ملاحظة: هذا المقال مأخوذٌ عن الكاتبة "نوش نوش" (Noch Noch)، وتُحدِّثنا فيه عن أفضل طرائق العطاء ومساعدة الناس.
نظرَ إليَّ خطيبي بعطف وردَّ عليَّ قائلاً: "ربَّما يعود السبب في ذلك إلى عدم ممارستك للعطاء والإحسان حقاً تجاه أولئك الأشخاص".
لطالما ظننتُ أنَّني شخصٌ لطيف وودود؛ فحين كنتُ أنتقل من مدينةٍ لأخرى بسبب طبيعة وظيفتي، استضفتُ كثيراً من الأصدقاء الذين قدِموا لزيارتي من مدينة "هونغ كونغ" (Hong Kong) التي نشأتُ فيها، ولم يمانعْ أيٌّ منهم الإقامة في منزلي بصورة مجانية حين يكون زائراً في مدينة مثل "باريس" (Paris) أو "لندن" (London)، ولذا كنتُ أُسعد باستضافتهم في أثناء سفرهم.
على أي حال، حين كان هؤلاء الأشخاص يأتون إلى منزلي ويسكنون في غرفة الضيوف، كنتُ أدرك أنَّ لديهم أصدقاءً آخرين يقطنون في المدينة نفسها، ومن ثم كنتُ أقضي وقتاً قليلاً جداً برفقتهم خلال الأيام الخمسة التي يقضونها باستضافتي؛ فربَّما أتناول العشاء برفقتهم لليلةٍ واحدةٍ فحسب، بينما لا يحاولون حتَّى دفعَ ثمن العشاء لشكري على السماح لهم بالبقاء في منزلي.
كانوا يقضون الليالي الأربعة الأخرى في التنزه برفقة أصدقائهم الآخرين، بينما يتراود سؤال إلى ذهني عن السبب الذي دفعهم لعدم دعوتي لمرافقتهم والتنزه معهم، وكذلك عدم إقدامهم على تعريفي بأصدقائهم منذ وصولي لأول مرة إلى هذه المدينة الجديدة، وأنا شخصٌ غريب تماماً عنها ولا أعرف أحداً من سكانها، وقد طرحتُ تلك الأسئلة عليهم بالفعل، إلَّا أنَّهم اكتفوا بهز أكتافهم ورسم ابتسامة خفيفة على وجوههم غير آبهين بما يجول في خاطري.
لم أفهم لمَ لم تكنْ دعوتي لمرافقتهم والتنزه معهم ردَّ فعلٍ تلقائياً ونابعاً من قلوبهم بعد المعروف الذي كنتُ أسديه لكلٍّ منهم؛ لأنَّه في كل مرةٍ كنتُ أسمع بسفر أحدهم لمكانٍ ما، كنتُ أعرض عليهم الاتصال بأحد معارفي في ذلك المكان لمساعدتهم وتقديم الدعم لهم في حال حاجتهم إلى ذلك.
انزعجتُ لعدم اهتمام أي أحدٍ بالوضع السيئ الذي كنتُ أمر به، ثمَّ شعرتُ بالغضب بعد ذلك؛ فأنا كريمةٌ ولا أبخل على أي إنسانٍ بتقديمه لمعارفي والتواصل معهم؛ حتى إن علمتُ بإقدام أحدهم على المجازفة والبدء بمشروعٍ تجاري خلال دردشتي معه في أثناء شرب القهوة، فإنَّني أراجع سجلَّ معارفي بسرعةٍ داخل ذهني لأعرضَ على ذلك الشخص تقديمه لبعض الأصدقاء الذين أظنُّ أنَّهم يستطيعون مساعدته بما يسعى إليه.
مع ذلك من المُستبعَد جداً أن يفعل شخصٌ ما ذلك لأجلي، لدرجة أنَّني أُضطَرُّ أحياناً إلى سؤال الآخرين إن كان باستطاعتهم تقديمي لشخصٍ ما يمكنه مساعدتي في أحد المجالات، ولذا أشعر بالاستياء الشديد لأنَّه لا أحد يردُّ لي المعروف والخدمات التي أقدِّمها، ولأنَّني لا أجدُ العطاء والمساندة من الآخرين بالمقابل رغم كل العطاء والمساعدة التي أقدمها وبذل كل ما باستطاعتي لدعم جميع أصدقائي ومعارفي.
في الوقت المناسب تقريباً بعد نوبة الحزن والبكاء تلك التي عشتُها مع خطيبي، كنتُ أتصفح الإنترنت وأتنقل من موقعٍ إلكتروني لآخر باحثةً عن كتب إلكترونية لقراءتها، لأعثرَ صدفةً على كتاب للمدرس الألماني "إيكهارت تول" (Eckhart Tolle) بعنوان "أرض جديدة" (A New Earth)، وأقرأ أحد سطوره في أثناء التفتيش والتقليب بين صفحاته المجانية والذي كان يقول فيه: "مهما كان الشيء الذي تعتقد أنَّ العالم يحرمك منه، فإنَّه في الحقيقة الشيءُ الذي تمتنع عن منحه للعالم".
العطاء ليس استثماراً:
فجأةً تلاشت كل الأحزان التي أثَّرت بي وتوضَّحت الصورة أمامي وبدأتُ أرى الواقع وأفكر فيه بذهنٍ صافٍ تماماً، فلم يكن عطائي حقيقياً وخالصاً في أيٍّ من المرات التي ظننتُ أنَّني أمارسه فيها؛ حيث كنتُ أحصي بطريقة خفية في زوايا تفكيري عددَ الخدمات والأعمال الإنسانية التي منحتُها للآخرين، وهذا رسَّخ داخل ذهني فكرةً بأنَّني سأستردها يوماً ما؛ لذا كنتُ بعيدةً كلَّ البعد عن مفهوم العطاء، فقد كنتُ أستثمر كلَّ خدمةٍ أو معروف أقدمه.
توقعتُ دوماً الحصول على شيءٍ مقابل الخدمات التي أقدمها، وكما هو الحال مع الاستثمارات، يوجد دائماً ربح وخسارة، ولذلك احتسبتُ كلَّ معروف أو خدمةٍ أقدمها على أنَّها خسارةٌ بالنسبة إلي حين لم يقدم لي الآخرون معروفاً مماثلاً لما قدمتُه أو زائداً عنه بالأحرى، وهو السبب الذي جعلني ممتعضةً ومستاءة.
إذاً لم تكن نواياي سليمة ونقية لأنَّني كنتُ في حالةٍ لاواعيةٍ من الحساب والتخطيط ووضع التوقعات باستمرار، وقد تعاليتُ عليهم كما لو أنَّني كنتُ أعمل عملاً صالحاً لأجلهم مما جعلني أفضل منهم من وجهة نظري.
لقد شعرتُ بالحزن والأسف لامتناع الآخرين عن تقديم المساعدة والعطاء لي، وهو ما ذكره "تول" وركَّز عليه في كتابه، ولكن كنتُ أنا في الواقع مَنْ يحرم الآخرين من العطاء والمساندة في المقام الأول من خلال عدم عطائي الكامل والنابع من كل قلبي وعدم امتلاكي لأفضل النوايا تجاههم، وكنتُ في النهاية مَنْ تعرَّض للانزعاج والغضب والاستياء بالدرجة الأكبر.
الآن أعملُ على تغيير هذه العقلية التي كنتُ أعيشُ بها شيئاً فشيئاً، وليس هناك طريقة خارقة أو 10 خطوات لاتباعها على سبيل ذلك، بل كلُّ ما عليك فعله هو أن تقرر العطاء ومساعدة الآخرين بكل بساطةٍ دون توقُّع أي شيءٍ منهم في المقابل.
شاهد بالفديو: أقوال وحكم رائعة عن العطاء
العطاء دون مقابل:
أصبحتُ الآن أدعو الناس للعشاء للاستمتاع بصحبتهم والتمكن من التعرف إليهم وتقوية علاقتي معهم بصورة أفضل، وليس لأنَّني أرغب أن يقوموا بدعوتي للعشاء مستقبلاً.
عندما اكتشفتُ أنَّ أصدقائي قرروا قضاء خمس ساعاتٍ برفقتي فقط خلال عطلة نهاية الأسبوع التي أقمتُ فيها حفل زفافي بينما سافروا في أرجاء المدينة لمقابلة عدة مجموعاتٍ أخرى من الأصدقاء الذين لم يعرِّفوني إليهم من قبل، شعرتُ بالامتنان في تلك الأيام القليلة لأنَّهم سافروا بالطائرة كلَّ تلك المسافة لحضور حفل زفافي، ولن أهتمَّ لغير ذلك فقد فعلتُ كلَ ما بوسعي.
لكن هذا مُجرَّد جزءٍ واحد من المشكلة فحسب، فقد أنهى "تول" تلك الفقرة من كتابه بقوله: "ولا بدَّ أنَّك تحرم العالم من ذلك الشيء لأنَّك تعتقد في أعماقك أنَّك شخصٌ بسيط وليس لديك ما تقدمه للعالم".
في الحقيقة يعود السبب في ذلك أيضاً لشعوري بعدم الاستقرار وعدم ثقتي بنفسي والذي لم أكنْ قادرة على التخلص منه ونسيانه بصورة كاملة كي أتمكن من مشاركة معارفي ومعلوماتي مع الآخرين وتسخير قدراتي لخدمتهم، وكان عليَّ أن أجعل الأمر يبدو وكأنَّني أحاول جاهدةً العثور على شخصٍ أعرفه لخدمتهم وإلَّا فإنَّني لن ألقى التقدير والشكر من الناس، ولذلك فقد قللتُ من قيمة نفسي وأهملتُ قدراتي ومهاراتي وكنتُ السبب في زعزعة ثقتي بنفسي.
يبدو الأمر كمفارقة كبيرة ولكنَّها حقيقية للغاية؛ فكلَّما قلت ثقتنا بأنفسنا، حاولنا التمسُّكَ بما لدينا أكثر ظنَّاً منَّا بأنَّنا لا ينبغي أن نخسر الأمور التي نمتلكها أو السماح للآخرين بالاستفادة من معارفنا ومعلوماتنا، ولذا دوماً ما نحتفظ بمهاراتنا ومعارفنا قليلاً لأنفسنا، ومع ذلك نلقي اللوم على الناس من حولنا والعالم المحيط بنا لعدم منحنا الهِبات والعطايا دون تحفُّظات.
في الختام:
آمنْ بنفسك وثقْ بقدراتك ومهاراتك، وساعد الناس وابذلْ قصارى جهدك للبذل والعطاء، وستشعر عندَها بسعادة أكبر، وكنْ واثقاً من كلامي هذا، واحرصْ على العطاء لا الاستثمار.
أضف تعليقاً