يُقدِّم الإنسان الساعي إلى عيش شغفه منفعةً للآخرين، بغض النظر عن معايير المجتمع القاسية، بحيث يُحوِّل شغفه إلى شيءٍ ملموس؛ لكنَّه يُتَّهمُّ بأنَّه إنسانٌ لا يَعِي مصلحته، ولا يُراعِي مقاييس المجتمع التي تُعلي فيه اختصاصاتٍ معينةٍ كالهندسة والطب، وتُقلِّل من أهميَّة اختصاصاتٍ أخرى كالآداب وغيرها، وتُوجِّه كلماتِ اللَّوم إلى هذا الإنسان؛ فيُهاجَم وسط ثقافةٍ لا تُقدِّره ولا تحترم مواهبه واختلافه.
وهنا ينبثق السؤال: "ما مصير الأمَّة التي لا تتعامل مع العقل البشري على أنَّه رأس المال الحقيقي والاستثمار الأمثل لها، وتنظر إليه على أنَّه خزَّانٌ يُزوَّد بالمعطيات، ومن ثمّ يُفرَّغ دون أن يُعطِي أيَّ قيمةٍ مضافةٍ تستحقُّ الذكر؟".
سنناقش في هذا المقال أسباب تشتت الأفراد بخصوص اختيار التخصص الدراسي المناسب لهم، لنغوص في جذور الموضوع، مُكتشفين تفاصيل قد يؤدِّي تنفيذها إلى إحداث الكثير من التطوُّر والتغيير.
المدرسة وسيلة تلقين؟ أم وسيلةٌ لاكتشاف قدرات الأطفال الاستثنائيَّة؟
هل تساءلنا لماذا يستيقظ أطفالنا مُكرَهين للذَّهاب إلى المدرسة، فمنهم مَن يحتجُّ بالمرض لكي يُعفَى من الالتحاق بالصفّ الدراسي، ومنهم مَن يعدُّ المدرسة عقاباً يومياً يَصعُب تجاوزه؟ وهل تساءلنا: أين يكمن الخطأ؟ ولماذا لا تُمارِس المدارس دورها الحقيقي الذي خُلِقت من أجله؟
تُعامِل المدرسة الطالب على أنَّه خزَّانٌ يستوعب كمَّاً كبيراً من المعلومات، ومن ثم يُفرَّغ في أوقات الاختبارات؛ ولا تعامله على أنَّه مُنتَجٌ خارقٌ يستحقُّ كلّ الجهد والطاقة والبذل في سبيله، فيغيب عنها أنَّ التعليم والتربية وجهان لعملةٍ واحدة، فلا تُولِي اهتماماً لبناء شخصية الطفل المتكاملة، وهنا يكمن جذر كلِّ المشكلات؛ لأنَّ غياب دور المدرسة في خَلق طفلٍ متكاملٍ يجعله عرضةً إلى التشتت والضياع مستقبلاً، بحيث لا يستطيع فهم رغباته واكتشاف مواهبه، ولا يملك جرأة السعي نحو مواهبه حتَّى في حال اكتشافها.
فعلى المدرسة أن تجتهد في خلق الشخصية التحليلية المسؤولة لدى الطفل من خلال تمريناتٍ تُحفِّز مهارة التحليل والنقد لديه، والتركيز على استنتاج المعلومة لا تلقينها، والعمل على تكليفه بالبحث واستنباط الأفكار الرئيسة بنفسه لتنمية ثقته بنفسه ومهاراته، بحيث يسعى دوماً إلى تطوير ذاته وشحنها بكلِّ مفيد.
لا يعرف أغلب الأطفال ما الهدف من ذهابهم إلى المدرسة، ولماذا هي هامَّة، ويؤدِّي غياب الرؤية والهدف لدى الكثير من الطلاب إلى التشويش وارتفاع معدلات التوتر والقلق لديهم؛ لذلك على المدرسة أن تساعد في وضوح الصورة لدى الطالب وتبلورها في ذهنه منذ البداية.
هل تُعَدُّ معتقدات الأهل وممارساتهم سبباً في تشتت أطفالهم عن تحقيق أهدافهم المُتماهية مع ميولهم؟
يتبنَّى الأهالي الكثير من الأفكار والممارسات التي تُؤذِي علاقة الطفل بالمدرسة والكتاب، بحيث يصبح القيام بالواجبات المدرسية من أصعب المهام وأقساها على الطالب والأهل على حدٍّ سواء، ومن هذه الأفكار والممارسات ما يلي:
1. فكرة التخصص الأمثل:
يزرع الكثير من الأهالي في عقول أطفالهم أنَّ هناك تخصصاتٍ تستحقُّ كامل التقدير والاحترام والسعي مثل: الطب والصيدلة والهندسة، بينما تكون التخصصات الأخرى هامشيةً ولا تُحقِّق نفعاً كبيراً؛ الأمر الذي يجعل الطالب دائم القلق والتوتر، بحيث يجد الدراسة أمراً شاقاً يبعده عن شغفه في الحياة، ويصبح هاجسه هو تحقيق ما زرعه أهله في عقله، حتَّى إن كان غير منسجمٍ مع ميوله.
تكمن الخطوة الأولى في كسر هذه العقلية التقليدية القاصرة، فلا يوجد تخصّصٌ في العالم غير مفيدٍ أو هامشي، إذ تحتاج الأمَّة إلى مدرِّس اللغة العربية كحاجتها إلى الطبيب البشري تماماً، حيث يعمل الجميع على خلق القيمة المُضافة حسب مجاله.
2. فكرة أنَّ النجاح مقرونٌ بالشهادة العلمية:
يزرع الأهالي في عقول أطفالهم فكرة أنَّ التعليم الأكاديمي هو كلُّ شيءٍ في الحياة، ممَّا يخلق لدى الطفل حالة خوفٍ مبالغٍ فيه من الدراسة، ويفقد حالة المتعة والسعادة باكتشاف معلوماتٍ جديدة؛ لذلك على الأهالي أن يَعوا أنَّ التعليم الأكاديمي جزءٌ هامٌّ من نجاح الإنسان، لكنَّه ليس كلَّ شيء، فلا يقلّ نجاح الإنسان اجتماعياً في علاقاته مع الآخرين أهميَّةً عن نجاحه الأكاديمي، كما ولا يقلُّ نجاحه في أن يكون سليماً نفسياً وبدنياً أهميةً عن النجاح الأكاديمي.
تنخفض معدلات القلق والتوتر كثيراً عندما يتعامل الأهل مع فكرة النجاح على أنَّها منظومةٌ متكاملة.
3. التصدير السلبي:
يُسبِّب تصريح الأهالي برأيهم السلبي عن المدرسة أمام أطفالهم إلى خلق صورةٍ ذهنيةٍ سلبيةٍ في عقل الطفل عن مدرسته، ممَّا يساهم في نفوره من العملية التعليمية ككل؛ لذلك على الأهل أن يكونوا واعين جداً لهذه الجزئية.
من جهةٍ أخرى، على مُعلِّمي المدرسة وإدارتها توفير بيئةٍ صحيَّةٍ لبناء الطفل بناءً سليماً، كأن يُفعَّل نظام التقييم الذاتي للطفل، أي أن يُقارِن أداءه خلال الفترة الماضية مع أدائه الحالي، والابتعاد عن المقارنات بين الطلاب؛ لئلا تعمَّ حالات التوتر والقلق والغيرة المبالغ فيها.
4. التنظيم يكون ضمن المدرسة فقط:
يُهمِل الكثير من الأهالي وضع جدولٍ خاصٍ بمهام الطالب ضمن المنزل بعد انتهاء يومه المدرسي، معتقدين أنَّ التزامه بجدول المدرسة خلال ساعات النهار كافٍ، غير واعين أنَّ التنظيم وخلق العادات الصحيَّة يبدأ من السنوات الأولى من حياة الإنسان؛ لذلك يجب تحديد مهامٍ معيَّنةٍ مع أوقاتٍ محددةٍ لإنجازها، مثل: مهمَّة إنجاز الواجبات، ومهمَّة ترتيب الغرفة؛ ويجب مساعدة الطفل في أثناء قيامه بهذا الجدول، بحيث يعلم أنَّه ليس لوحده، وأنَّ والديه سيكونان بقربه عند الحاجة.
5. العاطفة الزائدة:
لا يَعِي الكثير من الأهالي أنَّ معاملة أبنائهم بطريقةٍ عاطفيةٍ جداً تجعلهم أشخاصاً اتكاليين؛ لذلك يعدُّ الاعتماد على النفس من أهمِّ القيم الواجب زرعها لدى الطفل منذ سنواته الأولى، فعلى الأمِّ أن تُعلِّم ابنها ثقافة "أنت مسؤولٌ عن عملك، وليس أنا"، و"هذا من ضمن مسؤولياتك". فإن تأخَّر عن الاستيقاظ باكراً، فعلى الأم ألَّا توقظه، حتَّى لو أدَّى ذلك إلى غيابه يوماً واحداً عن المدرسة؛ لأنَّ مهمَّة الاستيقاظ باكراً يجب أن تكون من ضمن مسؤولياته، وعليه أن يتحمَّل نتائج تصرُّفاته. وإن كان الطفل كثير الأسئلة، فعلى الأم أن تعلِّمه أنَّها الخيار الأخير الذي يلجأ إليه، وعليه أولاً البحث طويلاً عن إجابةٍ لسؤاله، سواءً في الكتب أم المراجع أم الإنترنت، وبالتالي يتعزَّز لديه قيمة السعي والاعتماد على الذات.
من جهةٍ أخرى، تعدُّ المكافأة والتحفيز من أهمِّ الوسائل لجعل الأطفال يستمتعون بالدراسة، فعلى الأهل مكافأة ولدهم بعد إنجازه لمهامه مثل: أن يأخذوه في رحلةٍ ترفيهيةٍ خلال عطلته؛ مع تزويده بعباراتٍ من التحفيز المعنوي مثل: "أنا فخور بك"، أو "أنت طفلٌ ذكيٌّ ومهذَّبٌ وتستحق الكثير"، بحيث ترتبط لدى الطفل قيمة الإنجاز مع المكافأة، ويَعي أنَّ الحياة لن تكون إيجابيَّةً معه إلَّا إذا سعى وأعطى وقدَّم.
كيف أكتشف شغفي؟
يعدُّ الشغف حالةً من الحبِّ والحماس والطَّاقة والرَّغبة التي يشعر بها الشخص في أثناء قيامه بأمرٍ ما، مع وجود تدفّقٍ غنيٍّ للأفكار والإلهامات، وقدرةٍ هائلةٍ على حلِّ المشكلات بطرائق إبداعيَّة، بحيث تُفضِي حالة الشغف إلى تقديم خدمةٍ ومنفعةٍ إلى الآخرين. ولأنَّ هذه الحالة يصاحبها مشاعر رائعة؛ تحوَّلت إلى مطلبٍ للجميع، ومسعى للكثيرين.
قد يكمن الشغف في تخصّصٍ معيَّن؛ كالذي لديه شغفٌ في مادة الرياضيات، والذي سيميل إلى دراسة اختصاص الرياضيات؛ أو مَن لديه عشقٌ لمادة العلوم، ويميل إلى دراسة الطب البشري أو اختصاص علم الأحياء؛ أمَّا مَن لديه ميلٌ إلى الميكانيك والمهن الصناعية، فسيختار الالتحاق بهندسة الميكانيك أو المعاهد الصناعية.
من جهةٍ أخرى، قد يكون الشغف عبارةً عن أمرٍ يستمتع به الإنسان، وقد يمارسه يومياً لأسبابٍ شخصيًّة، ومن ثمَّ يُحوِّله إلى أمرٍ ملموس، ويُوظِّفه في خدمة الناس والمجتمع. على سبيل المثال: تلك التي تعشق الحديث عن علم النفس أو المرأة أو الطفل، وتقضي ساعاتٍ في البحث عن المواضيع المتعلِّقة بهم، فتقرِّر تحويل شغفها إلى خدمةٍ يستفيد منها الآخرون، فتخوض مثلاً في كتابة المقالات في تلك المجالات؛ وفيما بعد تجد أنَّ شغفها للتفاعل مع الآخرين لم يُحقَّق، فتقرِّر تطوير ذاتها، بحيث تخوض مجالاً يندمج فيه حبُّها لمواضيع معينةٍ مع حبِّها للتفاعل مع الناس.
هناك أربع نقاطٍ لاكتشاف شغفك؛ هي:
- الاستمتاع: أن تشعر بمتعةٍ كبيرةٍ عند قيامك بهذا الشيء.
- الاستمرار: أن يكون لديك الصبر للقيام بهذا الشيء، بحيث لا تملُّ منه.
- تدفق الأفكار: أن يكون لديك يسرٌ وسهولةٌ في أثناء خوضك لهذا الأمر، كأن تأتي إليك الأفكار بسلاسةٍ ومرونة.
- القدرة على تحويل الأفكار إلى نماذج ماديَّة: أي القدرة على تحويل الأفكار من عالم الطاقة إلى التجلِّي المادي لها.
إن كنت لا تعرف أين يكمن شغفك حتَّى الآن، فراجع نشاطاتك جميعها، واختبر هذه النقاط الأربع عليها، وعلى فتراتٍ زمنيةٍ معينة؛ وعندها تستطيع أن تكتشف شغفك.
الخلاصة:
كم هو جميلٌ لو تُتقن كلٌّ من مدارسنا ونظامنا التعليمي ثقافة "الشغف"، ويسعون إلى اكتشافه بين صفوف الطلاب، ويعملون جاهدين على تعليمهم مهارة تحويل شغفهم إلى شيءٍ ماديٍّ وخدمةٍ يستفيد منها الآخرون. نعتقد أنَّ هذا هو التحدي العظيم الذي على المدارس السعي إلى تحقيقه.
أضف تعليقاً