عندما يقول لك أحدهم: "لقد عشت الثلث من حياتي، ولكنَّني لم أقرأ ثلث الكتب التي أردت قراءتها"، ستشعر بالحزن قليلاً عندما تفكر في ذلك، وقد أعرب الكاتب نسيم طالب (Nassim Taleb) عن نفس المشاعر في كتابه "البجعة السوداء" (The Black Swan) عندما كتب عن المكتبة غير المقروءة لأومبرتو إيكو (Umberto Eco).
إيكو هو عالم لديه مكتبة رائعة تضم أكثر من 30 ألف كتاب، ومع ذلك يهتم بأمر الكتب التي لم يقرأها أكثر من الكتب التي لديه.
يلخص طالب ذلك بالقول: "المكتبة الخاصة ليست أداة لتعزيز الأنا؛ بل إنَّها أداة بحث، والكتب التي قُرأت أقل قيمة بكثير من الكتب التي لم تُقرأ، وكلَّما تقدَّمت في العمر، سوف تجمع مزيداً من المعرفة والكتب، وفي الواقع كلَّما ازدادت معرفتك ازدادت رفوف الكتب غير المقروءة".
لكن مع وجود كثير من الكتب لقراءتها، وكثير من المعرفة لاستيعابها، فمن أين يبدأ المرء؟ والأهم من ذلك، أين ينتهي؟
لأنَّ صناعة نشر الكتب هي مجرد "صناعة"، العديد من الكتب تستحق أن توجد على رفِّ الكتب الذي لديك، لكن يوجد العديد منها التي لا تستحق ذلك، وفي الواقع إنَّ بعضاً من الكتب الأكثر مبيعاً في هذا القرن يجب ألا تحقق الحد الأدنى من المبيعات.
بيت القصيد هنا هو ما هو الهدف من قراءة كتاب؟ إنَّه تراكمية المعرفة، أليس كذلك؟ المعرفة التي يمكن أن توضع حيز التنفيذ، ومع وجود عديد من الكتب، فمن المنطقي تخطي معظمها، والانتقال مباشرة إلى مصدر المعرفة نفسه.
يوجد كثيراً من الرجال والنساء والفلاسفة والسياسيين والعلماء من الذين تركوا لنا إرثاً عظيماً، وما زالت تعاليمهم تنتشر اليوم ولسبب وجيه؛ على سبيل المثال، الفيلسوف ورجل الدولة الرواقي سينيكا (Seneca):
لقد وُلد في القرن الرابع قبل الميلاد، تأمَّل في مقاله عن قِصَر الحياة (Shortness of Life): "كم من الغباء أن نتناسى فناءنا، وأن نؤجِّل خططنا المنطقية إلى الخمسين والستين من عمرنا بهدف أن نبدأ حياتنا من النقطة التي وصل إليها قليل من الناس!".
بينما كُتب هذا منذ أكثر من 2000 عام، يبدو كأنَّه نصيحة مكتوبة لهذا اليوم، فكم منا يحتقر وظيفته، ويعمل 50 أسبوعاً ليحصل على عطلة لمدة أسبوعين؟ كم عدد الكتب المعاصرة والمدونات الصوتية التي تؤكِّد أهمية العيش في اللحظة الحالية، وعدم تأجيل تحقيق الرغبات حتى الغد؟ حسناً، إذا كان هذا المبدأ ما يزال صحيحاً بعد ألفي عام من كتابته، فمن الآمن أن نقول: إنَّه يمثل جزءاً من الطبيعة البشرية التي يجب أخذها بجدية في الحسبان.
دعونا لا ننسى الحركة الوجودية؛ إذ قال الفيلسوف جان بول سارتر (Jean-Paul Sartre) ساخراً في محاضرته الشهيرة عام 1945: "إنَّ الحياة عبارة عن لا شيء إلى أن تُعاش، ولكنَّها مهمتك أن تُعطيها معنى، وإنَّ قيمتها ليست سوى المعنى الذي تختاره أنت لها".
يبدو كلامه مألوفاً، أليس كذلك؟ لقد قام المجتمع الحديث بعمل عظيم حين ضخَّم قلقنا الوجودي، ولكنَّ مبادئ الوجودية، والمفتاح لتخفيف أفكارنا الوجودية تكمن لدى المناصرين الأصليين للفلسفة.
إنَّ عام 1945 هو أحدث من الرابع قبل الميلاد بكلِّ تأكيد، لكن إذا كنت تريد قراءة شيء عن معنى الحياة ينبغي لك على الأرجح أن تذهب إلى أولئك الذين كانوا أول من يقولون: "إنَّ الحياة ليست سوى المعنى الذي تعطيها أنت إيَّاه".
سنكون مُقصِّرين إن لم نسلِّط الضوء على الفيلسوف الرواقي المعروف ماركوس أوريليوس (Marcus Aurelius) الذي وُلد عام 121 بعد الميلاد، وتولَّى العرش الروماني منذ عام 161 بعد الميلاد حتى وفاته في 180 بعد الميلاد.
يُخبرنا أوريليوس: "ابدؤوا الصباح بالقول لأنفسكم: سألتقي الشخص المتطفل، والجاحد، والمتكبر، والمخادع، والحاسد، وغير الاجتماعي، وهم لديهم هذه الصفات كلُّها بسبب جهلهم بما هو خير وما هو شر، لكن أنا الذي رأيت جوهر الخير الجميل، والشر القبيح، وجوهر من يرتكب الظلم، إنَّهم من أنسبائي، والذين ليسوا فقط من نفس الدم أو نفس الجذور، ولكنَّهم يتشاركون معي الذكاء نفسه، فلا يمكنني أن أتأذى من أيٍّ منهم؛ لأنَّه لا يمكن لأحدهم أن يوجِّه انتباهي نحو ما هو قبيح، ولا يمكنني أن أغضب من قريبي ولا أن أكرهه؛ لأنَّنا خُلقنا من أجل التعاون".
نحن جميعنا نعرف شخصاً تنطبق عليه الصفات التي ذكرها أوريليوس في بداية كلامه، ونودُّ جميعنا أيضاً أن نردَّ على هؤلاء الأشخاص كما يقترح أوريليوس.، يبدو كما لو أنَّ أوريليوس يصف جوهر الطبيعة البشرية، وكيف يجب أن يتفاعل البشر مع الكارهين، وقد كُتب هذا منذ ما يقرب من ألفي عام، ولكنَّه صحيح اليوم أكثر من أيِّ وقت مضى.
في حين أنَّ لدينا عدة فلسفات أخرى، لكن يبدو أنَّ الرواقيين والوجوديين لديهم نظرة مستقبلية للحياة تناسب القرن الحادي والعشرين أكثر من القرون التي بدأت فيها تلك المدارس الفكرية، فلماذا تستمر في القراءة، والتعلُّم من المُعاصرين، في حين أنَّ عديداً منهم - ومن ذلك هذه المدونة - يقومون بعملية إعادة تدوير للمبادئ التي شُرِحت منذ سنوات مضت؟
من الأفضل أخذ المبادئ من هذه الفلسفات كلِّها، وإعادة تعيين الهدف للاستخدام الشخصي في هذا العصر الحديث.
شاهد: 7 حكم تساعدك على إيجاد السعادة
الوجودية في الفكر:
الوجودية هي مدرسة فلسفية تبحث في معنى الحياة، وأفكار الشخص المتعلقة بهذه المسألة؛ وذلك لأنَّ الحياة ليس لها معنى سوى المعنى الذي يعطيه الفرد لها بحسب الوجوديين.
وفقاً للفيلسوف الوجودي، والطبيب النفسي فيكتور فرانكل (Victor Frankl): "يمكننا اكتشاف معنى الحياة بثلاث طرائق مختلفة: عند القيام بعملٍ، وعند تجربة شيء ما أو لقاء شخص ما، وبالموقف الذي نتخذه تجاه المعاناة التي لا مفرَّ منها".
بالنسبة إلى فرانكل، إنَّك بصفتك إنساناً، فإنَّ إيجادك للمعنى دائماً ما يشير، ويُوجَّه إلى شيء ما، أو إلى شخص آخر غير الذات، ولقد وجدنا أنَّ القلق الوجودي يكون أقوى عندما لا نفعل الخير، أو عندما لا نكون قد تواصلنا مع أيِّ شخص منذ فترة.
ظهرت الوجودية في أوائل القرن العشرين، ولكنَّها أنجزت عملاً رائعاً في وصفها للحالة الإنسانية التي يشعر بها معظمنا اليوم، فقد أصبحت فكرة الشغف والهدف والمعنى أكثر انتشاراً الآن من أيِّ وقت مضى، ويكافح الناس أكثر من أيِّ وقت مضى لمعرفة الهدف من الحياة.
يمكننا أن نلوم افتقارنا إلى نمط حياة القبيلة أو زيادة وقت التلفزيون أو أيِّ شيء بينهما على هذا الصراع الذي نعيشه، لكن من المنطقي إذاً الاستفادة من كتابات الوجوديين الرائدين، ومعرفتهم لمساعدتنا على حلِّ مشكلتنا الشخصية المتعلقة بالمعنى.
لأنَّه بحسب سارتر: "الإنسان مسؤول عمَّا هو عليه؛ ومن ثَمَّ، فإنَّ التأثير الأول للوجودية هو أنَّها تجعل كلَّ إنسان مسؤولاً عن سلوكاته، وتضع مسؤولية وجوده الكاملة على عاتقه".
إنَّها فكرة مخيفة نعلم ذلك، ولكنَّ الوجودية تعلِّمنا أن نتحكم بحياتنا، وأن نبحث بنشاط عن المعنى الشخصي لوجودنا؛ وذلك لأنَّ هذا المبدأ يمنحنا الوجهة التي نحتاج إليها لاكتشاف هدفنا في القرن الواحد والعشرين، ففي عالمنا اليوم، إنَّ تحقيق المعنى الوجودي الفريد للحياة هو الشيء الوحيد الذي يجعلنا نشعر بالكمال.
الرواقية في العمل:
الرواقية هي مجموعة من المفاهيم الفلسفية التي جاءت، ولسبب وجيه في وقت أبكر بكثير من الوجودية؛ باختصار، الرواقية تُبشِّر بأنَّ العقبة هي الطريق، وأنَّ على الناس تكريس حياتهم لمنظمة أكبر - فمثلاً: في روما المنظمة الأكبر هي الدولة نفسها - والعمل بجدٍّ، وتوظيف مهاراتهم من أجل تحسين المجتمع.
يؤمن الرواقيون بالاقتصاد وزيادة الهدوء؛ فيمكنك التفكير في ألغاز الكون، لكن لا تُخطئ؛ فالعمل الجاد يأتي أولاً، ثم التأمل ثانياً.
السبب في أنَّ الرواقية أصبحت مدرسة فكرية سائدة هو أنَّها نشأت في وقت عصيب في تاريخ البشرية؛ فقد كانت الحياة بطبيعة الحال أصعب بكثير ممَّا هي عليه اليوم في فترة حياة سينيكا التي امتدت من سنة 4 إلى سنة 64 بعد الميلاد؛ فقد كان الموت حالة شائعة، وكان على كثير من الناس العمل بجدٍّ في نظام طبقي لسنوات من دون مكافأة.
لذلك دافعت الرواقية عن فكرة أنَّ الحياة شاقة وأنَّ هذه الحياة الصعبة يجب أن تكتمل بالعمل الجاد والعيش المقتصد، ويجب أن يزيد هذا العمل الجاد والاقتصاد من مقدار الوقت الذي يملكه الشخص من "وقت الراحة" بحسب كُلٍّ من سينيكا وأوريليوس الذي سيكون في يومنا هذا أقرب إلى التفكير الصامت والسعي النشط إلى الوصول إلى المعرفة.
في حين أنَّ بعض الفلسفات الرواقية قديمة إلى حدٍّ ما، ولكنَّ كثيراً من المبادئ الأساسية ما تزال صحيحة حتى اليوم، فيؤتي العمل الجاد ثماره اليوم في عالمنا كما ذكَّرنا سينيكا بهذا الأمر بحرفيته قبل ألفي عام: "ما دمتَ وعدتَ نفسك بأشياء أعلى وأعظم، فلن يوجد نقص في الرجال الجديرين بالثقة والمثابرين".
القاسم المشترك بين الأشخاص الناجحين والسمات المشتركة التي يفتقر إليها الأشخاص غير الناجحين هي أخلاقيات العمل؛ فالأمر لا يتعلق بالمال أو الشهرة، وهو بالتأكيد ليس الحظ؛ إنَّه الوعي الذاتي والفهم بأنَّ العمل الجاد والمثابرة، سيؤديان إلى تحقيق أهداف أعلى.
أضف إلى ذلك أنَّ الرواقية على غرار الوجودية، أيَّدت فكرة أنَّ الحياة قصيرة وأنَّك ستموت يوماً ما؛ لذلك يجب عليك أن تعيش حياتك بأفضل طريقة ممكنة، ويُخبرنا ماركوس أوريليوس أنَّه "ما دام من الممكن أن تموت في أيِّ لحظة، فقم بتنظيم كلِّ فعل وفكرة وفقاً لذلك".
يُضيف سينيكا طالباً منَّا أن نأخذ الحياة بتروٍ ونستمتع بها قائلاً: "يكافح كلُّ شخص طوال حياته، ويواجه المشكلات بسبب توقه إلى المستقبل وتعبه من الحاضر، لكنَّ الشخص الذي يقضي وقته كلَّه في تلبية احتياجاته الخاصة، والذي ينظم كلَّ يوم كما لو كان آخر يوم له، لا يتوق لليوم التالي ولا يخشاه".
في الختام:
في عالم اليوم الذي يُسمح لنا فيه بكتابة ما لا يزيد عن 140 حرفاً والإشعارات الهامة والرسائل التسويقية التي تكاد تُفجِّر بريدنا الإلكتروني، أضحت نصيحة سينيكا صحيحة أكثر من أيِّ وقت مضى، وهذا ما يجعلنا نفكر إذا كانت هذه الكلمات قد كُتبَت منذ زمن بعيد، فما الذي نفتقده بتجاهلنا للأشخاص البارزين الآخرين؟
لأنَّ الطبيعة البشرية هي نفسها الطبيعة البشرية بصرف النظر عن الحقبة الزمنية يُذكِّرنا سينيكا أنَّ الحياة طويلة في حال عرفنا كيف نعيشها؛ لذلك نعتقد أنَّ الوقت قد حان لنتعلم من الأشخاص المناسبين.
أضف تعليقاً