نحن مثلاً نردِّد ترديداً ببَّغائيَّاً بأنَّ الإنكليزَ دقيقون في المواعيد، وأنَّ الفرنسيين أنيقون في لباسهم، وأنَّ اليابانيين مُخترِعون ومُبدِعون، كما نُسمِّي عدداً من الشعوب بسماتٍ مُعيَّنةٍ بناءً على آراءٍ تبنَّيناها دون أن نتذكَّرَ مصادرها حتَّى.
في مثل هذه الحالات نتوقَّع أن يَحضُرَ صديقُنا الإنكليزيُّ في موعده، وإذا ما جاء صديقُنا الفرنسيُّ بثوبٍ غير مُتناسِقٍ أو كان صديقُنا اليابانيُّ لا يملك براءةَ اختراعٍ فسوف نُصاب بالصَّدمةِ.
إنَّ كلَّ هذا يكون مبنيَّاً على رأيٍّ مُسبَقٍ، قد يكون هذا الرأيَ صحيحاً وقد يكون خاطئاً، وإن كنَّا في هذه المُقدِّمة تحدَّثنا عن الشعوبِ عموماً، إلَّا أنَّنا نبني آراءً مُسبقةً عن الأشخاص والموضوعات في مُحيطِنا اليوميِّ، فكيف يؤثِّر الرأيُ المُسبقُ في تفاعلاتنا مع الآخرين؟ هذا ما سوف نتعرَّف إليه في هذا المقال.
كيف يؤثِّر الرأي المسبق في تفاعلاتنا مع الآخرين؟
بناءً على تجاربنا السابقة وبناءً على تجارب الآخرين بُنيَ عددٌ من الآراء المُسبَقة، قد تكون هذه الآراءَ صحيحةً وقد تكون خاطئةً، فيما تتولَّى الأيامُ والمواقفُ إثباتَ صحَّتها أو دَحضِها، ولكنَّ هذه الآراءُ المُسبَقةُ تؤثِّر في الطريقة التي نتفاعل بها مع الآخر مباشرةً، ويكون هذا التأثير على الشكل الآتي:
1. إعطاء تقييماتٍ خاطئةٍ:
قد يؤدِّي الرأيُ المُسبقُ إلى تقييمنا للآخرين تقييماً خاطئاً، وعلى سبيل المثال إذا ما كنت مُعلِّماً ودرَّست في العام الماضي طفلاً من عائلةٍ مُعيَّنةٍ، وكان هذا الطفل ذكياً ومبدعاً ومتميِّزاً، وفي العام التالي كان في صفِّك أخٌ لهذا الطفل، فإنَّ رأَيَك المُسبقَ بأنَّه سيكون ذكياً ومتميِّزاً كأخيه، فهما من الوالدين نفسهما ويعيشان في المنزل نفسه، ولكنَّه قد لا يكون كذلك وقد يكون أقلَّ ذكاءً ربَّما؛ لذا فإنَّ تقييمَك سيكون خاطئاً، وربَّما تنجمُ عنه تصرُّفاتٌ خاطئةٌ، كالإجابة عن تساؤلاته إجابةً مُختصَرةً أو بالطريقة التي كان يَستجيب بها أخوه، وفي هذا ظلمٌ كبيرٌ له بسبب الرأي المُسبَق خاصَّتك.
2. التَّحيُّز:
امتلاكُ رأيٍ مُسبقٍ عن شخصٍ ما أو شعبٍ ما يجعلك مُتحيِّزاً وغير مُنصِف، لنفترض أنَّك مديرٌ في شركةٍ دوليَّةٍ للبرمجيَّات، تضم مُهندسِين من جميع الجنسيات، ولكنَّ مهندساً يابانيَّاً مثلاً هو الأكثرُ تميُّزاً في فريق العمل، بينما مهندسٌ من دولةٍ أُخرى هو الأقلُّ مهارةً وبراعةً وأصعب مِراساً في العمل.
إذا ما فَتحت بابَ التوظيفِ في شركتِك وبدأَ المهندسون من مُختلَف الجنسيات بالتَّقدُّم إلى الشواغرِ الوظيفية، ستجد نفسَك مُنحازاً لليابانيِّين بسبب براعةِ المُهندِس اليابانيِّ الذي يعمل في فريقِك، وسوف تجد نفسَك تلقائيَّاً تنفرُ من المُهندسِين القادمِين من البلاد التي قَدِم منها المُهندِس صعبُ المراسِ وقليلُ المهارةِ الذي تعرفه.
3. التَّمييز:
قد يؤدِّي الرأيُ المُسبَقُ إلى تمييزنا في مواجهةِ الآخرين والانحياز من جهة فريقٍ ما، يعني تمييزه عن الآخرين، وما أكثرَ الأمثلة الحياتيَّة عن هذا الأمر، ففي الولايات المتَّحدة الأمريكية على سبيل المثال وبعد أحداث 11 سبتمبر التي شنَّتها جهاتٌ إرهابيَّةٌ تدَّعي الإسلام، نشأت ظاهرةُ الإسلاموفوبيا، وفيها أصبح الأمريكيُّون يضطَّهدون المُسلِمين لأنَّ رأيَهم المُسبَق عنهم هو العنف والإرهاب، وهذا يُترجَم على شكلِ رفضِ طلباتِ القدوم إلى البلاد والتدقيق في طلباتهم تدقيقاً مُبالَغاً به، ورفض اللِّباس الإسلامي في أماكنِ العملِ، ورفض توظيف أشخاص مُسلِمين في مناصبَ هامَّةٍ، بالتأكيد إنَّ هذا الأمر لا يمكن تعميمه، ولكنَّه للأسف موجودٌ وهنالك عددٌ من المؤسسات الَّتي تمارِس هذا النوع من التمييز بناءً على رأيٍ مُسبَقٍ.
4. سوءُ الفهمِ:
قد يؤدِّي الرأيُ المُسبقُ إلى سوء فهمِنا للآخرين، ولقد رأينا في الأفلام مرَّات عِدَّةٍ كيف يعود الشخصُ الشريرُ عن أخطائه ويُحاوِل أن يصيرَ شخصاً جيِّداً لكنَّ صورتَه في أذهان الجميع تبقى على حالها ولا يستطيعون تقبُّل تغييره نحو الأفضل، فيتعاملون معه على أساس رأيٍ مُسبقٍ لشخصه، فيسيؤون فهمَ تصرُّفاتِه.
في مثال آخر إذا ما قام شخصٌ بسرقةِ غرضٍ ما ثمَّ اعترفَ واعتذرَ وعادَ عن خطئه، فإنَّك لن تستطيعَ منعَ نفسِك في المرَّات اللاحقة التي تراه فيها من أن تتفقَّدَ أغراضَك وأشياءَك أو أن تكون حذراً من أن يغافلَك بسبب رأيك المُسبقِ، وهذا لا يعني بالضرورة أنَّ تصرُّفَك خاطئٌ ولكنَّه في بعضِ الحالات يكون ظالماً للشَّخص.
شاهد بالفديو: 8 أشياء لا تحتاج إلى موافقة الآخرين للقيام بها
5. نشوب صراعات:
قد يؤدِّي الرأيُ المُسبقُ إلى نشوبِ صراعٍ بيننا وبين الآخرين، فإذا ما كنَّا قد اختلقنا أو تبنَّينا رأيَ شخصٍ آخر حيالَ أحدٍ ما، فربَّما نتعامل معه بطريقة عدوانيَّةٍ دون أن يصدر منه أيُّ تصرُّفٍ يدفعنا لذلك، وهذا يُسبِّب تصاعداً في الحديث ينتهي بحدوث خلافٍ أو نشوبِ صراعٍ مع هذا الشخص دون أسبابٍ منطقيةٍ، وفقط لأنَّنا بدأنا بالعداء بناءً على رأيٍ مُسبقٍ.
6. الحَذَرُ:
لا يمكن أن ندَّعيَ بأنَّ الأشياءَ السلبيةَ فقط هي النتائجُ الَّتي نحصل عليها عندما نتبنَّى رأياً مسبقاً عن أحدٍ ما، في الحقيقة تكون أحياناً الآراءُ المُسبقةُ والحدس أشياء حقيقيَّةً، فتُحذِّرنا من التعامل مع الشخص تعاملاً عفوياً، ويكون ذلك سبباً في إنقاذنا من الوقوع في عددٍ من المتاعب، ولكنَّنا في الوقت ذاته لا يمكننا أن ننصحَ أحداً بالتَّصرُّف على أساس رأيٍ مُسبقٍ تبنَّاه بعدَ تجربةٍ شخصيَّةٍ أو تجربةِ شخصٍ آخر، كلُّ ما يُمكننا قوله هو وضعُ هذا الرأي في الحسبان والحذر في أثناء التعامل، ولكن التصرُّفَ تصرُّفاً طبيعياً وواعياً، ثمَّ لنترك للمواقف والأيام القرارَ بتأكيد صحَّةِ الرأي المُسبق أو إثبات فشله.
كيف يمكننا تجنُّب تأثير الرأي المسبق في تفاعلاتنا مع الآخرين؟
ليس من اليسير امتلاك رأيٍ مُسبقٍ عن موضوعٍ أو شخصٍ ما والتصرُّف كأنَّنا لا نعرف هذا الرأي أو لم نسمع عنه، ولكن إليك هذه النصائح لنحاولَ قدر الإمكان التخفيف من تأثير الرأي المُسبق على تفاعلاتنا مع الآخرين:
إقرأ أيضاً: لماذا لا تعد آراء الآخرين هامة؟
1. كنْ على درايةٍ بآرائك المُسبقة:
الخطوة الأولى لتجنُّب تأثيرِ الرأي المُسبقِ في تفاعلاتنا مع الآخرين، هي أن نكونَ على درايةٍ بآرائنا المُسبقةِ، فيجب أن نفكِّرَ مليَّاً بيننا وبين أنفسنا ماذا نعتقد عن مجموعاتٍ مُعيَّنةٍ من الناس، وما هي الفِكَر المُسبقة التي لدينا عن الأشخاص الذين يختلفون عنَّا، وبناءً على إجابة أنفسنا إجابةً صادقةً عن هذه التساؤلات نعرف ماهية فِكرنا والرأي المُسبَق الذي نتبنَّاه عن هذا الشخص أو هذا الأمر.
2. تحدَّ آراءك المُسبقة:
بمجرَّد أن تكونَ على درايةٍ بآرائك المُسبقة، يمكنك البدءُ في تحدِّيها، فاسألْ نفسَك عن سببِ اعتقادك بهذه الأشياء، هل لديك دليلٌ يَدعَم هذه الفِكَر؟ فإذا كان الجوابُ نعم، جرِّب بحذرٍ أن تمنحَ الموقفَ فرصةً ثانيةً، مع الأخذ بالحسبان أن يكون رأيُك المسبق صحيحاً، وإن كان الجواب على وجود دليل يدعم فِكَرك المسبقة بالنفي، فالحلُّ أن تنفتحَ على الآخر وتمنحه فرصةً ليثبِت لك خلاف ما يدور في رأسك أو ليؤكِّده لك، ونكرِّر لك مرةً أُخرى أن تتوخَّى الحذر.
3. كُنْ منفتحاً على التعرُّف إلى أشخاص جدد:
من أفضل الطرائق لتجنُّب تأثير الرأي المُسبقِ في تفاعلاتنا مع الآخرين هي أن نكون منفتحين على التعرُّف إلى أشخاصٍ جُددٍ؛ لذا عليك أن تتواصلَ مع أشخاصٍ من خلفيَّاتٍ مُختلِفةٍ، والتعرُّف إلى ثقافاتهم وخبرات حياتهم، وتتعرَّف إلى نماذجَ جديدةٍ من شخصياتٍ تنتمي إلى الشريحةِ التي كوَّنتَ رأياً مسبقاً عنها، فتجاربك الجديدة ستمدُّك بخبراتٍ إضافيةٍ وسوف تُدرِك من خلالها أنَّ التعميمَ خاطئٌ دوماً.
4. استمعْ إلى الآخرين دون أحكامٍ مُسبقة:
عندما تتفاعل مع الآخرين، حاولْ الاستماع إليهم دون أحكامٍ مُسبقةٍ، حاولْ أن تفهمَ وجهةَ نظرهم، ولا تفترض أنَّك تعرف ما يفكِّرون فيه أو يشعرون به، وإنَّ هذا الأمرُ سوف يساعدك على بناءِ علاقاتٍ صحيَّةٍ جديدة، بعيدةٍ عن القوالب الجاهزة في رأسك والتي تكون مُستعدَّاً دائماً لإلباسها للآخرين.
5. كنْ على دراية بتحيُّزاتك:
جميعنا لدينا تحيُّزات، وهي تميل إلى التأثير في طريقة تفاعلنا مع الآخرين، وربَّما لا يوجد ضَيرٌ في ذلك ما دامت هذه التحيُّزات داخلية تسكن الفِكَر فقط، ولم تجد طريقاً نحو الأفعال والتصرُّفات؛ لذا حاولْ أن تكون على درايةٍ بتحيُّزاتك، واتَّخذْ خطوات لتصحيحها والتصرُّف بعدلٍ ومساواةٍ مع الآخرين.
تذكَّر أنَّ الرأيَ المُسبق يمكن أن يكون له تأثيرٌ سلبيٌّ في تفاعلاتنا مع الآخرين، ومن خلال اتِّباع هذه النصائح، فيمكننا تعلُّم تجنُّب تأثير الرأي المسبق في تفاعلاتنا مع الآخرين، وبناء علاقات أقوى وأكثر إيجابية.
في الختام:
إنَّ الرأيَ المسبقَ هو وسيلةٌ دفاعيةٌ يقوم بها العقل ليُشعرنا بالأمان، وأنَّنا على درايةٍ بما نحن قادمون للقيام به أو التعرُّف إليه، ولكنَّه في كثيرٍ من الأحيان لا يكون تبنِّيه فعلاً عاقلاً، وفي الوقتِ ذاته لا يكون إنكارُه تماماً أمراً سديداً؛ لذا فإنَّ أفضلَ حلٍّ للتَّعاملِ مع الرأي المُسبقِ في تفاعلاتنا مع الآخرين، هو الاحتفاظُ بهذا الرأي في فِكَرنا من باب الحذر، والتصرُّف تصرُّفاً طبيعيَّاً وعفويَّاً بمعزلٍ عن تأثيره.
أضف تعليقاً