يتبع القمر الطفل أثناء سيره: تعرف على نظرية بياجيه

تم تطوير نظرية التطور المعرفي من قِبل "جان بياجيه" الذي درس علم نفس الطفل في جامعة "زيورخ"، فكان "بياجيه" مهتماً اهتماماً خاصاً بذكاء الأطفال وكيف يفكر الأطفال في المواقف اليومية، وكيف يحاولون فهم الأشياء، وكيف يتعاملون مع المشكلات، ومن خلال هذه الملاحظات والنتائج صاغ "جان بياجيه" ما يسمى بنظرية "التطور المعرفي" التي لخَّصها في مراحل فردية، وقد وجد "بياجيه" أنَّ سلوك الأطفال وأنماط التفكير متشابهة جداً، ولكنَّها غالباً لا تؤدي إلى حل بنَّاء للمشكلة الفعلية.



كل إنسان يولد مع اتجاهين أساسيين:

تأتي نظرية "بياجيه" من وجهة نظر بنائية، وهذا يعني أنَّ الإدراك ومن ثم التعلم يتم بناؤهما من قِبل الفرد، وتنبثق مفاهيم وافتراضات مختلفة من نظرية "جان بياجيه"، ويعتقد "بياجيه" أنَّ كل إنسان يولد مع اتجاهين أساسيين:

  1. الميل إلى التكيف.
  2. الميل إلى التنظيم.

الاستيعاب عند الطفل وفق نظرية "بياجيه":

أم تأخذ طفلها في نزهة سيراً على الأقدام، ويقابلان كلباً بنياً صغيراً بأذنين كبيرتين، فيشعر الطفل بالفضول وتقول الأم إنَّ هذا الحيوان يسمى كلب، فالطفل يلاحظ هذا الكلب ويدركه، وإذا رأى بعدها كلباً بنياً صغيراً بأذنين كبيرتين فإنَّه يعرف أنَّه كلب، حتى لو لم يكن نفس الكلب، ففي مخطط إدراك الطفل تمتلك الكلاب آذاناً كبيرة وهي بنية وصغيرة، لكن ماذا يحدث عندما يصادف الطفل كلباً أسود كبيراً؟ هنا لا يتناسب الكلب مع مخطط إدراك الطفل، وهذا هو المكان الذي يأتي فيه دور "الملاءمة" أو التكييف.

الملاءمة عند الطفل وفق نظرية "بياجيه":

يمكن تعريف هذا المصطلح على أنَّه تكيف؛ وذلك لأنَّ الفرد يكيف مخططات الإدراك الداخلية الخاصة به مع البيئة؛ إذ يرى الطفل الكلب الأسود الكبير فتخبره الأم مرة أخرى أنَّ هذا الحيوان هو كلب، فيشعر الطفل بالارتباك في البداية لأنَّه تعلم أنَّ الكلب صغير الحجم وبني وأذناه كبيرتان.

تنشأ حالة من عدم التوازن والتناقض في عملية تفكير الطفل؛ لذا يجب على الطفل تكييف المخططات الإدراكية السابقة؛ أي يمكن أن تكون الكلاب صغيرة وبنية مع آذان كبيرة، لكن قد تكون كبيرة وسوداء، وبهذه الطريقة يصبح تصور الطفل متمايزاً أكثر فأكثر.

على سبيل المثال يتعلم الطفل أنَّ ثمة سلالات مختلفة، لكن يطلق عليهم جميعاً كلاب، ويوجد فرق كبير بين الهاسكي واللابرادور، لكن كلاهما كلاب، فإذا بقي الطفل مهتماً بالموضوع تصبح لديه نظرة أكثر تمايزاً ودقة، على سبيل المثال الذئاب والثعالب هي أيضاً كلاب.

إقرأ أيضاً: 6 نصائح لزيادة القدرات العقلية لدى الأطفال

الميل إلى التنظيم عند الطفل وفق نظرية "بياجيه":

يعني التنظيم دمج العمليات الخاصة بالفرد في أنظمة متماسكة؛ إذ إنَّ المفهوم المركزي في مجال التنظيم هو التوازن الذي سبق ذكره مرات عدة، ووفقاً لـ "بياجيه" يسعى كل إنسان إلى تحقيق حالة توازن من خلال التكيف؛ إذ يريد الإنسان أن يعيش في وئام وتلاؤم مع نفسه ومع البيئة، ويحاول البشر تقليل الهياكل المعرفية المتناقضة من أجل الوصول إلى مزيد من الهياكل القوية والمستقرة.

إذا كان هناك خلل أو صراع داخلي، فإنَّ الإنسان يسعى إلى استعادة التوازن الديناميكي، وينظر "بياجيه" إلى عملية الموازنة هذه على أنَّها القوة الدافعة للتنمية؛ إذ تتم إزالة عدم التوازن، وتحدث مراحل جديدة في التطوير.

مثال عن التنظيم من وجهة نظر "بياجيه":

ينجذب الرضيع إلى ثدي الأم من أجل تنظيم عواطفه وتغذيته، الأمر الذي يمده بالطاقة اللازمة للنمو والحركة، ولكنَّ الرضاعة تهدئ الرضيع أيضاً، وفي وقت لاحق عندما تتوقف الأم عن الرضاعة، يتم إعطاء الطفل لهَّاية لتنظيم عواطفه، وهذا يساعد الطفل على التعامل مع التوتر الداخلي، وإذا لم تعد هذه اللهاية كافية فسيتم البحث عن شيء جديد.

مراحل نظرية التطور المعرفي:

بحث "جان بياجيه" في ذكاء الأطفال واستخدم اختبارات الذكاء ولاحظ أنَّ الأخطاء في حل المهام تزداد في فئات عمرية معينة، واستنتج "بياجيه" من هذا أنَّ بنية التفكير والقدرات المعرفية متشابهة لدى الأطفال اعتماداً على سنِّهم ومستوى نموهم، ولكنَّ هذه البنية والقدرات تتغير مع تقدم العمر ومستوى التطور، وهذا يجعل من الممكن حل بعض المشكلات.

يميز "بياجيه" خمس مراحل رئيسة من التطور المعرفي عند الأطفال، وبعضها مقسم إلى مراحل فرعية:

1. المرحلة الأولى:

على مستوى الذكاء الحسي الحركي (0-18/ 24 شهراً، مع ست مراحل فرعية): لا يمتلك الرضيع في البداية سوى عدد قليل من ردود الفعل الفطرية، فيتعلم الطفل بعد ذلك بشكل أساسي من خلال الملاحظة والتجريب (أولاً من خلال التكرار ولاحقاً من خلال التجريب)؛ أي من خلال ملاحظة ما يحدث عند لمس الأشياء أو اصطدامها أو تحريكها أو سحبها أو إسقاطها وما إلى ذلك، وفي عمر 12 شهراً تقريباً يدرك الطفل أنَّ الأشياء موجودة حتى عندما لا يتمكن من رؤيتها (ثبات الكائن)، ويبدأ بالتفريق بين نفسه وبيئته (الأشياء).

2. المرحلة الثانية:

مرحلة التفكير الرمزي أو ما قبل المفهوم (18/ 24 شهراً – 4 سنوات): يكتسب الطفل اللغة ويمكنه الآن التعامل مع المفاهيم المسبقة مثل الأفكار والرموز، إضافة إلى ذلك فإنَّه يميز الآن بين المفهوم (موقف، سلوك…) والتمثيل العقلي له الذي يسمح له أيضاً بلعب ألعاب رمزية، على سبيل المثال يمكن أن يلعب بحجرة صغيرة كما لو كانت سيارة؛ إذ يتذكر الطفل في المقام الأول الانطباعات الحسية التصويرية.

شاهد بالفيديو: 10 طرق لتنمية الذكاء والقدرات العقلية عند الأطفال

3. المرحلة الثالثة:

(4-7/ 8 سنوات): يستمر التفكير في الصور الداخلية، ويطور الطفل الآن مفاهيم حقيقية؛ إذ يتم أخذ السمات البارزة في الحسبان بشكل أساسي، وينظم العديد من الانطباعات والأحداث من خلال "البحث" عن الروابط والعلاقات السببية، وفي الوقت نفسه يطور وعياً بالقواعد (إذا كان اليوم هو الإثنين، فهو الإثنين في كل المدن والبلدات)، ولكنَّ التفكير ما يزال ذا مسار واحد ويسمح فقط بتنفيذ إجراء داخلي واحد، وفي نهاية هذه المرحلة يتم تجاوز فكرة التمركز حول الذات في مرحلة الطفولة المبكرة.

4. المرحلة الرابعة:

مستوى العمليات الملموسة (7/ 8 – 11/ 12 سنة): يبقى التفكير مرتبطاً بالمحتوى الذي يمكن تجربته بوضوح، ومع ذلك يتم تسجيل الخصائص المختلفة لكائن والعملية المتعلقة به في وقت واحد وترتبط ببعضها بعضاً، وتشير القواعد في هذه المرحلة إلى العلاقة بين مصطلحين أو أكثر، ويفكر الطفل في أفعاله قبل القيام بها، ويمكنه التفكير في المستقبل والتحكم في أفعاله، وتبدأ قدرته بتكوين الاستدلالات المنطقية المتعلقة بالظواهر التي تنطوي على أشياء مادية وحالات ملموسة.

5. المرحلة الخامسة:

مرحلة العمليات الرسمية (من 11/ 12 سنة): الآن يستطيع الشاب التعامل مع المحتوى المجرد مثل الفرضيات وتحليل المشكلات نظرياً والتفكير في الأسئلة العلمية بشكل منهجي، ويكون قد وصل إلى أعلى شكل من أشكال التفكير المنطقي.

هنا يتضح كيف أصبح التفكير أكثر انفصالاً عن الإدراك والحدس والتجريب؛ أي إنَّه أصبح "مجرداً" بشكل أكبر، أو بعبارة أخرى تصبح الأشياء وخصائصها - وخاصة سلوكها عند التعامل معها - هي محور التفكير، ثم العمليات المنطقية فيما بعد.

إقرأ أيضاً: 4 عوامل سلبيّة تؤثر على ذكاء الأطفال

هل توجد حياة عقلية عند الأطفال الصغار وفق "بياجيه"؟

خلص "بياجيه" إلى أنَّه بالنسبة إلى الأطفال الصغار قبل سن السادسة لا توجد حياة عقلية على الإطلاق؛ إذ إنَّهم واقعيون عندما يتعلق الأمر بالظواهر النفسية، فهم لا يميزون بين التكوينات العقلية مثل الأفكار والأحلام، والحقيقة التي تنطوي على أشياء مادية (أستينغتون 2000، ص17).

الأطفال الصغار متمركزون حول الذات، وهذا يعني أنَّهم لم يطوروا وعياً بأنفسهم وبشأن ذاتية تجربتهم الخاصة، ومن ثم لا يمكنهم رؤية العالم بموضوعية، وبهذه الطريقة تكتسب التكوينات العقلية عند الأطفال خصائص فيزيائية، على سبيل المثال تأتي الأحلام من السماء أو تنتظرنا في الغرفة، وخلاف ذلك صحيح؛ إذ تكتسب الأشياء المادية خصائص نفسية، على سبيل المثال يتبع القمر الطفل في أثناء سيره.

في الختام:

صحيح أنَّ نظرية "بياجيه" شكلت ثورة حقيقية في علم نفس الطفل، لكن أظهرت الأبحاث الحديثة أنَّ التطور المعرفي لدى الأطفال أسرع مما وجده "بياجيه" في دراساته التجريبية؛ إذ أثبت الأطفال الصغار أنَّهم أكثر كفاءة في تفكيرهم ومنطقهم بشأن العالم المادي، وبهذه الطريقة حققوا فهماً مشابهاً للمصطلحات مثل البالغين في وقت مبكر نسبياً.

كان لديهم أيضاً فهم للظواهر النفسية في وقت أبكر بكثير مما افترضه "بياجيه" حتى يتمكنوا من التمييز بين الأشياء الحقيقية والهياكل العقلية مثل الأفكار والأحلام والذكريات، إضافة إلى ذلك تم تحديد اختلافات كبيرة جداً بين الأفراد في التطور المعرفي، وهذا يتعارض مع التعميم الذي يفترضه نموذج "بياجيه"؛ إذ يتأثر الأطفال أكثر بالمحيط الخارجي في تطورهم المعرفي.




مقالات مرتبطة