ينظر فريقه إليه بترقب، وفي داخله يشعر بالانزعاج والارتباك، وأسئلة لا نهائية تتردد في ذهنه، "لماذا الآن؟ لماذا لم يستشرني أحد؟ ماذا عن خطّتي الحالية؟ لماذا لا يستقر شيء؟"
يمرُّ اليوم الأول بمشاحنات، والثاني يمتلئ بالشكوى، والثالث يفقد فيه الموظفون الحماس؛ الكل يتشبث بما ألِفه وتعود عليه خشية المجهول الذي سيُخرجهم من منطقة الراحة، وهنا تبرز المشكلة الحقيقية: هل التغيير هو المشكلة، أم أنَّ طريقة استقباله وقيادته هي السبب؟
الحقيقة التي قد لا تعجبك
"القائد الناجح هو من يعرف الطريق، ويسلكه، ويُظهره للآخرين" – جون سي ماكسويل.
لا يعد التغيير في بيئة الإدارة اليوم احتمالاً؛ بل يقيناً، فهو ليس حدثاً عابراً؛ بل جزءاً من طبيعة الأعمال الحديثة، خصيصاً مع التطور التكنولوجي السريع والأسواق العالمية المتغيرة. في هذا السياق لم يعد السؤال هو "هل سيحدث التغيير؟"؛ بل أصبح "هل أنا مستعد لقيادته؟"
تكمن هنا القوة الحقيقية للقائد، فغياب المرونة الإدارية يحوِّل كل تغيير إلى أزمة، ويجعل من فريقك قوة مقاومة، بدل أن تكون قوة دافعة، وعلى النقيض تماماً عندما تكون المرونة مهارة أساسية لديك، يمكنك أن تستثمر الفرص التي لا يراها الآخرون، وتحوِّل الصدمة الأولية إلى انطلاقة جديدة؛ فالقائد الحقيقي يقود فريقه بثقة في الأوقات العصيبة، ويُصبح مثالاً يُحتذى به في التكيف السريع مع المتغيرات وإعادة ضبط الخطط بناء عليها.
هل ستسمر في جرِّ فريقك إلى الماضي أم أنَّك مستعد لقيادتهم تجاه المستقبل؟
المعتقد السلبي: "التغيير يسلبني قوتي التي بنيتها طوال الفترة الماضية، وقد يظهر جهلي بما يحدث الآن"
هذا هو المعتقد السلبي الذي يتشبث به كثير من المديرين، ويجعل من المرونة الإدارية نقطة ضعف لا ميزة؛ إذ يرى هؤلاء أنَّ الثبات على الموقف وعدم تغيير القرارات بسرعة، هو دليل القوة والصلابة والسيطرة.
ينظرون من جانب آخر إلى تقبُّل التغيير والمرونة بوصفهما نوعاً من التنازل أو الضعف الذي قد يُفقِد السيطرة أمام الإدارة العليا أو حتى الفريق نفسه. هذا النمط من التفكير رغم أنَّه يبدو منطقياً في الظاهر، لكنّه في الحقيقة قد يكبِّل صاحبه ويحول دون نموِّه.
لا يعد هذا المعتقد مجرد فكرة عابرة؛ بل هو مغالطة عميقة تعمل ضد القائد، بدلاً من أن يكون التغيير فرصة لتعزيز مكانته وإظهار قدرته على إدارة الأزمات والتكيف، يتحول إلى تابوت مظلم ومخيف، تموت فيه كل الأحلام والطموحات.
هذا ما يفسر لماذا نجد بعض المديرين عالقين في أساليب قديمة، يراوحون مكانهم بينما يتجاوزهم الآخرون بخطوات سريعة، ويلتقطون الفرص تباعاً، هم يظنون أنَّهم يحافظون على قوتهم لكنَّهم في الواقع يتجاهلون أنَّ القوة الحقيقية، تكمن في القدرة على التجديد والتكيف.
مثلاً: سيطرت شركة "بلوكباستر" (Blockbuster) الأمريكية لتأجير أفلام الفيديو، في مطلع الألفية على السوق سيطرة شبه كاملة، ولكن عندما عرضَت عليها "نتفليكس" (Netflix) شراكة للاستفادة من تقنية توصيل الأقراص من خلال البريد، رفضت إدارة "بلوكباستر" الفكرة تماماً، متمسكة بنموذج عملها التقليدي.
لقد رأوا في التغيير تهديداً لأعمالهم القائمة، وليس فرصة للتوسع، والنتيجة؟ أفلست "بلوكباستر"، بينما نمَت "نتفليكس" لتصبح عملاقاً عالمياً في مجال الترفيه، هذا المثال يوضح كيف أنَّ التمسك بالقِدم، خوفاً من التغيير، يحوِّل القوة إلى نقطة ضعف قاتلة.
"لا يؤثر المعتقد السلبي في القائد وحده؛ بل يمتد تأثيره ليشمل كامل الفريق، فيحوله إلى شجرة يابسة، صلبة لكنَّها بلا روح، إنَّه الجمود الذي يقتل الإمكانات".
شاهد بالفيديو: المرونة والتكيف مهارات أساسية للنجاح في العمل
المعتقد البديل: المرونة ليست ضعفاً؛ بل سلاح القائد الذكي
"الذكاء هو القدرة على التكيف مع التغيير" – ستيفن هوكينغ.
إذا لم يكن التغيير تهديداً، فما هو إذن؟ هو فرصة؛ هذا المعتقد الذي يميز القادة الناجحين عن أولئك الذين يراوحون مكانهم، فالمرونة الإدارية ليست تراجعاً عن المبادئ؛ بل هي أداة تمكِّنك من التكيف في العمل مع التحديات وتوجيه الفريق للنجاح دون مقاومة التغيير. كيف سيتغير أداؤك لو استطعت أن ترى في كل تغيير فرصة لا خطراً؟
يفتح هذا التحول في التفكير آفاقاً جديدة، ويمنحك القدرة على القيادة بذكاء وفعالية، فالقائد الذكي يدرك أنَّ الصلابة المفرطة هي التي تكسر، بينما المرونة هي التي تمكِّن من الانحناء، ثم النهوض أقوى.
هذا الفهم هو الذي سمحَ لشركات عالمية بالوقوف على أقدامها مرة أخرى بعد تعثرات كادت أن تكون قاتلة، وهو ما طوَّرَ المديرين باستمرار.
يدرك القائد الناجح أنَّ التغيير ليس ضده؛ بل هو في صالحه، فلا يرى في إعادة الهيكلة نهاية العالم، بل يراها فرصة مناسبة لإعادة تقييم الأهداف وتوزيع الأدوار بفعالية، بالتالي هي استثمار إمكانيات الفريق استثماراً لم يكن ممكناً من قبل.
يتطلب تبنِّي هذا المعتقد شجاعة وشفافية مع الذات والآخرين، يتطلب من المدير أن يعترف بأنَّه لا يمتلك كل الإجابات، وأنَّ التكيف في العمل هو الطريق الوحيد للاستمرار، وامتلاك هذه المهارة هو جزء من عملية تطوير المديرين.
لا يعد هذا الاعتراف ضعفاً؛ بل هو أسمى أنواع القوة، إنَّه يجعلك قائداً مثالياً يُحتذى به، يرى فريقك فيك شخصاً يواجه التحديات بمرونة وقوة، وليس شخصاً يتهرب منها أو يقاومها.
اسأل نفسك: هل أنت مستعد لتعريف المرونة في ذهنك؟
"لا تجبرك المرونة الإدارية على التراجع عن مبادئك؛ بل أداة قوية تساعدك على إدارة الأزمات ومواجهة التحديات والتكيف في العمل في مختلف الظروف".
وصفة النجاح: خطوات عملية تجاه المرونة القيادية
"ليست أقوى الأنواع هي التي تبقى، ولا أذكاها؛ بل أكثرها استجابة للتغيير" – تشارلز داروين.
يبرز السؤال الأهم بعد أن أدركنا أنَّ المرونة الإدارية هي سلاح القائد الذكي: كيف يمكننا ترجمة هذا الفهم إلى خطوات عملية؟ إليك وصفة مجربة ومكوَّنة من خمس خطوات لتقود بها التغيير بنجاح:
1. تعريف المرونة في الذهن
لا تعد المرونة تراجعاً عن القيم أو القواعد والمبادئ المهنية؛ بل هي تكيف واع مع الواقع الجديد، إنها القدرة على البقاء ثابتاً على قيمك ورؤيتك مع تغيير الأساليب والمسارات المتبعة للوصول إلى أهدافك.
أفضل مثال عن ذلك شركة "مايكروسوفت" (Microsoft) تحت قيادة "سانيا ناديلا"، في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كانت الشركة تعاني من ثقافة داخلية متصلبة تركز على المنافسة الداخلية بدلاً من التعاون، وكان يُنظر إليها على أنَّها عملاق قديم يواجه صعوبة في مواكبة الابتكارات السريعة. عندما تولَّى "ناديلا" القيادة لم يغيِّر المنتجات فقط؛ بل غيَّر الثقافة بالكامل محوِّلاً تركيز الشركة إلى "النمو العقلي" والاستعداد للتعلم المستمر.
عرَّف المرونة في أذهان الموظفين وألهمهم بتبنِّي التغيير بوصفه جزءاً أساسياً من هويتهم، مما أدى إلى تحول هائل في أداء الشركة وقيمتها السوقية.
2. الفصل بين المبدأ والوسيلة
لا تخلط بين الاثنين، فالثبات مطلوب في قيمك الأساسية، مثل النزاهة والشفافية والالتزام بالنتائج، ولكنَّ الوسائل لتحقيق هذه القيم يجب أن تكون قابلة للتغيير.
نصرب مثلاً دولة الإمارات العربية المتحدة؛ إنَّها ثابتة في رؤيتها لتكون الأفضل عالمياً، ولكنها تغيِّر الوسائل المتَّبعة باستمرار، فتنتقل من الاعتماد على النفط إلى الاستثمار في التكنولوجيا والاقتصاد المعرفي والاستدامة، ووجود هذا الفصل لديها بين المبدأ والوسيلة هو ما يمنحها القدرة على التجدد الدائم والنمو المستمر.
3. الاستماع أكثر من الحكم
تبدأ المرونة الإدارية الحقيقية من الاستماع الفعال، فدائماً عندما يُعلَن عن تغيير، تكون ردة فعل الفريق الأولى هي التساؤل والقلق، وعدم الاستماع لهم يسبب مقاومة التغيير، بينما القائد الحقيقي والذكي هو من يستمع لمخاوفهم وأفكارهم، فلا يفرض الحلول عليهم دون حوار.
وفقاً لدراسة أجرتها شركة "ديلويت" (Deloitte) فإنَّ المديرين الذين يشجعون الحوار المفتوح والصادق في فترات التغيير، ينجحون بنسبة أعلى بما لا يقلُّ عن 60% في قيادة فرقهم إلى التكيف والنجاح.
يمنحك الاستماع الفعال نظرة أعمق ويجعل فريقك يشعر بأنَّه جزء من الحل وليس ضحية للمشكلة.
4. تعليم الفريق كيف يتعامل مع التغيير
لا يحتفظ القائد المرن بمرونته لنفسه فقط؛ بل ينقلها إلى فريق العمل؛ لذلك يجب أن تعلِّم فريقك أنَّ التغيير هو جزء طبيعي من العمل، ويمكنك تحقيق ذلك من خلال تبنِّي ثقافة التجريب، بدلاً من الخوف من الفشل.
مثلاً: شركة "أمازون" التي تُدرِّب موظفيها باستمرار على ثقافة التجريب، مما يشجعهم على الابتكار وتجربة أفكار جديدة حتى لو فشلت، وهذه الثقافة تمنحهم الشجاعة لتحمُّل المخاطر المحسوبة، وتحوِّل الفشل إلى فرصة للتعلم.
5. القدوة في الاستجابة
يقلِّد الفريق قائده، فإن كنت متوتراً أو متردداً فإنَّ توترهم سيتضاعف، أمَّا إذا كنت مرناً وهادئاً، فإنهم سيجدون التغيير أمراً طبيعياً وهو الحقيقة الوحيدة الثابتة في عالم الأعمال، بوصفك قائداً لا يكمن دورك فقط في توجيه السفينة خلال العواصف؛ بل الأهم هو إظهار كيفية البقاء هادئاً وواثقاً في اهتزاز الأمواج.
قيادتك بالمثال هي أداة لتغيير عقلية فريقك، فاجعل من استجابتك نموذجاً يُحتذى به في التكيف وإدارة الأزمات والاحترافية في العمل.
"خطوات بسيطة تقودك إلى المرونة الإدارية، وتجعل منك القائد الذكي القدوة الذي يرى أنَّ التغير هو فرصة للتجدد والنمو".
في الختام
لا تعتقد أنَّ التمسك بالقرارات القديمة، هو دليل على الحكمة؛ لأنَّ عالم الأعمال اليوم يتغير بسرعة، ولا تقاس القوة بمدى ثباتك؛ بل بمدى سرعة التكيف في العمل ومواجهة التحديات والعثرات.
اسأل نفسك وبكل شفافية ومصداقية: هل أنا أقود فريقي للمستقبل أم أجرُّهم معي إلى الماضي؟ هل أظهر أمامهم بمظهر قيادي يعكس الشجاعة والثقة خلال الأزمات؟ هل أعبِّر لهم أنَّ التغيير ليس عدواً؛ بل هو الطريق للنمو؟
لا تعدُّ المرونة الإدارية مجرد مهارة إدارية؛ بل عقلية قيادية، هي قناعة بأنَّ كل تحدٍ هو فرصة وكل نهاية هي بداية جديدة؛ لذا كن القدوة لفريقك اليوم وغداً، وفي كل مرة يطرق فيها التغيير باب مكتبك.
فكِّر الآن جيداً ما الخطوة الأولى من الخطوات التي ستتخذها لتصبح قائداً أكثر مرونة؟
أضف تعليقاً