علوم الطبيعة:
هي العلوم التي تتناول العالم المادي في مظاهره غير الإنسانية، فتضم علوم النبات والبيولوجيا والفيزيولوجيا لدى الإنسان والحيوان، والفيزياء والكيمياء والجيولوجيا والفلك وسواها، ويتفرع من هذه العلوم الواسعة علومٌ تنحصر بمجالٍ ضيقٍ؛ وهذا يساعد على تخصيص البحث وتعميقه، ومن أمثلة ذلك علم الذرة، والكيمياء العضوية.
المفاهيم الحديثة لعلوم الطبيعة:
إنَّ استعراض المفاهيم الحديثة في علوم الطبيعة، وكذلك قوانينها ونظرياتها الكبرى يبين بوضوحٍ قيمها التربوية، وإرفاقها وإغناؤها ضمن مناهج التعليم يدل على اتجاه هذه الأنظمة نحو وضع الطالب ضمن معطيات المعرفة الحديثة، وتشريبه أفكارها واتجاهاتها، وهذا من شأنه أن ينمي في المتعلم فكراً حديثاً بمحتواه واتجاهاته وأساليبه في التفكير والعمل، وفيما يأتي نستعرض المفاهيم الحديثة الخاصة بعلوم الطبيعة.
القياس في علوم الطبيعة:
القياس هو التحديد الكمي لصفةٍ ما بواسطة أداةٍ صادقةٍ ودقيقةٍ، وتستند جميع أبحاث علوم الطبيعة إلى مفهوم القياس وإجراءاته، وللقياس مكونان أساسيان هما:
- المعيار: هو المكون الأساسي الأول للقياس، فالطول يمكن قياسه بالمسطرة أو المتر أو الياردة، وهذه نماذجٌ دقيقةٌ إلى حدٍّ ما للعصا التي تتخذ معيار الطول، كالعمود المتري المشهور بباريس والمصنوع من البلاتين، وكذلك يمكن قياس الوقت بالرجوع إلى ساعةٍ معياريةٍ كالساعة التي توجد في غرينيتش، والتي تنظمها الملاحظات الفلكية؛ إذ يكون المعيار النهائي للوقت هو دوران الأرض حول محورها، وأهم مقوّمٍ للمعيار هو أنَّه يبقى ثابتاً مع مرور الزمن.
- التوافق الزمني: المكون الأساسي الثاني للقياس، فالقياس عرضٌ للتوافق الزمني بين ما يقاس وبين معيار القياس، فالشيء يكون طوله متراً واحداً إذا كانت نهايتاه تتطابقان مع نهايتي مقياس المتر، ويقع الحادث في وقتٍ معينٍ إذا كان الحادث ووصول الساعة إلى نقطةٍ معينةٍ على ترقيمها يحدثان في وقتٍ واحدٍ أو يتطابقان.
نتائج مكونا القياس في علوم الطبيعة:
للقياس كما قلنا مكونان أساسيان وهما المعيار والتوافق الزمني، ومن هذين المكونين نصل إلى نتيجتين أساسيتين عن وظيفة القياس:
- الاتساق والانتظام: أولى هاتين النتيجتين أنَّ أحد أهداف القياس اكتشاف الاتساق أو الانتظام في العملية الطبيعية؛ إذ إنَّ المعايير تختار لاتساقها، والقياس يوضح التطابق بين الأشياء والمعايير، فإنَّ القياس يجب أن يكشف عن الاتساق في طبيعة الأشياء، فالقوانين الطبيعية هي عباراتٌ عن الاتساق داخل موجات الأحداث، وتتوقف إمكانية مثل هذه القوانين على الطبيعة الأساسية لعملية القياس.
- العلاقات: النتيجة الثانية هي أنَّ القياس يسمح باكتشاف العلاقات، فإذا كان كلٌّ من شيئين ينطبق قياساً على نفس المعيار، فيفترض أنَّ هذين الشيئين يتطابق كلٌّ منهما مع الآخر قياساً، وبهذا يكون معيار القياس حلقة الربط بين أشياء مختلفة، فالأشياء المتطابقة في أي مظهر قياسٍ يمكن عدُّها صنفاً، والتصنيف مبدأٌ أساسيٌ في العلم، وهو الذي يجعل التعميم ممكناً.
الحياة في علوم الطبيعة:
من النظريات والمفاهيم الجديدة ما توصل إليه العلماء عن طبيعة الحياة وقوانينها، وقد كانت هذه المكتشفات هامة التأثير في تفكير الإنسان المعاصر، وفي اكتساب المتعلم مفاهيم جديدة عن عالم الحياة غالباً ما تصل به إلى نظرةٍ جديدةٍ عن ذاته ومجتمعه وعن العالم الذي يعيش فيه، وقد تجعله يعتنق معتقداتٍ تختلف عما يسود في المجتمع التقليدي من تقاليد متوارثةٍ.
من أدوات دراسة الحياة ما يأتي:
- تحليل الأشياء الحية: من أقوى أدوات العلم هو التحليل؛ أي تقييم المشكلة وتجزئتها إلى أجزاء صغيرةٍ، وتحليل المادة والطاقة في علوم الطبيعة حقَّق نجاحاً هائلاً، فقد توصل العلماء عن طريق هذا التحليل إلى مفتاح طبيعة الأشياء المادية عندما اكتشفوا تطابق الجزيئات الأولية ووحدات الطاقة التي تنظمها مجموعةٌ متنوعةٌ من الطرائق الممكنة، وأنَّ هذا الاتجاه نحو التحليل واستخدامه في دراسة الأشياء الحية قد أوصل إلى اكتشاف حقائق كثيرةٍ، فالأجزاء التي تسمى خلايا والتي تشبه إلى حدٍّ ما ذرات المادة قد عُرفت، ثم تُوبع تحليلها إلى مكوناتٍ أصغر، وتبينت أهمية الكروموسومات والجينات في تحديد صفات كل كائنٍ حيٍّ.
- التركيب: يضاف التركيب إلى التحليل، فليس بكافٍ أن نكتشف المكونات الأولية سواء أكانت إلكتروناتٍ أم جيناتٍ مثلاً، فالفهم الكامل يتضمن أيضاً مبادئ تتحد على أساسها الأجزاء لتكون الكل، ولهذا أهميةٌ خاصةٌ في دراسة الحياة، فالخاصية الأساسية للكائنات الحية هي أنَّها منظمةٌ وتعمل ككلٍّ، والكائن الحي أكبر من مجموع أجزائه، وينطبق هذا أيضاً على الأشياء غير الحية.
- التطور: إنَّ مفهوم الكائن العضوي والنظم الحيوية السائدة إسهامٌ خاصٌ تقدمه علوم الحياة للنظرة العلمية للمتعلم المعاصر، وفكرة التطور هي إحدى هذه الإسهامات، وهذه الفكرة لها تطبيقٌ عامٌ وهي لا تتصل بالكائنات العضوية فحسب، لكن أيضاً بعمليات النمو غير العضوي وبنمو الثقافات، ففي علوم البيولوجيا قد عُبِّر عن هذا المفهوم بوضوحٍ وفاعليةٍ، فجوهر التطور هو أنَّ مجموعاتٍ متنوعةً من الأشياء هي ما عليه نتيجة الأحداث السابقة التي أسهمت فيها الأجيال السابقة، وهذا يتضمن أربعة اتجاهاتٍ أساسيةً للعقل الحديث.
توجهات العقل الحديث:
توجد أربعة توجهات أساسية للعقل الحديث، وهي:
- التأكيد على التغيير: أي التأكيد على أنَّ كل شيءٍ يتغير، كما أنَّ أنواع الأشياء التي اعتدناها لم تكن دائماً موجودةً، وأنَّ الأشياء في المستقبل ستكون مختلفةً عما هي الآن، فالعالم ديناميكيٌّ، والوجود ليس استاتيكيَّاً ولكنَّه عمليةٌ حيويةٌ، وبذلك لا تبقى الطبيعة على حالتها الراهنة؛ بل هي دائمة التغيير.
- المسؤولية نحو المستقبل: الاتجاه الثاني، وهو أنَّ ما يحدث الآن سيحدث في المستقبل بشكلٍ مختلفٍ؛ إذ إنَّ كل جيلٍ هو حلقةٌ ضروريةٌ في سلسلة التطور، ومع ذلك، فالتغيرات في الجيل الحاضر لا نمر عليها بالضرورة مروراً مباشراً، فما ننقله يتوقف على ما بين الأجيال من اتصالٍ وتواصلٍ.
- الإيمان بالتقدم: الاتجاه الثالث؛ ويعني أنَّ التطور يحبذ فكرة التقدم، فالحاضر أفضل من الماضي، والمستقبل سيكون أفضل من ذلك، فعملية الحياة لا تتحرك فقط إلى الأمام، لكن إلى الأعلى أيضاً ودائماً، والطريق الطويل الذي قطعته الطبيعة من الأشكال البدائية الأولى إلى الأشكال الحاضرة عالية التنظيم، تضمن التوقع والإيمان بمستقبلٍ أفضلٍ.
- التفسير التطوري: الاتجاه الرابع، وهو أنَّ مبدأ التطور يشجع تفسير الحاضر على أساس الرجوع إلى الماضي، وعلى أساس هذا المبدأ يمكننا أن نفهم ماهية الأشياء بأن نسأل مم جاءت، وهذا هو أساس مفهوم التفسير التطوري العلمي للتاريخ الطبيعي.
مفاهيم أخرى عن علوم الطبيعة:
توصل علماء الطبيعة من استخدام القياس والتجريب في دراسة الظواهر الطبيعية إلى مفاهيم جديدةٍ عن الظواهر والحوادث الطبيعية كالزمان والمكان والحركة وغيرها، ففكرة الزمان المستقل المطلق والمكان المستقل المطلق أصبحت مرفوضةً، وحلَّ مكانها مفهوم الزمان والمكان المرتبطين ببعضهما، فعندما يتحرك شيءٌ تتحد سرعته ببعدي الزمان والمكان معاً، فيقال سرعته كذا كيلومترٍ في الساعة.
يتجه البحث نحو اكتشاف الوحدة والارتباط بين عناصر الطبيعة، فالزمان والمكان والموجات الكهربائية المغناطيسية، مثل إشارات الراديو والضوء، والمادة والجاذبية تؤلف كلها معاً منظومةً مستقلةً، ومن المنتظر اكتشاف عناصر أخرى لهذه المنظومة مثل الظواهر الكهربائية وغيرها، وهذا الاتجاه نحو اكتشاف وحدة الطبيعة يُعَدُّ إنجازاً هاماً، ويترك طابعه في تفكير المتعلم عندما يدرس هذه الأفكار والمكتشفات.
القيم التربوية لعلوم الطبيعة:
فيما يأتي القيم التربوية الخاصة بعلوم الطبيعة:
- التجريد: تتميز علوم الطبيعة بأنَّها مجردةٌ؛ بمعنى أنَّها تهتم بالمظاهر القياسية للأشياء، فدقة هذه العلوم وقوَّتها ترجع إلى حقيقة أنَّ مظاهر محددةً معينةً قد اختيرت للدراسة، وأنَّ مظاهر أخرى قد وجدت علاقةً لها بأهدافٍ معينةٍ.
- الدقة: تعتمد دقة علوم الطبيعة والثقة بها على العناية بتحديد طرائق القياس التي يمكن استخدامها، فالمعيار يجب أن يُختار بدقةٍ، والطريقة الدقيقة لتحديد التطابق يجب أن تُوضح.
- تعميم الأدوات: اعتمد تقدم العلم الحديث إلى درجةٍ كبيرةٍ على تطور أدوات القياس، فعن طريق أنواع القياس ذات الدقة العالية تمَّ اكتشاف الكثير من أسرار الطبيعة.
- الرياضيات والقياس: توجد نقطةٌ أخيرةٌ عن القياس، وهي أنَّه في هذه الصفة المحددة للعلم الطبيعي يوجد مفتاح أهمية الرياضيات بالنسبة إلى العلم، فالقياس يُعبَّر عنه بالأشكال الرقمية، وتطابق الأشياء التي نقيِّمها مع المعيار تُترجَم إلى أرقامٍ باستخدام مقاييس مدرجةٍ أو تقسيماتٍ للمعيار منظمةً على أساسٍ عدديٍ، وهنا تبرز قيمة الرياضيات في علاقتها بكافة القوانين العامة التي تهدف دائماً لخدمة العلم.
- تقديمٌ جديدٌ لطرائق البحث ونتائج استخدامها: يدعو الاتجاه الحديث في دراسة الطبيعة إلى استخدام التجريب والقياس في دراسة ظواهرها وحوادثها؛ فالمعرفة لا تنمو بالتفسير النظري لهذه الحوادث والظواهر؛ بل تنمو بالدراسة العملية القياسية لها؛ إذ إنَّ خصائص المادة والطاقة والزمان والمكان والجاذبية وغيرها لا تكتشف بالتأويل النظري لها؛ بل تُعرَف عن طريق البحث التجريبي وقياس ما يحدث للأجسام في حركتها عبر الزمان والمكان، ومن خلال هذه الأبحاث الجزئية تتوصل إلى تكوين المفاهيم الصادقة عن هذه الظواهر.
في الختام:
لقد تحدثنا في هذا المقال عن علوم الطبيعة ومفاهيمها الحديثة من القياس، ونتائج مكوناتها على علوم الطبيعة إلى الحياة واتجاهات العقل الحديث، وذكرنا بعضاً من المفاهيم الأخرى، بالإضافة إلى القيم التربوية لعلوم الطبيعة، على أمل تحقيقه للفائدة المرجوة منه.
المصدر: كتاب التربية العامة 2 – الدكتور أنطون حبيب رحمة 1982.
أضف تعليقاً