يمرُّ الأطفال بهذه التجربة أيضاً، والمعروفة باسم "انهيار ما بعد المدرسة" (after school restraint collapse)، وهو مصطلح صاغته الاستشارية والعاملة في مجال تثقيف الوالدين "أندريا لوين ناير" (Andrea Loewen Nair)؛ فيضطر الأطفال طوال اليوم للتعامل مع أطفال لئيمين، والتزام القواعد السلوكية والتركيز والتفكير؛ لذا من الطبيعي أن يبكوا فجأة دون سبب أو يبدوا متوترين بعد العودة إلى المنزل.
لكن، لا يعاني الأطفال فقط من هذه الحالة؛ بل يمرُّ بها البالغون أيضاً، وتسمى بـ ""انهيار ما بعد العمل"" (post-work restraint collapse)؛ لذا سنتحدث فيما يأتي عن هذه الحالة وكيفية التعامُل معها.
علم النفس وراء "انهيار ما بعد العمل":
في عالمنا المعاصر، كل شيء مطلوب منا، فعلينا العمل بمهارة في وظيفة بدوام كامل، يتجاوز غالباً 40 ساعة في الأسبوع، وعيش حياة شخصية مُرضية، وتخصيص الوقت لممارسة الرياضة، وطهي وجبات صحية، والسفر، والسعي إلى تحقيق التوازن بين الحياة المهنية والشخصية.
يأخذ العمل كثيراً من طاقتنا عند محاولة ترتيب الأولويات وإدارة العواطف وتحقيق نتائج ممتازة، فنصل إلى مرحلة لا نقوى فيها على الحفاظ على سلامنا الداخلي وضبط النفس.
يبلغ تأثير هذا الصراع أوجَه في نهاية اليوم؛ نظراً لأنَّنا نعبِّر عن عواطفنا الحقيقية بأريحية عند العودة إلى المنزل، وعلى الرغم من أنَّ الجميع قد يعانون من ذلك؛ إلا أنَّ خطره على بعض الأشخاص قد يكون أكبر، مثل: المديرين وأولئك الذين يعملون في وظائف الضغط فيها كبير أو لا وجود فيها لاحترام الوقت أو بيئة عملها سامة وفوضوية.
تؤثر هذه الحالة في الأشخاص الذين ينتمون إلى فئات مهمَّشة، والذين يضطرون إلى تغيير لهجاتهم وطريقة كلامهم في العمل للحفاظ على وظائفهم أو حتى سلامتهم، كما يؤثر الأمر أيضاً في الأشخاص المتنوعين عصبياً وذوي الاحتياجات الخاصة وأولئك الذين يعانون من أمراض نفسية، لا سيما إذا كانوا مجبَرين على إخفاء جوانب من شخصيتهم للحفاظ على وظائفهم، أو بذل مجهود كبير في العمل يفوق قدرات أجسامهم.
شاهد بالفديو: 7 استراتيجيات للتعافي من إرهاق العمل
العلامات التي قد تشير إلى الإصابة ب"انهيار ما بعد العمل":
""انهيار ما بعد العمل"" مفهوم جديد نسبياً، لذا لا توجد قائمة محددة من العلامات التي قد تشير إلى حدوثه، ولكن يمكن تلخيص هذه الحالة في جملة واحدة: "الشعور بالإرهاق"؛ فيشعر المرء بأنَّ طاقته نفدت، ولا يقوى على ممارسة نشاطات أخرى، حتى تلك التي يستمتع بها، مثل ممارسة الرياضة أو قضاء الوقت مع العائلة أو النشاطات الاجتماعية أو أي هوايات أخرى.
أما على الصعيد العاطفي، فقد يشعر المرء بالإنهاك أو الضعف، إلى جانب الشعور بالحساسية أو العصبية أو قلة الصبر وصعوبة التحكم في الانفعالات مثل التعامل بقسوة دون قصد مع الشريك، أو تناول وجبة سريعة بدلاً من تحضير العشاء.
يؤثر "انهيار ما بعد العمل" في الصحة النفسية، وقد يؤدِّي أيضاً إلى أعراض جسدية، مثل الصداع وآلام في المعدة والظهر، وقد تظهر هذه العلامات خلال الفترة الممتدة بين العمل والعودة إلى المنزل، وقد تكون الأعراض هذه في حدّ ذاتها علامات على القلق أو الاكتئاب أو أي اضطراب مزاجي آخر، ولكن إذا استمرت في الحدوث خلال تلك المدة، فيمكن أن تكون علامة على أنَّ السبب مرتبط بالعمل وبنهاية يوم العمل.
الوقاية من "انهيار ما بعد العمل":
الخطوة الأولى هي وضع توقعات معقولة؛ فالاستعداد نفسياً ليوم العمل يؤثر تأثيراً كبيراً في تقليل تأثيره السلبي؛ فبدلاً من مقاومة الأمر وقول: "سأكون في مزاج رائع عندما أعود إلى المنزل"، ثم الغضب من نفسك لأنَّك فشلت في ذلك، تستطيع تقبُّل الواقع والتعامل مع أعراض "انهيار ما بعد العمل" في نفس الوقت.
إضافة إلى ذلك، جهِّز نفسك لما تتوقع أنَّك ستحتاج إليه بعد العمل، فقد يستلزم ذلك إعداد وجبات خفيفة سهلة أو الاستماع إلى أغان تحبها، أما في العمل، فاحرص على استخدام تدابير وقائية مثل إدارة التوتر، ووضع حدود في العمل (هذا يعني رفض تلبية الطلبات التي لا تهمك)، وأخذ فترات راحة طوال اليوم، الأمر الذي قد يخفِّف الشعور بالإرهاق والارتباك.
في طريق العودة إلى المنزل، أو قبل انتهاء يوم العمل إذا كنت تعمل في المنزل، خذ استراحة لتخفيف التوتر والضغط، فيمكنك الاستماع إلى مدونة صوتية أو أغان تفضلها، أو العودة إلى المنزل في السيارة بصمت، أو أي شي آخر ينجح في تهدئة أعصابك.
إليك نهجٌ آخر يساعد على الوقاية من "انهيار ما بعد العمل" على الأمد الطويل، وهو اختيار العمل في مهن وأماكن عمل تسود فيها بيئة إيجابية، وعلى الرغم من أنَّ بعض المبادئ مثل المعاملة باحترام تنتشر في جميع بيئات العمل، إلا أنَّ بعضها قد تسهم في تحسين نفسية الموظفين، مثل الوظائف التي تقدِّم إجراءات روتينية مستمرة لدعم صحة الموظفين وتخفيف آثار "انهيار ما بعد العمل"، بالمقارنة مع وظائف قد تؤدِّي إلى زيادة هذه الحالة.
فكِّر في الأسباب التي تؤدِّي إلى "انهيار ما بعد العمل" في الوظيفة، وكيف تستطيع معالجتها عبر تناول طعام الغداء مع صديق مثلاً، أو الانتهاء من مهامك الصعبة في الصباح، أو العمل في مكان مختلف في المكتب.
كيفية التعامل مع "انهيار ما بعد العمل":
قد يكون التعامل مع "انهيار ما بعد العمل" صعباً، ولكن إحدى الخطوات الهامة للتعامل معه هي الاعتراف بعواطفك في تلك اللحظة، كأن تقول: "لقد شعرت بأنَّني استنفدت طاقتي اليوم، وأنا مرهق جداً"، فالاهتمام بنفسك يعني احترام وتقدير ما تشعر به.
بعدها، انتقل إلى الرعاية الذاتية، مثل الخروج والتنزه في الطبيعة، أو القيام بنشاط ممتع مع صديق، أو ببساطة مشاهدة برنامجك المفضل، كما أنَّ الاستماع إلى موسيقى هادئة وأخذ حمام دافئ طريقة رائعة لتهدئة أعصابك أيضاً.
الأهم من ذلك كله هو ممارسة التمرينات الرياضية؛ إذ وجدت دراسة أُجريت عام 2016 في مجلة "كوغنيشن آند إيموشن" (Cognition & Emotion) أنَّ التمرينات الهوائية تقلل من المشاعر السلبية، فلا داعي للذهاب إلى صالة الألعاب الرياضية، بل تستطيع ممارسة الرقص أو اليوغا أو المشي لمسافات طويلة، أو أي شيء يناسبك.
بعض الاقتراحات الأخرى المفيدة للتعامل مع "انهيار ما بعد العمل": اللعب مع أطفالك، أو الصراخ لبضع دقائق وحدك، أو التعبير عن عواطفك عبر كتابتها في يومياتك، أو ممارسة التأمل وترديد عبارات التشجيع الإيجابية إلى أن تشعر بالهدوء.
ننصحك أيضاً بمواءمة سلوكك مع قيمك، عبر إيجاد طرائق للتواصل مع أحبائك أو مجتمعك، وممارسة نشاطات ذات قيمة، مثل الهوايات، وقضاء الوقت بعيداً عن الأجهزة الذكية، لا سيما إذا كنت تعمل في مكتب.
على الرغم من أنَّ ممارسة التمرينات الرياضية والمشاركة في النشاطات هي وسائل هامة يجب تجربتها، إلا أنَّ الراحة هامة أيضاً؛ لذا احرص على إراحة عقلك عبر أخذ قيلولة قصيرة أو ممارسة اليقظة الذهنية أو التركيز على نشاط مريح، مثل اللعب مع حيوان أليف أو الاستماع إلى موسيقى هادئة.
في الختام:
الهدف هو الانتباه إلى مشاعرك والتعبير عنها، فتذكَّر أنَّ العواطف هي كالأمواج المتلاطمة على الشاطئ تماماً؛ تثور تارة وتنحسر تارة أخرى، وأنَّ لكل عاطفة مكان وزمان، وأنَّ التعبير عن مشاعرك السلبية بطريقة صحية ومثمرة يفسح المجال لظهور المشاعر الإيجابية.
أضف تعليقاً