لا تعد المعرفة المتوسطة لرواد الأعمال ترفاً؛ بل شرطاً للبقاء، فالتوازن بين التخصص والشمولية هو ما يحوِّلك من تابع لخبراء مجهولين إلى قائد يملك البوصلة لقيادة المشاريع للنجاح والاستدامة.
المعتقد الخاطئ: "يكفيني أن أكون خبيراً في مجالي أمَّا البقية فأمرها لغيري"
"من يجهل ما حوله يظن أنَّ خبرته تكفيه، حتى يفاجَأ بأنَّ مشروعه، أصبح على حافة الإفلاس، وربما انهار من حيث لا يعلم."
يبدو هذا المعتقد للوهلة الأولى منطقياً: لماذا يجهد رائد الأعمال نفسه في تعلم المحاسبة أو إدارة العمليات أو حتى أساسيات التسويق وهو بارع في مجاله الأصلي؟ لكنَّ الحقيقة أنَّ هذا التفكير، هو بذرة الفشل.
فإدارة المشروع الناجح لا تقوم على ركيزة واحدة؛ بل على شبكة مترابطة من الأركان: مالية، وتسويقية، وتشغيلية، وخدمية، وحين يجهل القائد هذه الأركان، فإنَّه يضع مصير مشروعه بين أيدي آخرين، وقد يفقد السيطرة تماماً.
لا تعد المعرفة المتوسطة أو غير التخصصية لرواد الأعمال خياراً؛ بل ضرورة للبقاء في سوق معقد وسريع التغير. خذ مثالاً ما نشره موقع "هارفرد بيزنيس ريفيو" في دراسة بعنوان لماذا لا يتعلم القادة من النجاح "Why Leaders Don’t Learn from Success" حول كيف أنَّ غياب الفهم الشمولي، قد يترك القائد عاجزاً عن اكتشاف الأخطاء حتى بعد وقوعها.
شَهِدنا في السياق العربي حالات مشاريع ناشئة قوية في الفكرة أو المنتج لكنها انهارت؛ لأنَّ المؤسسين تجاهلوا أساسيات التدفقات النقدية أو لم يدركوا أهمية بناء قناة تسويق فعالة.
من أبرز هذه التجارب:
توقفت (Cirqy) المنصة المصرية التي أطلقت ضمن برنامج (Flat6Labs) بعد 18 شهراً بسبب أخطاء في إدارة الميزانية ونفقات أهدرت رأس مالها بسرعة، وصرَّح أحد مؤسسيها بأنّ: "قرار الإنفاق لدينا كان سيئاً، مما استنزَف رأس المال بسرعة".
التوازن بين التخصص والشمولية هو ما يمنحك عيوناً إضافية ترى بها المخاطر قبل أن تتحول إلى كوارث.
كما قال "ويليام جيه إتش بوتكر": "الإنسان بلا رؤية، كقبطانٍ يجد نفسه في بحرٍ مجهول، بلا بوصلة ولا دفة ولا عجلة قيادة. لا يعرف أبداً أين هو، ولا إلى أين يتجه".
من هنا نجد أنَّ قيادة المشاريع، تتطلب أن يكون القائد واعياً بكل تفاصيل مشروعه، حتى ولو بالحدود الدنيا من فهم الأساسيات، كي لا يتحول إلى تابع لمجهولين يقررون نيابة عنه.

المعتقد البديل: "أحتاج معرفة شاملة… ولو بعمق متوسط، بكل ما يمس مشروعي"
"القائد الذي يعرف القليل عن كل شيء أقدر على توجيه مشروعه من الخبير الذي يعرف كثيراً عن شيء واحد."
هذا هو المعتقد البديل الذي يجب أن يتبناه أي رائد أعمال يُدير المشروع الناجح، فالتخصص العميق مطلوب، لكنَّه وحده غير كافٍ لقيادة المشاريع في بيئة تنافسية ومعقدة.
لا يكتفي القائد الناجح بأن يكون خبيراً في مجال واحد؛ بل يمتلك المعرفة المتوسطة لرواد الأعمال في كل ركن من أركان المشروع: المحاسبة لفهم التدفقات النقدية، والتسويق لمعرفة كيف يصل المنتج إلى السوق، والعمليات لضبط الكفاءة، الموارد البشرية لبناء فرق متماسكة، وحتى التكنولوجيا لمواكبة التحولات الرقمية.
في موقع (CEO Today) ذكرَ المدير التنفيذي اليوم في مقال عن "جاك ما" في عام 2020 أنَّ "جاك ما" (Jack Ma)، مؤسس موقع "علي بابا" (Alibaba)، لم يكن مبرمجاً، لكنه تعلَّم لغة التكنولوجيا بقدر يمكِّنه من قيادة آلاف المهندسين.
والأمر ذاته ينطبق على "هاورد شولتز" (Howard Schultz) من "ستاربكس" (Starbucks) إحدى أشهر شركات بيع القهوة في العالم، الذي لم يكن خبيراً في تحميص القهوة، لكنَّه فهم سلسلة القيمة كاملة (أي جميع عمليات الإنتاج التي تضيف قيمة للمستهلك)، فقاد توسعاً عالمياً غير مسبوق، الدرس هنا أنَّ المعرفة الشمولية، حتى وإن كانت متوسطة، تمنح رائد الأعمال البوصلة الاستراتيجية لتوجيه مشروعه.
نرى في السياق العربي أنَّ كثيراً من المشاريع الناشئة التي فشلت، لم يكن سببها ضعف الفكرة؛ بل جهل مؤسسيها بالحد الأدنى من إدارة التدفقات المالية أو كيفية بناء قناة تسويق فعالة. لو امتلكَ هؤلاء المؤسسون الحد الأدنى من الفهم الشمولي، لتجنبوا الأخطاء القاتلة.
مثال:
تشير دراسة عن واقع السوق العربي إلى أنَّ قرابة 52 % من المشاريع الصغيرة في مصر، تفشل بسبب سوء فهم السوق، وسوء التخطيط الإداري والمالي، مثل الإنفاق غير الضروري والتوسع السريع، والجدير ذكره أنَّ التوسع السريع، أصبح مرضاً شائعاً على مستوى العالم لدرجة أنه بات من المواضيع التي دُرِسَت وحُذِّر من مخاطرها من قبل كبار الباحثين تحت عنوان "فخ التوسع".
لا يعد التوازن بين التخصص والشمولية رفاهية؛ بل مهارة أساسية من مهارات ريادة الأعمال، فالقائد الذي يعرف "لغة كل قسم" يستطيع أن يحاور خبراءه بثقة، ويتخذ قرارات حاسمة دون أن يكون أسيراً لهم. وكما ورد في تقارير (McKinsey, 2019): "تفتح لك المعرفة المتوسطة لرواد الأعمال أبواب السيطرة، بينما الجهل يغلقها ويتركك تابعاً".
تتطلب قيادة المشاريع عقلية شمولية ترى الصورة كاملة، وتوظف العمق في مكانه الصحيح، والأفق في كل الاتجاهات الممكنة، والانتقال الذكي والسلس بين الشمولية والعمق حين تدعو الحاجة.
شاهد بالفيديو: 8 مهارات أساسية يحتاجها رواد الأعمال لتحقيق النجاح
وصفة النجاح: كيف تبني معرفة شاملة دون أن تتوه؟
تَذَكَّر أنَّ النجاح يصعب أن يتحقق إن لم يبدأ بفهم شامل لمشروعك. خُذ الوقت لتخطيط مكونات مشروعك، ووسِّع دائرة معرفتك تدريجياً في كل مجال، دون محاولة استيعاب كل شيء دفعةً واحدة، مما يساعدك على تجنب التشتت والارتباك.
1. رسم خريطة مكونات مشروعك
حدِّد المكونات الأساسية في مشروعك: المنتج أو الخدمة، والتسويق، والمبيعات، والمالية، والعمليات، وخدمة العملاء، وارسم خريطة ذهنية أو مخطط لهذه المكونات، أو ابنِ نموذج عمل تجارياً أولياً يساعدك كثيراً على استجلاء وفهم كل تلك المكونات، والعلاقات بينها. فرؤية مكونات المشروع أمامك تجعل أي جزء يحتاج إلى فهم أكثر وضوحاً، وستجد أنَّه بتحديد الوصلات بين الأقسام، تُحسِّن نقاط الضعف وتقوِّي آلية العمل.
مثال:
أدركَ "هوارد شولتز" (الرئيس التنفيذي السابق لستاربكس) أنَّ جودة المشروبات وقيمة العلامة التجارية، تبدأ من معرفة تامة لسلسلة القيمة؛ لذلك أغلقت سلسلة ستاربكس في عام 2008 أكثر من 7000 متجر لإقامة تدريب مكثف مدته أسبوع لتعليم الباريستا كيفية صنع الإسبرسو المثالي. أظهر هذا الإجراء، رغم تكلفته العالية فهماً لكل خطوة في الإنتاج والخدمة.
الدرس: معرفة الهيكل العام لمشروعك هي الخطوة الأولى تجاه السيطرة عليه وإدارته بفعالية.
2. تعلُّم "لغة كل قسم"
لا تشترط أن تتقن مهارات كل قسم في مشروعك، ولكن يجب عليك فهم أساسيات كل مجال. فمثلاً قد لا تحتاج لأن تكون محاسباً محترفاً لتفهم أداء شركتك، ولكن عليك أن تتعرف على الأقل إلى أساسيات البيانات المالية، مثل الميزانية وقراءة تقرير التدفقات النقدية وفهم أرباح الشركة.
لست مضطراً لأن تكون مبرمجاً خبيراً لإدارة شركة تكنولوجية، لكن عليك أن تعرف الفرق بين بناء تطبيق أصلي من الصفر واستخدام قالب جاهز، أو بين البرمجة الأمامية والخلفية. لقد تعلَّم "جاك ما" (مؤسس "علي بابا") هذه الدروس بنفسه، فرغم تصريحِه بأنَّه "ليس جيداً في التكنولوجيا" وأنه "لا يعرف شيئاً عن الحواسيب"، اكتسب فهماً كافياً لمفردات العمل التكنولوجي تمكنه من قيادة فريق هندسي ضخم.
الدرس: تفتح لك المعرفة الجزئية أبواب الحوار مع الخبراء، وتمنعك من أن تكون أعمى في مجالك التقني والمالي.

3. جعل التعلم عادة يومية صغيرة
لا تبتلع كل شيء مرةً واحدة. بدلاً من ذلك، اجعل للتعلم مكاناً ثابتاً في روتينك اليومي: خصِّص ساعة يومياً للقراءة أو الاستماع إلى بودكاست في مجال جديد خارج تخصصك. تتراكم المعرفة مع الوقت؛ فكما يبيِّن مثال "بيل غيتس"، المعرفة الشاملة تُبنى بالتدريج.
مثال:
يقوم كثير من المهتمين بـ التطوير الذاتي بتطبيق ما يُعرف بالعادات المجهرية "Micro Habit" للتعلم، فيستخدمون تطبيق "بلينكست" (Blinkist) للقراءة أو الاستماع إلى ملخص كتاب غير خيالي خلال 10–15 دقيقة يومياً، وهذه العادة اليومية البسيطة، وفق تقارير من المستخدمين، تحوِّل التعلم إلى نشاط سلس ومستمر، وتبني معرفة جديدة بناء يومياً ومستداماً.
الدرس: تكون المعرفة التي تُكتسب على دفعات صغيرة يومياً أكثر رسوخاً من محاولة استيعاب كثير دفعةً واحدة.
4. الطلب من الخبراء أن يشرحوا لك ببساطة
يتواضع القائد الذكي ولا يتردد في مطالبة فريقه بتبسيط الأمور، فإذا واجهت مفهوماً معقداً، قل لموظفيك: «اشرحوا لي كما لو أنني لا أعرف شيئاً»، فهذا الطلب البسيط يفتح مساحات فهم جديدة ويمنع تراكم الالتباس، فالخبراء غالباً يفهمون أفكارهم بعمق، ولكنَّ شرحها بلغة بسيطة، يكشف لك الجوهر بسرعة.
يُعرف عن "وارن بافيت" (المستثمر الشهير) أنَّه يشترط قراءة تقارير مبسطة وواضحة من شركاته التابعة، حتى يتخذ قرارات سريعة دون الغرق في تفاصيل غير جوهرية.
الدرس: لا تأتي المعرفة من الكتب فقط، فالحوار الصريح والمبسط مع الخبراء قد يكشف لك أكثر مما تعتقد.
شاهد بالفيديو: 6 دروس ينبغي تعلّمها في الريادة من ستيف جوبز
5. الجمع بين "الطيار" و"المهندس"
تخيَّل رائد الأعمال كالطيار والمهندس معاً: الطيار يجب أن يعرف كيف تطير الطائرة كي يحافظ على سلامة الركاب، حتى ولو لم يصمم محرك الطائرة بنفسه، وبالمثل، يجب عليك فهم آلية عمل كل جزء في مشروعك، حتى إن لم تنفِّذه شخصياً، فحتى صاحب الشركات الضخمة يشارك في التفاصيل الهندسية لمنتجاته.
مثلاً، يشارك "إيلون ماسك" بتفاصيل تصميم صواريخ (SpaceX) وبرامج سيارات تيسلا، رغم أنَّه ليس مهندساً مختصاً في كل جزئية، لكنه يمتلك مستوى معرفة متوسطاً يمكِّنه من اتخاذ قرارات استراتيجية حاسمة.
الدرس: تمنحك المعرفة المتوسطة سلطة القرار، بينما الجهل يتركك أسيراً لتوجيهات الآخرين.
6. معرفة ما يكفي لكشف الخطر
يكفي فهم بسيط أحياناً قبل وقوع الكارثة، فلو قرأت تقرير أرباح للشركة، يجب أن تعرف ماذا تعني بنوده الأساسية كي تلتقط أي مؤشر خطر مبكراً، وكذلك عند تقييم حملة تسويقية، فإنَّ التمييز بين المؤشرات الواضحة والأرقام المنخفضة، يمكن أن يجعلك تتجنب خسارة عملائك الحاليين.
مثال:
ركَّزت إندرا نويي (الرئيسة التنفيذية السابقة لشركة بيبسيكو) على معايير الاستدامة في منتجات الشركة، مما ساعدها على توجيه استراتيجية بيبسيكو تجاه نجاحات طويلة الأمد.
الدرس: تكفي المعرفة المتوسطة لتجنب القرارات الكارثية والحفاظ على استقرار مشروعك.
في الختام
التخصص العميق قوة، لكنه لا يكفي وحده لصناعة وإدارة وتشغيل المشروع بالنجاح المطلوب، فالتجارب تثبت أنَّ من يركز على مجال واحد ويهمل بقية الأركان، يقع في فخ قاتل، ويصبح تابعاً لغيره بدلاً من أن يكون قائداً؛ إذ لا تعد المعرفة المتوسطة لرواد الأعمال مجرد إضافة؛ بل هي شرط للبقاء في سوق تنافسي متغير.
حين توازن بين التخصص والشمولية، وتفهم لغة المحاسبة، والتسويق، والعمليات، والموارد البشرية والتكنولوجيا، فإنَّك تمنح نفسك البوصلة التي توجِّه سفينة مشروعك تجاه النجاح، وكما يقول المثل: "من يجهل الأفق… يسقط في العمق." فابحث عن الأفق دائماً، ولا تدع الجهل يقيِّدك.
أضف تعليقاً