في التخطيط الاستراتيجي، وإنَّما الحديث عن مشكلات في أصل التخطيط الاستراتيجي.
دعونا نلقي نظرة على بعض الحقائق -غير المنظورة- حول التخطيط الاستراتيجي كما يحدث بالفعل:
كثيراً ما يستخدم التخطيط الاستراتيجي كإجراءٍ وقائي ضد النقد أو لوم القادة في المؤسسات، أو يستخدم -كأداةٍ ذكيّةٍ- لتأخير القرارات، ولتبرير وضعها قيدَ الانتظار، أو لتجنُّب اتخاذ موقفٍ أو قرارٍ استراتيجي أو مصيري.
فمن العبارات المشهورة في هذا الصدد: "لا يمكننا اتخاذ قرارات حاسمة خلال الفترة الحالية حتى ننتهي من التخطيط الاستراتيجي". بهذه الحجة تتأخر القرارات وتضيع الفرص وتُصاب كافة أرجاء العمل بالشلل ويتعطّل التنفيذ. هذا التأخير يؤدي بنفسه إلى تعميق المشكلات وتضييق الخيارات في عملية التخطيط الاستراتيجي مستقبلاً.
وفي حالاتٍ كثيرة، أصبح التخطيط الاستراتيجي "برستيجاً" مؤسساتياً ضمن عناصر مسرحية استعراضية يؤدي بطولتها استشاريون ذوو رواتب عالية، يعيّنهم الممولون أو يرشحون مستشاريهم المفضلين إلى المؤسسة المنفذة. يقوم الاستشاريون بدورهم بالإشادة بالممولين والخطط التي تمّ تمويلها. وتُعقد المناقشات بشكلٍ مدروسٍ مسبقاً، بينما يتهامس معظم المشاركين سراً أنَّه لم يتم تنفيذ -أو تغيير- أيّ شيءٍ فعلياً على أرض الواقع، حالهم حال المدعوين في مطعم فارهِ موضوعٌ بجوار اسمه عددٌ من النجوم، لكن المطعم يقدّم طعاماً سيئاً في حلّةٍ أنيقة جداً، فلا يريد أن يعلق أحد على نوعية الطعام أو جودته!!
إن خرجنا من هذا الإطار التقليدي الذي يغلب عليه البرستيج والمظاهر الاجتماعية المختلطة بعالم الأعمال؛ فإنَّه توجد أسباب أخرى لفشل التخطيط الاستراتيجي وهي:
1. الاستدامة المالية: لا تأخذ معظم الخطط الاستراتيجية الاستدامة المالية على محمل الجد. فالكثيرون منا يصلون إلى حالة الإحباط عندما يسمعون التعليقات الحزينة: "لقد انتهينا من خطتنا الاستراتيجية، لكن يجب الآن أن نفكر في كيفية الحصول على تمويل مناسب لتنفيذها؟"، وهذا واضحٌ في المؤسسات غير الربحية.
في الواقع، يجب أن تكون الاستدامة المالية في صميم التخطيط الاستراتيجي، وعلى قائمة أولويات أهداف المؤسسة، ولا ينبغي أن تكون الخطة الاستراتيجية تتعلّق فقط بكيفية الحصول على التمويل. وفي حين يدير المسؤولون التنفيذيون مناقشات التخطيط على غرار الجدوى المالية، لكن مناقشة استراتيجيات وفرص التمويل يجب أن تكون جزءاً أساسياً وواضحاً من الاستراتيجية.
2. بناء القدرات التحليلية: غالباً ما يفشل التخطيط الاستراتيجي في بناء القدرات التحليلية الداخلية أو في مراجعة العلاقات مع أصحاب المصلحة في المنظمة (Stakeholders). وبدلاً من ذلك، غالباً ما تعود عملية التخطيط الاستراتيجي بالفائدة على المستشارين أو الشركات التي تستهدف الربح.
لا يمكننا إنكار أهميّة وجود المستشارين أو الشركات الاستشارية في عملية التخطيط، لكن من الأفضل أن يقود العملية برمتها -بما فيها المناقشات التي تتمّ داخلياً وخارجياً مع اللاعبين الأساسيين من خارج المؤسسة- فريق العمل المكلف بالتخطيط.
3. الأسئلة الرئيسة ما تزال مبهمة: هناك عيبٌ كبيرٌ في التخطيط الاستراتيجي، وهو أنَّ الأسئلة الرئيسة تبقى غامضة بدون إجابة واضحة في نهاية عملية التخطيط. فلا يصل التخطيط الاستراتيجي -كأداة- إلى إجاباتٍ واضحةٍ حول الأسئلة الكبرى في المؤسسة؛ والتي غالباً ما تكون أسئلة عميقة وتحتاج إلى إجابات علمية: هل نبدأ عملية الاندماج؟ هل نغلق فرعنا في المدينة تلك؟ هل نلغي تلك الصفقة؟ هل نبدأ في التغيير فوراً؟ هل تمت تغطية كافة جوانب الاستراتيجية؟ وغيرها.
لذا قام مجموعة من الباحثين بدراسة بدائل التخطيط الاستراتيجي ومنهم "د. م. ثينموزي" (M. Thenmozhi) وهو أستاذ في قسم الدراسات الإدارية بالمعهد الهندي للتكنولوجيا، مدراس تشيناي، كلية الهندسة العامة في جنوب الهند، وأشار إلى خمسة أمثلة عن البدائل الاستراتيجية:
- التركيز (Concentration) مثل النمو الرأسي أو الأفقي.
- التنويع (Diversification)، مثل التمركّز أو التكتل.
- الاستقرار (Stability)، والذي ينطوي على اتباع مسار ثابت ومحاولة الحفاظ على الأرباح.
- التحويل (Turnaround).
- التصفية (Liquidation).
تُعدّ شركة إيروبوستال (Aeropostale) مثالاً على تنفيذ البدائل الاستراتيجية الثلاثة الأخيرة في القائمة المذكورة. ففي البداية؛ كانت المؤسسة تأمل في حدوث تحويل (Turnaround) والذي لم يتحقق في ظل الإدارة الأولى. ثم بدا لهم أنَّه لابدّ من الاتجاه إلى التصفية عن طريق إعلان الإفلاس (Liquidation). وفي النهاية، وجدت سلسلة الملابس نفسها معروضة للبيع من خلال محكمة الإفلاس، ولم يتمكن المُلاك الجدد من تحقيق التحويل.
واعتباراً من 1 يونيو 2018، بدأت السلسلة -التي تضم أكثر من 21000 موظف يعملون في مئات المتاجر في جميع أنحاء العالم- في الاستقرار (Stability). لذا كان هذا بديلاً استراتيجياً نجح بشكلٍ واضح، وإن كان مع قيادةٍ جديدة. للمزيد من المعلومات حول الشركة (Aeropostale) يمكنكم زيارة الموقع التالي.
الأمثلة الثلاثة الأولى للبدائل الاستراتيجية المدرجة في القائمة أعلاه هي مناسبة للشركات التي تعاني، وتبحث عن بدائل تساعدها على البقاء:
- التركيز (Concentration) كبديلٍ استراتيجيّ يعني أنَّ الشركة مستعدةٌ للتخلّص من العديد من مقتنياتها المتنوعة، كي تتمكّن من التركيز على أعمالها الأساسية مثل ما فعل "جاك ويلش" عندما تخلّص من منتجات "جنرال الكيتريك" (GM) التي لا تحقق أرباحاً (من كتاب: "من التعقيد إلى البساطة"، صفحة 104).
- التنويع (Diversification)، هو عكس ذلك تماماً: فهو يشير إلى أنَّ الشركة تعاني من انخفاض المبيعات و/ أو الأرباح، وتأمل في الارتباط مع الشركات الأخرى لزيادة صافي أرباحها.
- الاستقرار (Stability) كبديلٍ استراتيجي، هو المسار الأقل احتمالاً للشركة. وبحكم التعريف، إذا كانت الشركة في حالةٍ جيدة، أو إذا كانت المبيعات مزدهرة، أو إذا كان العملاء يطالبون بخدماتها؛ فلن تحتاج إلى بديلٍ استراتيجي.
لذا إن رأيت مصطلح "البديل الاستراتيجي" أو سمعت أنَّ إحدى الشركات تبحث عن "بدائل استراتيجية"، فاعلم أنَّ الشركة المعنية تتعثر تقريباً: أعمالها الأساسية لا تعمل بشكلٍ جيد، لذا فهي تبحث عن أيّ طريقةٍ كانت للخروج من عنق الزجاجة؛ فالشركة القويّة التي تبيع منتجاتها وتكون على صلةٍ جيدةٍ بعملائها لا تحتاج إلى بديل استراتيجي للبقاء والازدهار.
ولكن إضافةً إلى البدائل المذكورة، فيوجد بديلٌ يبدو واعداً ويدور حوله الكثير من النقاشات وتتبناه مؤسسات استشارية عالمية، وهو منهجية "التصغير والتكبير" (Zoom In / Zoom Out) وهو نهجٌ بديلٌ للاستراتيجيةِ في عالمٍ يتحدّى التنبؤات والتغييرات المتسارعة.
قبل الولوج في وضع النقاط على الحروف في الحديث عن منهجيّة التصغير والتكبير؛ فإنَّه ينبغي طرح مجموعةٍ من الأسئلة حول الطرائق التقليدية للتخطيط الاستراتيجي.
أولاً: ما هو الخطأ في الخطة الخمسية؟
على الرغم من تحديات التخطيط الاستراتيجي في عالمٍ سريعِ التغير، بقيت معظم الشركات محافظةً على الخطة الخمسية كإطارٍ أساسيٍّ. انتقل البعض إلى أفقٍ تخطيطيّ مدته ثلاث سنوات لمعالجة حالة عدم اليقين المتزايدة، حيث اتخذ عددٌ قليلٌ خطوةً جذريّةً بالتخلّي عن الخطة الاستراتيجية طويلة الأجل. وبغض النظر عن الإطار الزمني، اعتمد المسؤولون التنفيذيون بشكلٍ متزايدٍ نهج رد الفعل تجاه الاستراتيجية والذي كان يهدف إلى استشعار تطورات الأحداث حولهم والتعامل معها في أسرع وقتٍ ممكنٍ عند حدوثها.
يرى الكثيرون أنَّ استراتيجيات الفعل -وليس رد الفعل- هي الطريقة الأكثر فعالية للتعامل مع التغيير وعدم اليقين، مع مراعاة المرونة والسرعة كمفاتيح للنجاح.
ثانياً: ماذا كانت النتيجة؟
تضطر العديد من الشركات إلى تشتيت جهودها وتوزيع طاقاتها أكثر من أيّ وقتٍ مضى للتعامل مع مجموعةٍ متزايدةٍ من المبادرات والتحديات. والحقيقة أنَّه حتى أكبر الشركات تدرك بشكلٍ مستمرّ أنَّها لم تعد قادرةً على تغطية احتياجات البرامج والمبادرات الجديدة لديها بحكم محدودية الموارد المتاحة.
والأدهى من ذلك؛ لم تفِ نتائج التخطيط الاستراتيجي بما تعهّدت به!!! حيث يبدو أنَّ النتائج ليست مشجّعة أبداً. فقد تمّ تتبّع أداء جميع الشركات العامة الأمريكية على مدار نصف القرن الماضي وذلك بقياس العائد على الأصول، والنتائج تؤكد انخفاض الأداء في المتوسط لجميع الشركات العامة بأكثر من 75% منذ عام 1965.
فإذا كان الهدف من الاستراتيجية هو الحفاظ على الأداء المالي الحالي على الأقل بمرور الوقت، فهذا دليلٌ مؤسفٌ على أنَّ منهجيّة التخطيط الاستراتيجي الحاليّة لا تعمل كما ينبغي.
ثالثاً: ما هو النهج البديل المناسب؟
لحسن الحظ، هناك بديلٌ لاستراتيجية ردّ الفعل. يعتمد ذلك على مقاربةٍ اتبعتها بعض أنجح شركات التكنولوجيا الرقمية على مدار العقود القليلة الماضية. تسمى هذه الاستراتيجية "التكبير / التصغير" (Zoom In / Zoom Out).
في هذه الاستراتيجية؛ يتمّ استخدام آفاق زمنية متوازية قصيرة أو طويلة الأمد. فيكون الأفق القصير من ستة أشهر إلى 12 شهراً، بينما الأفق الطويل يمتد بين 10 و20 عاماً. وكلاهما يعمل على تعزيز التأثير الاستراتيجي الفوري والمدى الطويل.
لكن لماذا استراتيجية التصغير والتكبير (Zoom In / Zoom Out) مناسبة لعصر متغيير باستمرار؟
مع تسارع التغيير وضغط الأداء والإنجاز المتسارع فإنَّ الضغوطات تتسارع ولا تقل، إنَّه الوقت المناسب للمؤسسات والقادة لإعادة تقييم الطريقة التي نتعامل بها مع الاستراتيجية، فلم تعدْ طرائق التخطيط التقليدية تتناسب وسرعة التغيير وتزايد المخاطرة، وبدأت الشركات في نزف نقاط المنافسة وخسارة التحديات. ولحسن حظ المؤسسات والقادة، فهنالك طريقةٌ واعدةٌ أكثر للتصدّي إلى التحدّيات المقبلة.
عندما ندرس تقنية (Zoom In / Zoom Out) نلاحظ فارقاً رئيساً عن النهج التقليدي -الخطة الاستراتيجية الخمسية- التي تتبعها العديد من الشركات التقليدية؛ فالشركات التي تتبع نهج (Zoom In / Zoom Out) "التصغير / التكبير" لا تبذل أيّ جهدٍ يذكر في النظر إلى الأفق الممتد من عام إلى خمس سنوات؛ حيث أنَّهم تمكنوا من القيام بالأفق البعيد (التكبير) من 10 إلى 20 عاماً بشكلٍ صحيحٍ واستراتيجي، ومن ستة أشهر إلى 12 شهراً في الأفق القريب (التصغير)، إذاً، تمت تغطية الخطط الخمسية بكلّ اقتدار.
إنَّ الرغبة في التعلّم والتخطيط بشكلٍ أسرع هي ما يدفع هذا النهج من الاستراتيجية للبروز والتميّز؛ إذ يسعى قادة الشركات التي تتبنى هذا النهج إلى تعزيز ما يتمّ تعلّمه في الافق القصير والطويل من أجل تعديل وصقل طرائق العمل واستراتيجيات الأعمال باستمرار، وذلك رغبةً منهم في تحقيق تأثيرٍ أكبر للنتائج في عالمٍ أقلّ قابلية للتنبؤ.
لاحظ أيضاً أنَّ هذا النهج مختلفٌ عن التخطيط بالسيناريو؛ ففي تلك المنهجية يشارك العديد من الفرق والموظفين في المؤسسات في تمرينات العصف الذهني، ويُطلب منهم تخيُّلَ مجموعةٍ من السينايوهات المستقبليّة البديلة مع التركيز على تلك التي يبدو أنَّها من المرجّح أن تتحقق.
تبدو المقاربة مقنعة واستفزازية لعقول القيادات؛ ولكن بعد انتهاء الاجتماع يعود الجميع إلى مهامهم اليومية، وغالباً لا يتغير أيّ شيء. وأفضل ما يقال عن تخطيط بالسيناريو أنَّه تمرينٌ نظريٌّ ورياضةٌ عقليّةٌ إلى حدٍّ ما، مع عدم وجود طريق واضح لاتخاذ إجراءات التهيئة لهذا المستقبل.
يختلف الوضع في نهج "التكبير والتصغير" (Zoom In / Zoom Out) تماماً؛ فلا تنتهي اجتماعات التخطيط إلا وتختار القيادة اثنين أو ثلاثة من المبادرات الأكثر تأثيراً، والتي يمكن متابعتها في الأشهر الستة المقبلة، مع الالتزام برصد الموارد المناسبة لتلك المبادرات؛ فيتحوّل ما كان يُعدُّ تمريناً نظرياً إلى خطةٍ تنفيذيّةٍ حقيقية.
ينعكس ذلك على خطط الشركة أولاً، وعلى ما ستفعله الشركة بشكلٍ مختلفٍ عمَّا سبقه على المدى القصير لبناء القدرات الأساسية على المدى الطويل ثانياً.
رابعاً: ما الذي تحققه منهجية التكبير والتصغير؟
تحقّقُ هذه المنهجية البديلة للاستراتيجية عدداً من الفوائد، فهي تُخرِج القادة من ضغط النتائج الفصلية (ربع السنوية أو نصف السنوية) ودائرة التفكير على المدى القصير، وتدفعهم إلى الخروج من منطقة الراحة؛ فعندما نركّز على أفق مدته خمس سنوات، فمن الممكن أن نقنع أنفسنا بأنَّ المؤسسة خصوصاً وبيئة الأعمال عموماً ستبدو على ما هي عليه اليوم.
يبقينا هذا الإحساس الخادع في دائرة الأمان؛ ولكن إذا حولنا تركيزنا من 10 إلى 20 عاماً، فمن الصعب تصور مستقبل ثابت في أفقٍ يصل إلى عقدٍ من الزمن.
يدفعنا "التصغير" في التفكير في مدى اختلاف شركاتنا في المستقبل القريب وماذا نحتاج إليه لنزدهر في أسواق سريعة التغير إلى التساؤل حول معظم افتراضاتنا الأساسية والمسلمات حول توجهات الأعمال التي يجب أن نكون فيها بالفعل، وإلى محاربة الميل المتزايد لتبني وجهات نظر "الأفق القصير". وقد يقلّل هذا من خطر تعثرنا في شيءٍ يبدو تافهاً اليوم، ولكن قد ينتهي بنا إلى إعادة تعريف أسواقنا وعملائنا بشكلٍ أساسي.
تقاوم هذه المنهجية أيضاً الميل إلى تشتيت الموارد والقدرات المؤسسية بقوة، وذلك عبر العديد من المبادرات المتناثرة. إنَّها تجبرنا على التركيز -في المدى القصير- على المبادرات التي سيكون لها بالغ الأثر في تحسين تحركاتنا نحو فرصةٍ مستقبلية، وإلى ضمان الحصول على هذه المبادرات بشكلٍ كاف.
في الأفق البعيد (التكبير)، عادةً ما تكون الخطوة الأولى هي توسيع آفاق فريق القيادة. ويتضمّن ذلك بناء وعيٍ أكبر بخطى التغيير المتسارعة في عالم الأعمال، والتي تتشكّل إلى حدٍّ كبيرٍ من خلال التقدم الهائل في أداء التكنولوجيا الرقمية.
وعلى الرغم من أنَّ كلّ مديرٍ تنفيذيّ على الأقل يدرك إلى حدٍّ ما هذه التطوّرات، وقد يشرح بعضاً منها للقادة في مجال عمله أو تخصصه؛ إلا أنَّ الزيارات الميدانية وحضور المؤتمرات والندوات ولقاء المفكرين والقادة في المجال يخرجهم -أي القادة- من منطقة راحتهم، ويساعدهم على رؤية ما قد يحدث بالفعل والعيش مع أمثلة ملموسة للتغير المتسارع.
والخطوة التالية هي البدء في بناء توافق داخل فريق القيادة حول رؤية مشتركة لمستقبل المؤسسة من أفقٍ زمنيٍّ يتراوح ما بين 10 إلى 20 سنة. وفي هذا السياق، من المؤكد أنَّ تقنيات تخطيط السيناريو لها دورٌ تؤديه في بناء أفكارٍ مستقبلية وفتح آفاقٍ حقيقية؛ إذ من المفيد أن نبدأ بتخيّل المستقبل البعيد والبدائل المتوقّعة والتي شكلتها التساؤلات التي طُرِحَت في المرحلة الأولى.
من أفضل الممارسات في هذا المجال هو الاستعانة بمفكرين استراتيجيين أو مَنْ لهم باعٌ طويلٌ في المجال المراد مناقشته؛ بحيث يقوم هؤلاء بتحدّي القادة والمديرين التنفيذيين ومناقشة افتراضات رئيسة حول أهمّ التطورات والتغييرات المحتملة في غضون 10 إلى 20 سنة من الآن. وكلّما كان هؤلاء المفكرون من خارج المؤسسة، كان ذلك أفضل لرؤية الأمور بعيونٍ جديدة، ولتحقيق نتائج مختلفة ومبتكرة.
من المهم هنا رؤية الأمور من منظورٍ خارجيّ ومقاومة الميل إلى النظر إلى المستقبل من الداخل إلى الخارج. فابدأ برؤية التطوّر المحتمل للعملاء وأصحاب المصلحة؛ فقد نحتاج إلى فهم احتياجاتهم غير المنظورة والآخذة في الازدياد والتطوّر، ثمّ العودة إلى الخلف لتحديد الفرص المتاحة والتي يمكن من خلالها خلق قيمةٍ كبيرةٍ من خلال تلبية هذه الاحتياجات بطريقةٍ مميزة.
بالإضافة إلى ذلك، ركّز على روافع مثل: محاولة تحديد وفهم النظم الإيكولوجية المحتملة التي يمكنها الاستفادة من قدرات الشركة وتقديم قيمة إلى السوق.
في حين أنَّ تصور المستقبل وبدائله أمرٌ مفيد، فإنَّ هذا المنهجية الاستراتيجية تعتمد على بناء توافق حول وجهة نظر مشتركة حول المستقبل المحتمل. وهذه النظرة المشتركة ليست مخططاً تفصيلياً للمستقبل، ولكن يجب أن يكون لديها وضوحٌ كافٍ بشأن الاتجاهات والفرص الرئيسة لمساعدة القادة على اتخاذ القرارات المتعلقة بالأولويات قصيرة الأجل. لاحظ أنَّه من المهمّ عدم النظر إلى المستقبل على أنَّه أمرٌ يفوق قدرة الفرد على التأثير.
عند تكوين رؤية مشتركة للمستقبل، ينتقل التركيز إلى الآثار المترتبة على المؤسسة. لذا اسأل السؤال الآتي: أيّ نوعٍ من الأعمال يمكن أن يخلق أكثر قيمة ويحتلّ مركزاً متميزاً في هذا المستقبل المنظور؟
هنا يمكن لأدوات مثل "سلسلة الاختيار الاستراتيجي" أن تلعب دوراً هاماً، لكنّ أسئلةً مثل: "أين يمكننا أن نتحرك؟ وكيف يمكننا أن نحقق المطلوب؟" مؤطّرةٌ في سياق مستقبلِ التصغير المتوقّع. الهدف هو الحصول على التوافق داخل فريق القيادة حول ما ستحتاجه الشركة لتبدأ بعد 10-20 سنة من الآن في الحصول على أكبر قيمةٍ وتقليل عدد المنافسين.
تراجع القيادات هذا النهج الاستراتيجي بانتظامٍ لتتأمّل ما تعلمته، سواءً من حيث مراقبة العالم الخارجي، أم من حيث مبادرات التكبير التي تتبعها. وعادةً ما يعقدون جلسات منتظمة لتطوير نهج "التكبير / التصغير" الخاص بهم كلّ ستةٍ إلى 12 شهراً، مدفوعةً بفرصة تقييم نتائج مبادرات التكبير. لكنَّ العديد من اجتماعات القيادة على مدار العام تتضمّن مناقشاتٍ لكلٍّ من آفاق التصغير والتكبير لاختبار المنهجية وصقلها بشكلٍ مستمر.
يمكن أن تكون هذه المنهجية الاستراتيجية وسيلةً قويّةً للتعرّف على المستقبل وكيفية الوصول إليه، وهذه المثابرة في استمرار المراجعة والتعلّم منه والاستفادة من التغذية الراجعة تتطلّب التفكير المستمرّ والصبر. ومع ذلك، فإنَّ الضغوطات اليومية والمهام الروتينية يمكن أن تجعلا من السّهل تجنّب القيام بهذا الجهد.
خامساً: الاعتراضات المحتملة على هذا منهجية التكبير والتصغير:
هناك شكٌّ طبيعيٌّ يتجسّد في جهود توسيع آفاق المديرين التنفيذيين، وخاصة عند معارضة أيّ تيارٍ فكريٍّ أو ممارسةٍ سائدة . بعض الاعتراضات الأكثر شيوعاً فيما يتعلق بمنهجية التكبير والتصغير:
- "المستقبل غير مؤكد وصعب التنبؤ": هذا صحيح، وهو ليس بالأمر السهل في ظلّ الظروف المتغيرة، ولكن التطلّع إلى المستقبل أصبح ضرورياً بشكلٍ متزايد؛ فإن افتقرنا إلى الإحساس الواضح بالاتجاه، فإنَّنا نجازف بالذهاب إلى مستقبلٍ غامض ذو وتيرةٍ متسارعة. فما هو الحل إذاً؟ المفتاح هو التركيز على عوامل محددة يمكن التنبؤ بها بشكلٍ معقولٍ مثل بعض الاتجاهات التكنولوجية والديموغرافية والاجتماعية، والبناء على تلك العوامل ومراجعتها باستمرار.
- "يرغب الجميع في الحصول على نتائج قصيرة الأجل": التكبير (Zoom-out) يصرف القادة عن التفكير في المستقبل القصير. صحيح أنَّ المستثمرين والمعنيين يركزون على الأرباح الفصلية والنتائج قصيرة الأجل، ولكن توقع التخطيط للأرباح المستقبلية -والتي قد تكون أضعاف أرباح اليوم- هو الذي يرفع سعر سهم الشركات الكبيرة. فكلما كانت الشركة أكثر إقناعاً بشأن الفرص المستقبلية الواعدة وإظهار تقدّمٍ ملموسٍ على المدى القصير نحو معالجة هذه الفرص، كان من المحتمل أن يؤدي سعر السهم أداءً أفضل؛ وفي النهاية نجاح الشركات مرتبطٌ بنجاحٍ طويل الأمد وليس جني أرباح سريعٍ ومؤقت.
- "من المحتمل أنَّ أيّ تأثيرٍ اقتصاديٍّ قريب المدى لهذه المنهجية سيكون هامشياً؛ ويستغرق وقتاً طويلاً لجني ثماره": تركيز القادة على المدى القصير وبذل كافة الأسباب لتحقيق نتائج جيدة هو أمرٌ مفيد، ومن المحتمل أن يحسن الأداء الاقتصادي. وهذا بلا شك يحقق جزءاً من استراتيجية الشركة. ولكن إذا كانت لدينا رؤية أوضح لما قد يبدو عليه المستقبل، فنحن في وضعٍ أفضل لاتخاذ خطواتٍ من شأنها أن تقلّل من قابليتنا للتأثر بالاضطرابات على المدى القريب، والذي يتيح لنا إجراء اختياراتٍ صعبة، مثل: التخلّص من أجزاء من أعمالنا التي لا يتّسم الأداء الحالي بها بالقدر الكافي من المرونة. وإذا انتهى الأمر بشكلٍ صحيح، فإنَّ لهذه المنهجية القدرة على تحسين الأداء الاقتصادي على المدى القريب بشكلٍ ملحوظ.
سادساً: ماذا ينتظرنا في المستقبل؟
تعدُّ منهجية "التصغير / التكبير" مثالاً رائعاً على الجمع بين هدفين متناقضين: الاستعداد للمستقبل بشكلٍ جدّيّ مع تحقيق نتائج وتأثير أكبر على المدى القريب. ومن خلال التركيز على هذين الأمرين جنباً إلى جنب، يكون لدينا إمكانات أكبر لتسريع حركتنا نحو الفرص المستقبلية الواعدة وإبراز تأثير قريب المدى والذي يهمّ أصحاب المصلحة.
تتعلّق الاستراتيجية بتحديد المسار المستقبلي أكثر من كونها اتخاذ مواقف مؤقتة ناجحة أو تحركات سريعة ذكية. يشّكلْ المسار شعوراً بالوجهة والالتزام بتوجيه المواقف والتحرّكات للوصول إلى تلك الوجهة.
يمكن استخدام هذه المنهجيّة لشركةٍ بأكملها أو يمكن تطبيقه أيضاً على مستوى وحدة الأعمال (SBU)، لكنّ هذا ليس فقط للشركات: إذ يمكن لكلّ مؤسسةٍ -وكلّ فردٍ- استخدام هذه المنهجية لزيادة التأثير.
ما هي فرصنا عندما نركز على التصغير؟ وما ينبغي أن تكون أهم أولوياتنا عند نبدأ في التكبير؟
حتى نصل إلى إجابات مقنعة ورشيدة على هذه الأسئلة، فنحن معرّضون إلى تحدّيات مجهولة من عالمٍ يزداد الطلب عليه، ونشهد المزيد والمزيد من التوتر.
أضف تعليقاً