ما هو التنافر المعرفي؟
التنافر المعرفي هو حالة من التوتر أو عدم الراحة النفسية التي يشعر بها الفرد عندما يحمل أفكاراً أو معتقدات متناقضة أو يقوم بسلوكات تتعارض مع قِيَمه أو معتقداته، فطُوِّرَ هذا المفهوم من قِبل عالم النفس "ليون فيستنغر" في عام 1957، ويحدث التنافر المعرفي في عددٍ من السياقات، مثل اتِّخاذ قرارات تتعارض مع القيم الشخصية، أو تبنِّي معتقدات جديدة تتناقض مع الأفكار القديمة.
مثلاً إذا كان الشخص يؤمن بأهمية الصحة الجيِّدة ولكنَّه يدخِّن، فقد يشعر بالتنافر المعرفي بسبب التناقض بين سلوكه ومعتقداته، ويسعى الأفراد عادةً إلى تقليل هذا التنافر بطرائق مختلفة، مثل تغيير السلوك، أو تعديل المعتقدات، أو تقليل أهمية التناقضات، فالتنافر المعرفي يكون دافعاً قوياً للتغيير الشخصي، فيسعى الأفراد إلى تحقيق التوافق الداخلي والراحة النفسية من خلال تقليل هذا التوتر.
أمثلة عن التنافر المعرفي بين شخصين في علاقة:
يَظهر التنافر المعرفي بين شخصين في علاقة في عدد من السياقات، إليك بعض الأمثلة:
أولاً: القِيَم والمعتقدات
1. الاختلاف الديني:
شريك في علاقة يؤمن بشدة بأهمية الممارسات الدينية، بينما الشريك الآخر غير متديِّن أو لديه معتقدات مختلفة، وهذا يؤدي إلى توتر وصراع إذا كان كلُّ شريك يحاول التمسُّك بقِيَمه ومعتقداته الخاصة.
2. الأدوار التقليدية مقابل الحديثة:
أحد الشريكين يؤمن بأهمية الأدوار التقليدية للجنسين في الأسرة، بينما الآخر يؤمن بالمساواة في توزيع المهام المنزلية والعمل، ويؤدي هذا التناقض إلى مشاعر التنافر وسوء الفهم.
ثانياً: السلوكات والعادات
1. الإنفاق المالي:
شريك يحبُّ الادِّخار والتخطيط المالي الدقيق، بينما الآخر يميل إلى الإنفاق بلا حدود والشراء العفوي، وهذا التناقض في السلوكات المالية يؤدي إلى نزاعات متكررة وشعور بالتنافر.
2. نمط الحياة الصحي:
شريك يتَّبع نظاماً غذائياً صحياً ويمارس الرياضة بانتظام، بينما الآخر يتَّبع عادات غذائية غير صحية ولا يمارس الرياضة، وهذا يسبِّب توتراً وشعوراً بالتنافر عند محاولتهم التوفيق بين أسلوب حياتهم المختلف.
ثالثاً: الأهداف والطموحات
1. التوازن بين العمل والحياة الشخصية:
شريك يركِّز بشدة على تحقيق النجاح المهني وقضاء وقت طويل في العمل، بينما الآخر يقدِّر الوقت الشخصي والعائلي أكثر، وهذا التناقض في الأهداف يؤدي إلى التوتر والتنافر بين الشريكين.
2. رغبة في الإنجاب:
أحد الشريكين يرغب بشدة في إنجاب الأطفال، بينما الآخر غير متأكد أو لا يرغب في الإنجاب، وهذا الاختلاف الجوهري في الطموحات يسبِّب توتراً وتنافراً كبيرين في العلاقة.
رابعاً: التواصل وحل النزاعات
1. أساليب التواصل:
شريك يفضِّل الحوار المباشر والمفتوح لحلِّ النزاعات، بينما الآخر يُفضِّل تجنُّب المواجهة والصمت، وهذا الاختلاف في أساليب التواصل يؤدي إلى سوء الفهم وزيادة التوتر والتنافر.
2. العتاب والانتقاد:
شريك يميل إلى النقد المستمر والعتاب، بينما الآخر حسَّاس جداً تجاه النقد ويشعر بالضيق بسببه، وهذا التناقض يؤدي إلى شعور عميق بالتنافر ويزيد من الصراعات في العلاقة.
شاهد بالفيديو: 8 طرق لبناء الثقة في العلاقات
تأثير التنافر المعرفي في العلاقات:
قال "دانيال كانيمان": "يمكننا أن نكون عمياناً عما هو واضح، كما أنَّنا عميان أيضاً عن عمانا"، فالتنافر المعرفي هو ظاهرة نفسية حدَّدها "ليون فيستنجر" لأول مرة في عام 1957، وتشير إلى الانزعاج الذي نشعر به عندما نحمل معتقدات أو قيماً أو مواقف متناقضة أو أكثر في وقت واحد، وغالباً ما يؤدي هذا الانزعاج إلى مجموعة من المبررات، فيسعى الأفراد إلى مواءمة حالتهم الداخلية مع أفعالهم، وفي عالم العلاقات الرومانسية، يؤدي التنافر المعرفي دوراً خبيثاً، وهذا يؤثر في التواصل والثقة وحل النزاعات والرضى العام عن العلاقة.
1. تبرير السلوكات الضارة:
أحد أهمِّ الآثار السلبية للتنافر المعرفي في العلاقات الرومانسية، هو تبرير السلوكات الضارة، فعندما ينخرط أحد الشركاء في أفعال تؤذي الآخر، فإنَّه قد يبرِّر سلوكه لتقليل التنافر بين أفعاله وصورته الذاتية بوصفه شريكاً مهتماً، وتمنع عملية التبرير هذه الاعتراف بالضرر والتغيير الضروري في السلوك، فالشريك الذي ينتقد الآخر في كثير من الأحيان قد يقنع نفسه بأنَّ انتقاداته بنَّاءة وتهدف إلى مصلحة شريكه، ومن ثم تجنُّب الشعور بالذنب والمسؤولية عن التسبُّب في الأذى العاطفي، وتقترح نظرية "فستنجر" (1957) أنَّ الأفراد يغيِّرون مواقفهم أو معتقداتهم لتقليل التنافر بين أفعالهم ومفهومهم الذاتي.
2. تجنُّب حلِّ النزاعات:
يؤدي التنافر المعرفي أيضاً إلى تجنُّب حل النزاع للهروب من الانزعاج الناتج عن الاعتراف بمشكلات العلاقات، وقد يُقلِّل الأفراد من أهمية المشكلات أو يقنعون أنفسهم بأنَّ المشكلات ليست هامة، ويؤدي هذا التجنُّب إلى توترات لم تُحل، وهذا يؤدي إلى زيادة الاستياء بمرور الوقت، فإذا شعر الشريك بالإهمال وأقنع نفسه بأنَّ شريكه مشغول فقط، فإنَّه يتجنَّب معالجة المشكلة مباشرةً، وهذا يؤدي إلى تزايد عدم الرضى والمسافة العاطفية، وهذا الميل لتجنُّب الصراعات وترشيدها، يمنع الحل الفعَّال ويؤدي إلى تآكل الثقة والحميمية في العلاقة.
3. تعزيز الأنماط السلبية:
إنَّ الحاجة إلى تقليل التنافر المعرفي تعزِّز الأنماط السلبية داخل العلاقة، فعندما يعاني الأفراد من التنافر، فقد يضاعفون من سلوكاتهم السلبية للحفاظ على الاتِّساق مع معتقداتهم، فالشريك الذي يعتقد أنَّه دائماً على حقٍّ، قد يتجاهل باستمرار المخاوف المشروعة لشريكه، وهذا يؤدي إلى إدامة دورات الصراع وسوء الفهم، فقد يتجاهل الشخص الذي يرى نفسه شريكاً داعماً شكاوى شريكه بشأن الشعور بعدم الدعم، وهذا يُعزِّز نمطاً من الإبطال والإحباط لأنَّ التنافر المعرفي يؤدي إلى إدامة أنماط التفاعل السلبية.
4. التأثير في الثقة والحميمية:
يؤدي التنافر المعرفي إلى تآكل الثقة والحميمية في العلاقة، فعندما يُبرِّر الشركاء تصرفاتهم أو مواقفهم المشكوك فيها، فإنَّ ذلك يؤدي إلى عدم القدرة على التنبؤ وانعدام الأمن، فقد يشعر الشريك المصاب بالخيانة أو سوء الفهم، وهذا يؤدي إلى تراجع التقارب العاطفي، وإذا كذب أحد الشركاء ثم برَّرَ كذبه، فإنَّ تآكل الثقة يضر بالعلاقة الحميمية بين الشركاء، وتعدُّ الثقة أمراً أساسياً في العلاقات الحميمية، ويمكن للتنافر المعرفي أن يُقوِّضها من خلال تعزيز الخداع والتبرير.
5. تشويه الإدراك الذاتي
يؤدي التنافر المعرفي إلى تشويه التصور الذاتي وتصورات الشريك، ولتقليل التنافر، قد يبالغ الأفراد في التأكيد على أخطاء شريكهم مع التقليل من عيوبهم، وهذا يؤدي إلى رؤية غير متوازنة وغير واقعية في كثير من الأحيان للعلاقة، فالشريك الذي يشعر بالذنب تجاه عيوبه، قد يركز تركيزاً مفرطاً على عيوب شريكه، وينقل اللوم ويقلِّل من انزعاجه، وتشير نظرية التنافر المعرفي إلى أنَّ الأفراد يشوِّهون المعلومات لتتماشى مع معتقداتهم الحالية، وهذا يؤثر في الإدراك الذاتي وإدراك الآخرين.
طرائق لتخفيف التنافر المعرفي في العلاقات:
1. التواصل المفتوح:
تشجيع التواصل الصادق والمفتوح لمعالجة المشكلات التي تسبِّب التنافر المعرفي، وإنَّ مناقشة المشاعر والمخاوف مناقشةً علنيةً، تقلِّل من الحاجة إلى التبرير وتُعزِّز التفاهم المتبادل.
2. التأمل الذاتي:
يمكن للتأمل الذاتي المنتظم أن يساعد الأفراد على التعرف إلى التنافر المعرفي وفهم مصادره، ويؤدي الاعتراف بهذه المشاعر ومعالجتها إلى ديناميكيات علاقة أكثر صحة.
3. البحث عن التسوية:
يساعد العثور على حلول وسط على حل النزاعات التي تنشأ عن معتقدات أو سلوكات متناقضة، ومن خلال البحث عن حلول مقبولة للطرفين، يمكن للشركاء تقليل الانزعاج الناتج عن التنافر المعرفي.
4. الدعم العلاجي:
يوفِّر العلاج المهني أدوات وتقنيات لإدارة التنافر المعرفي، ويمكن للمعالجين مساعدة الأزواج على تحديد ومعالجة المشكلات الأساسية التي تساهم في انزعاجهم.
5. التركيز على النمو:
إنَّ التأكيد على النمو الشخصي والعلاقاتي، يساعد الشركاء على رؤية التحديات بوصفها فرصاً للتحسين بدلاً من التهديدات، ويمكن لعقلية النمو هذه أن تقلِّل من تأثير التنافر المعرفي من خلال تعزيز المرونة والقدرة على التكيف.
6. ممارسة التعاطف:
إنَّ فهم وجهة نظر شريكك، يقلِّل من الصراعات والحاجة إلى التبرير، ويسمح التعاطف برؤية أكثر دقة للمواقف، وهذا يُقلِّل من الميل إلى تبرير السلوكات الضارة.
7. الاعتراف بالأخطاء:
الاعتراف بالأخطاء يقلِّل من التنافر المعرفي، ومن خلال الاعتراف بالأخطاء والعمل على التحسين، يمكن للشركاء بناء علاقة أكثر صدقاً وثقةً.
8. تشجيع ردود الفعل:
تساعد التعليقات البنَّاءة الشركاء على ضبط سلوكاتهم وتقليل التنافر، وإنَّه يعزِّز بيئة من التحسين المستمر والدعم المتبادل.
9. ممارسات اليقظة الذهنية:
يمكن لليقظة الذهنية أن تساعد الشركاء على البقاء حاضرين ومدركين لأفكارهم ومشاعرهم، وهذا يُقلِّل من الاستجابات الدفاعية التلقائية الناجمة عن التنافر المعرفي.
10. وضع توقعات واقعية:
إنَّ وضع توقعات واقعية وإيصالها، يمنع التنافر المعرفي الذي ينشأ من الافتراضات والمثل العليا التي لم تُلبَّ.
11. جعل اللاوعي واعٍ:
إنَّ فهم ومعالجة التنافر المعرفي في العلاقات الرومانسية، يؤدي إلى ديناميكيات أكثر توازناً وفاعلية، فعندما ندرك تحيُّزاتنا ونسعى بنشاط لمواجهتها، يمكننا دعم نمو شريكنا وتطوره تطوُّراً أكثر شمولية، وهذا يعزز بيئة إيجابية تزدهر فيها العلاقة.
كما قال "كارل يونج" بحكمة: "عندما تجعل اللاوعي واعياً، فإنَّه سيوجِّه حياتك، وسوف تسمِّي ذلك قدراً"، وإنَّ احتضان هذه الرحلة من الوعي الذاتي والتعلُّم المستمر يثري علاقاتنا، ويمكِّننا أيضاً من أن نصبح أفراداً أكثر انفتاحاً ومرونة وثقة بالنفس، وعلى استعداد لمواجهة تعقيدات الحياة بثقة ونعمة.
في الختام:
يُظهر التنافر المعرفي تأثيراً عميقاً على العلاقات، سواء كانت شخصية أم مهنية، ويؤدي التنافر إلى زيادة التوتر والنزاعات إذا لم يُتعامَل معه بوعي وفاعلية، ومن خلال فهم أسبابه وآلياته، يمكن للأفراد تعلُّم كيفية التخفيف من تأثيراته السلبية من خلال تبنِّي استراتيجيات مثل التواصل المفتوح، والاعتراف بالاختلافات، والبحث عن حلول وسطى، وإنَّ معالجة التنافر المعرفي بنجاح، تعزِّز من قوة العلاقات ويزيد من الترابط والانسجام بين الأفراد، وهذا يساهم في بناء علاقات أكثر صحة واستدامة.
أضف تعليقاً