يؤمن مليارات البشر في العالم بالخرافات، والشباب يؤمنون بها أكثر من المسنين، وتختلف كل خرافة عن غيرها حسب البيئة والمجتمع الذي ظهرت فيه، كما يعرف معظمنا أنَّ هذه المعتقدات غير عقلانية، ولكنَّنا ما زلنا نلتزم بها، فلماذا نفعل ذلك؟ وهل تؤدي الخرافات دوراً نفسياً هاماً؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما هو؟ وما هي بعض الآليات التي تفسر هذه المعتقدات غير العقلانية؟ وكيف تؤثر الخرافات في صحتنا العقلية؟
لماذا نصدق غير المعقول؟
الشيء المذهل في الخرافات هو أنَّنا غالباً ما نؤمن بها على الرغم من معرفتنا على مستوى ما أنَّها لا يمكن أن تكون صحيحة، فلماذا نفعل هذا؟ استخدمت "جين رايزن" أستاذة العلوم السلوكية بجامعة "شيكاغو بوث" في "إلينوي" وعضو الجمعية الأمريكية لعلم النفس ما يسمى بنموذج العملية المزدوجة للإدراك لشرح إيماننا بالخرافات.
وفقاً لـ "رايزن" وغيرها من الباحثين المشهورين مثل "دانيال كانيمان" يمكن للبشر التفكير بسرعة وببطء على حد سواء؛ إذ يُعَدُّ نمط التفكير السابق سريعاً وبديهياً، في حين أنَّ الأخير أكثر عقلانية، وتتمثل مهمته الرئيسة في تجاوز الحكم البديهي عندما يجد أخطاء.
نموذج التفكير المزدوج هو نموذج راسخ، لكن في حالة الخرافات تقترح "رايزن" أنَّ النموذج يجب أن يخضع لعمليات تنقيح؛ إذ يلاحظ الباحث أنَّ اكتشاف الأخطاء لا يتضمن تصحيح الخطأ تلقائياً؛ وبمعنى آخر يمكن للناس أن يدركوا أنَّ معتقدهم خاطئ، ولكنَّهم ما زالوا يتصرفون بناءً عليه.
تقول الباحثة "إنَّ نموذج التفكير السريع والبطيء يجب أن يسمح بإمكانية أن يدرك الناس في الوقت الحالي أنَّ إيمانهم لا معنى له، لكن مع ذلك يتصرفون بناءً عليه"، وتتابع قائلة: "يمكن للناس اكتشاف خطأ ما، ولكنَّهم يختارون عدم تصحيحه، وهي عملية أشير إليها على أنَّها إذعان"، ولكنَّ الخرافات ليست مجرد مظهر من مظاهر إدراكنا الخاطئ؛ إذ تقدم الخرافات أحياناً مجموعة من الفوائد.
كيف يمكن للخرافات أن تخفف من القلق؟
في بعض الأحيان قد يكون للخرافات تأثير مهدئ؛ إذ تخفف من القلق بشأن المجهول وتعطي الناس إحساساً بالسيطرة على حياتهم، وقد يكون هذا أيضاً هو السبب وراء بقاء الخرافات لفترة طويلة، فقد نقلها الناس من جيل إلى جيل، كما ورد في مقال نُشر في المجلة الدولية لعلم النفس والعلوم السلوكية، فإنَّ الخرافات لها جذورها في شباب جنسنا البشري عندما لم يتمكن أسلافنا من فهم قوى وأهواء العالم الطبيعي، وكان بقاء أسلافنا مهدداً بالافتراس أو القوى الطبيعية الأخرى.
نتيجة لذلك تطورت الخرافات لإنتاج شعور زائف بالسيطرة على الظروف الخارجية وتقليل القلق، وهذا أيضاً هو سبب انتشار الخرافات في ظروف انعدام الثقة وانعدام الأمن والخوف والتهديد.
يردد قارئ الأخبار الطبية اليوم الذي يصف الخرافات المختلفة لوالديهم نفس المشاعر، فيقول: "أمي لديها الكثير من الخرافات، فهي لا تستطيع المشي تحت السلم، ولا يمكنها وضع أحذية جديدة على المنضدة (حتى في علبتها)، ولا يمكنها كسر المرآة، ولا يمكنها إعطاء حقيبة دون نقود فيها، ويجب أن ترمي قليلاً من الملح على كتفها الأيسر إذا انسكب بعض منه، وأعتقد أنَّ بعض هذه التعليقات هي مجرد تعليقات منطقية، مثل عدم كسر المرآة لأنَّك قد تجرح نفسك بقطعها الحادة، وقد نمت لتصبح أكثر تأثيراً، ويعيش الناس على تصديقها غالباً دون سبب واضح".
يتابع القارئ: "أعتقد أنَّ الحياة عبارة عن سلسلة من الصدف العشوائية ولا يمكن أن تتشكل من خلال هذه العادات الصغيرة الغريبة، لكن أعتقد أنَّه من المطمئن أن تصدق أنَّ لديك بعض السيطرة عليها وخاصةً عندما يكون لديك الكثير من الأمور المتعلقة بحياتنا ومجتمعنا لا يمكننا تغييرها"، ويضيف: "الحياة مخيفة جداً في بعض الأحيان، لذلك يفعل الناس كل ما في وسعهم لمحاولة تجنب الأخطار الخفية".
شاهد بالفديو: 12 قانون في علم النفس إذا فهمتها ستُغيّر حياتك
الخرافات قد تحسن الأداء:
إضافة إلى ذلك من خلال التخفيف من القلق، قد تؤدي الخرافات إلى تحسين الأداء بشكل موضوعي؛ إذ يشرح "ستيوارت فايس" مؤلف كتاب "الإيمان بالسحر" علم نفس الخرافات وأستاذ علم النفس السابق في كلية "كونيتيكت" في مقابلة مع جمعية علم النفس البريطانية: "يوجد دليل على أنَّ الخرافات الإيجابية المعززة للحظ توفر فائدة نفسية قد تحسن الأداء الماهر، ويوجد قلق مرتبط بأنواع الأحداث التي تولد الخرافات، فغياب السيطرة على نتيجة هامة يخلق القلق، لذلك حتى عندما نعلم على المستوى العقلاني أنَّ لا وجود واقعي للسحر، إلا أنَّه يمكن الحفاظ على وجوده الضمني من خلال فوائده العاطفية".
في الواقع وجدت إحدى الدراسات التي فحصت الأداء في لعبة الجولف والبراعة الحركية والذاكرة وغيرها أنَّ القيام بالإيماءات، مثل إبقاء أصابع المرء متقاطعة أو نطق كلمات مثل "قدم أفضل ما عندك" أو "حظ سعيد" تعزز أداء المشاركين، ويكتب الباحثون أنَّ هذه الآلية تتوسطها زيادة الثقة بالنفس، كما تظهر فوائد الأداء هذه من خلال التغييرات في الكفاءة الذاتية المتصورة؛ إذ يؤدي تنشيط إحدى الخرافات إلى تعزيز ثقة المشاركين في إتقان المهام القادمة، وهذا يؤدي بدوره إلى تحسين الأداء.
الخرافات "الرخيصة" أفضل من الخرافات المكلفة:
يقول "فايس": "عندما تعلم أنَّ الخرافة تنطبق لا يريد الناس المغامرة بعدم توظيفها واستغلالها"، ويمضي في الاستشهاد بمثال لرسالة اشتُهرت بين الصحفيين في الولايات المتحدة، فيقول الباحث: "كان العديد من هؤلاء الصحفيين يعلمون أنَّها خرافة، ولكنَّهم لم يرغبوا في المغامرة بعدم نسخ الرسالة وإرسالها"، ومع ذلك فإنَّ عدم المغامرة هو أيضاً خيار شائع؛ وذلك لأنَّ تكاليف الالتزام بالخرافات منخفضة جداً مقارنة بالنتيجة المحتملة.
في هذه الحالة فإنَّ إرسال الرسالة واستخدام الخرافات لا يكلف الكثير مقارنة بالنتيجة المزعومة، وبالمثل فإنَّ الطرق على سطح خشبي منعاً للحسد عند التعليق على أنَّ شخصاً ما يتمتع بصحة جيدة لسنوات هو ثمن ضئيل يجب دفعه مقارنة بالعواقب المدمرة المحتملة للمرض.
تؤكد إحدى الدراسات هذا وتوضح أنَّ الخرافات تروق للناس؛ وذلك لأنَّ مزايا حمل سحر الحظ على سبيل المثال تفوق عيوب ما يسمى سيناريو الاستكشاف المكلف؛ وهو الموقف الذي يجب على الشخص فيه استكشاف بيئة غير مؤكدة، وبالمثل تجنب الرقم 13 قد يفرض تكلفة صغيرة نسبياً مع فائدة كبيرة محتملة، وهو ما قد يفسر سبب استمرار هذه الخرافة.
الخرافات والوسواس القهري رابط معقد:
كشف الشخص الذي تحدثت إليه والذي يفضل عدم الكشف عن هويته أنَّه يتعين عليه ضبط المنبه 10 مرات على الأقل كل ليلة، إلى جانب بعض الكلمات المطمئنة، وبخلاف ذلك تابع "أشعر أنَّ شيئاً سلبياً سيحدث في حياتي، ولا يمكنني التوقف عن ضبط المنبه حتى أشعر بالراحة، وكنت قد وصلت إلى ضبطه لنحو 50 مرة من قبل".
على الرغم من أنَّ مثل هذه العادة قد تبدو غير عادية بالنسبة إلى بعض الناس، إلا أنَّ أولئك الذين يؤدون هذه السلوكات الطقسية غالباً ما تريحهم، وقد واصل القول: "أعتقد أنَّه أمر جيد في بعض الأحيان، فهي طريقة للحفاظ على عقلك على المسار الصحيح"، ومع ذلك في بعض الأحيان قد تشير هذه السلوكات المتكررة إلى حالة أكثر خطورة، مثل اضطراب الوسواس القهري (OCD).
قال شخص آخر أجرى موقع (MNT) مقابلة معه: "بالنسبة إليَّ، تنتقل الخرافات إلى الوسواس القهري، وأقوم بالتفكير الخرافي عندما أعاني من الوسواس القهري، وأعتقد أنَّ القيام بشيء ما أو التفكير فيه سيجعل شيئاً ما يحدث أو لا يحدث، ومثال عن ذلك هو أنَّني بحاجة إلى اختيار زوج الجوارب المناسب لارتدائه وإلا ستموت أمي، لذلك بالنسبة إليَّ، من المحتمل أن تكون الخرافات ضارة وعلامة على أنَّني لا أفعل ذلك جيداً".
تَعُدُّ الأبحاث الخرافات مثالاً عن الإكراهات التي تتم استجابة للوساوس جنباً إلى جنب مع غسل اليدين المفرط، والاستحمام المتكرر والنظافة المفرطة، والتحقق من السلوكات، والطقوس العقلية، والحاجة إلى تكرار النشاطات، وإعادة قراءة النص، وسلوكات الاكتناز، ومع ذلك كان هناك الكثير من الجدل حول مسألة ما إذا كان الوسواس القهري والخرافات يشتركان في سلسلة متصلة؛ إذ يقترح العديد من الباحثين أنَّهما ليسا كذلك، مشيرين إلى أنَّ الخرافات والوسواس القهري يستخدمان مناطق مختلفة من الدماغ.
ما يزال الوسواس القهري والخرافات يشتركان في العديد من السمات المتداخلة، مثل أداء الطقوس لدرء الأذى، إضافة إلى ذلك عرَّف بعض الباحثين الطقوس الخرافية على أنَّها طرائق غير قادرة على التكيف لمحاولة كسب السيطرة في المواقف غير المؤكدة، وبالمثل يتابعون أنَّ السلوكات القهرية غير قادرة على التكيف ويتم إجراؤها بقصد منع أو تقليل القلق المرتبط بالفكر الوسواسي، ومع ذلك من الهام أن نتذكر أنَّه على الرغم من وجود علاقة ثابتة بين الخرافة والوسواس القهري، إلا أنَّ هناك تناقضات في نتائج الدراسات المختلفة التي تناولت هذا الارتباط.
شاهد بالفيديو: كيف تؤثر الخرافات على أنفسنا؟
في الختام:
يُعَدُّ رسم الخط الفاصل بين الخرافات والوسواس القهري مسألة دقيقة يجب على المتخصصين في الرعاية الصحية التعامل معها بكفاءة وحساسية.
أضف تعليقاً