ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن الكاتبة سيلفيا تورونوفا (Silvia Turonova)، وتُحدِّثنا فيه عن تجربتها في تطوير الوعي بالذات وكيفية إتقانه.
إنَّه سؤال تهربت منه معظم حياتي؛ لأنَّه أثار في نفسي الخوف والذعر؛ فقد رفضت الاعتراف لنفسي بأنَّني أستخدم الغضب بوصفه وسيلة للسيطرة على الناس، وأعتمد أسلوب الصمت التام لمعاقبة أولئك الذين لم يلبُّوا رغباتي، وأستمر في علاقات سامة لأختبر الألم وأعاقب نفسي دون وعي؛ نتيجة لصدمة نفسية اختبرتها في مرحلة الطفولة.
إنَّنا نرفض الاعتراف بأنَّنا نتلاعب بأنفسنا، ونتحكم بها أو ندمِّرها ذاتياً، فلا أحد يفعل ذلك لأنَّه لا يمنحنا شعوراً فورياً بالرضى، ولا يكشف عن حقيقة أنَّنا أشخاص رائعون، ونستطيع تحقيق كلِّ ما نحلم به.
إنَّ هذا لا يحدث أبداً؛ فالوعي بالذات يُسيء إلى الأنا؛ لأنَّه مرتبطٌ في كثير من الأحيان بحقائق قاسية واكتشافات مخيفة عن النفس، وهنا تكمن الفرصة المناسبة لنا جميعاً.
لماذا نتهرَّب من الحقيقة؟
يوجد خط رفيع يفصل بين الوعي بالذات والحكم على الذات؛ إذ يصبح الشعور بالذنب بالنسبة إلى معظمنا أسلوب حياة، وسواء كان ذلك نتيجةَ صدمة نفسية في مرحلة الطفولة، أم الحديث الذاتي السلبي، أم بسبب شخص ينتقدنا باستمرار، فإنَّنا نوجه الحكم على الذات؛ لذلك يصبح الاعتراف بعيوبنا، أو بصفاتنا السامة، أو بالسلوك المخادع أو المسيطر علينا، أمراً من المستحيل مواجهته.
للإيضاح فقط، لا حرج في الاعتراف بأنَّك تتلاعب بالناس أو المواقف، وتسوِّف بسبب انعدام الثقة بالنفس، وبأنَّك تمتلك صفات سامةً.
عليك أن تُدرك بأنَّ أيَّة سمةٍ شخصية غير مرغوب بها، غالباً ما تكون نتيجةً لما حدث لك، وليست عيباً فيك، فإذا وجدت أنَّك تتصرف بطريقة سامة؛ فهذا لا يعني أنَّك إنسان سيئ كما أنَّه لا يُقلِّل من قيمتك؛ بل يدلُّ على أنَّك تدرك المشكلة ببساطة.
هل "الحقيقة" صحيحة بالفعل؟
دعني أستخدم مثالاً إحصائياً لترى الأمور من منظور مختلف، استناداً إلى موقع التحالف الوطني لمناهضة العنف الأسري (National Coalition Against Domestic Violence)، يتعرض طفل واحد من بين كلِّ 15 طفلاً لعنف الشريك الحميم كلَّ عام، و90% من هؤلاء الأطفال شهود عيان على هذا العنف، ويُشكِّل هذا نسبة 90% من الأطفال الذين عانوا صدمة من نوع ما، أثَّرت في نموهم الصحي، وتقديرهم لذاتهم، وصحتهم العقلية عامة.
هؤلاء الأطفال لم يتداركوا ما حصل في ماضيهم أبداً، كيف تعتقد أنَّهم سيتصرفون بوصفهم أشخاصاً بالغين؟ إنَّ معظم العادات والمعتقدات غير الصحية لديهم سترافقهم إلى مرحلة البلوغ.
بالنظر إلى هذه المعلومات، دعني أسألك ما يأتي: هل هذه التجارب تشكِّل شخصيتهم أو تحددها؟ إنَّها تُشكِّلها بالتأكيد؛ فهي تحدِّد شكل سلوكهم وتصرفاتهم وحتى شخصياتهم؛ لكنَّها لا تُمثِّل هويتهم من ناحية الجوهر، وهذا فرق هام يجب أن تأخذه في الحسبان.
إذا كانت هويتك اليوم هي حصيلة تربيتك وطريقة نشأتك والأشخاص الذين كان لهم التأثير الكبير فيك، فلا يجوز أن تشعر بالذنب تجاه الشخص الذي أصبحت عليه على مر السنين؛ فإنَّها أمور لا تخصُّك؛ بل حدثت لك؛ لهذا أشرت إلى أنَّ هذه التجارب ترسم شكل هويتك؛ لكنَّها لا تحددها، ومن خلال الوعي بالذات تحظى بفرصةٍ لإدراك ما يمكنك تغييره والعودة إلى ذاتك.
يقول عدَّاء الألتراماراثون الأمريكي "ديفيد غوغينز" (David Goggins): "إنَّ أهم الحوارات التي ستجريها على الإطلاق ستكون مع نفسك".
شاهد بالفيديو: 8 أسباب وراء انخفاض تقديرك لذاتك
إيجاد الشجاعة اللازمة للصحوة:
توصَّلت إلى استنتاج مفاده أنَّ معظم الناس لا يتغيرون؛ لأنَّهم لا يعرفون ما يجب تغييره، ونظراً لأنَّ إدراك الحقيقة قد يكون أمراً مخيفاً، فإنَّنا غالباً ما نختار الانسحاب والعيش في حالة إنكار، ويلازمنا شعورٌ بالإرهاق من التكلف أمام الآخرين وأمام أنفسنا.
فكيف نتغلب إذاً على هذا الخوف من معرفة أنفسنا، ونسعى نحو تغيير حقيقي ودائم؟ تستطيع أن تُجزِّء هذه العملية إلى ثلاث خطوات بسيطة:
1. انتقاء الأشخاص المقرَّبين منك بعناية:
بمجرد أن تبدأ الاعتراف بالحقيقة، عليك أن تُحيط نفسك بأشخاص يسعون مثلك إلى إنجاز ذات المهمة أو شبيهتها، ويعود هذا لسببين: أولهما، بأنَّ ذلك سيثير جواً من التعاطف تشعر من خلاله بأنَّ الآخرين يفهمونك لمجرد أنَّهم مروا بالتجربة نفسها، وسيلهمك هذا للقيام بالمثل، أمَّا ثانيهما، فستختبرُ حرية التعبير.
نظراً لأنَّ مواجهة حقيقتنا تبعث الخوف فينا، وتُولِّد شعوراً بالذنب أو الخزي، فمن الضروري توفير مساحة آمنة كلَّما شاركت حقيقتك، وما مررت به مع الأشخاص المناسبين؛ وبذلك يصبح إتقان مهارة الوعي بالذات أمراً سهلاً، وستكتشف أنَّ تلك السمات أو السلوكات التي كنت تخشى النظر إليها، هي ذاتها تلك التي يتعامل معها معظمنا يومياً.
2. اختيار محيط خالٍ من إطلاق الأحكام:
من المؤكد أنَّك تُدرك في هذه المرحلة مدى أهمية الابتعاد عن إطلاق الأحكام عند ممارسة الوعي بالذات.
لقد اختبرتُ أهم لحظات التغيير في حياتي عندما ضقتُ ذرعاً بحياتي البائسة، واعترفت بالعقلية السلبية التي لازمتني، ولم يكن الأمر سهلاً في البداية على الرَّغم من ذلك، ولأنَّني كنت مدفوعةً فطرياً للحكم على نفسي باستمرار؛ فكنت أنزلق من حالة الوعي إلى الحكم على الذات، وأعود لأتخبَّط في سلوكاتي المدفوعة بالذنب، لكن بالحديث عن الجانب الإيجابي للأمر، فقد تمكنت من إدراك ذلك لحسن الحظ.
يجب أن تكون رحلتك نحو الوعي بالذات خاليةً من الأحكام؛ فالشعورُ بالذنب لا يُطاق، كما أنَّه سام ومثبط للعزيمة، خاصةً إذا تكرر باستمرار، وما نسعى إليه هو الحب والعطف، وإنَّ التعامل مع أنفسنا بتفهم ورأفة ليس أمراً اختيارياً؛ بل ضرورياً عندما يتعلق الأمر بمواجهة حقيقتنا؛ فالطريقةُ الوحيدة للنمو تبدأ من عقلية إيجابية ومليئة بالوعي.
3. الاستفادة ممَّا تكشفه عن نفسك:
بمجرد أن تجد الشجاعة لمواجهة السمات والسلوكات التي ترغب في تغييرها، وتعترف بها بحب وتعاطف، فقد حان الوقت لقبولها، وتذكَّر أنَّ العيب ليس فيك؛ بل إنَّ تجاربك السابقة آلت بك إلى الحال الذي أنت عليه.
الآن بعد أن أدركت طريقة تصرفك، راقِب نفسك وخذ الأمور بروية، وانتبه إلى طريقة تعاملك مع المواقف غير المريحة أو التي تشعر فيها بالضغط، ولاحظ مشاعرك وأفكارك وسلوكاتك.
ستغير من سلوكك بصورة واعية بمجرد أن تصبح أكثر إدراكاً للأمر، وكلَّما فعلت ذلك، تزداد شعوراً بالفخر والثقة بقدرتك على التغيير؛ فالوعي يغير حياتك إذا استثمرته بالطريقة المناسبة.
في الختام:
على الرَّغم من أنَّ الوعي بالذات مرتبطٌ بالجوانب الإيجابية والسلبية للشخصية، إلَّا أنَّه كان لا بُدَّ من الإشارة إلى تلك النواحي التي نخشى النظر إليها، ولا يمكن أن تختبر التغيير الحقيقي إلا إذا كنت شجاعاً بما يكفي لإدراك ما تريد تحسينه وتغييره، وتتعامل معه بتفهم وتعاطف في الوقت نفسه.
تذكر أنَّ لا حرج في وجود صفات لا تحبها في نفسك؛ فالوعي بالذات مهارة بالغة الأهمية عليك إتقانها لأنَّها تمنحك رؤىً قويةً عن أهم شخص في حياتك؛ وهو أنت.
أضف تعليقاً