هوس الشهرة في علم النفس

إذا كنت من روَّاد مواقع التواصل الاجتماعي فإنَّك ستصادف دون شك ضمن الصفحات ومقاطع الفيديو المقترحة أناساً يتصرفون بطريقة غريبة يلونون شعرهم ويسرحونه بطريقة غريبة، أو يرتدون ملابس غير ملائمة، أو يفعلون شيئاً من شأنه أن يستوقفك لوهلة لتتساءل باستغراب ما الذي يفعله هذا الشخص؟



ولأنَّ الفضول غريزة إنسانية؛ ربما تضغط زر المتابعة، ثم تسمع في اليوم التالي أصدقاءك يتحدثون عن غرابة هؤلاء الأشخاص فيتابعهم من لم يتابعهم من الزملاء، ثم فجأة يتحول هؤلاء المجانين إلى مشاهير يتقاضون أموالاً مقابل المشاهد التي ينشرونها والتي تثير فضول الجمهور.

لأنَّ الملل غريزة إنسانية أيضاً؛ قد تسأم يوماً بعد يوم من تصرفات المشهور غريبة الأطوار فتضغط زر إلغاء المتابعة، فتهز بذلك عرش المجد الزائف للكائن الذي أصبح مهووساً بالشهرة وأرقام المتابعين، وهذا يدفعه إلى القيام بأشياء أكثر غرابة وربما أكثر خطورة؛ ليستحوذ على اهتمامك ومتابعتك، وهكذا يدخل الشخص دون أن يشعر في حلقة مفرغة من الجري واللهاث وراء معرفة الناس به - حتى لو كان ما يُعرف به غير محمود - وهذا ما يسمى اصطلاحاً "هوس الشهرة"، وهو ما سيكون موضوع مقالنا لهذا اليوم، فما هو هوس الشهرة؟ وكيف يمكن تفسير هوس الشهرة في علم النفس؟

تعريف الهوس:

نسمع كثيراً بمصطلح الهوس أو يقال فلان مهووس، فما هو الهوس؟ وما هو تعريف الهوس؟ هذا ما سنعرفه قبل الدخول في صلب موضوعنا في علم النفس؛ إذ يمكن تعريف الهوس على أنَّه حالة نفسية تجعل الشخص يعاني من أوهام مختلطة ومتكررة تتسبب له بفرط نشاط عالٍ ومستويات متخبطة ومتقلبة من المزاج على مدار اليوم، وحدة يتعامل بها مع الناس تتفاوت شدتها من شخص إلى آخر.

يمكن أن تستمر حالات الهوس لمدة شهور أو أسابيع أو أقل من ذلك، ولكنَّ خطورته الحقيقية تكمن في التغيرات التي يفرضها على الطريقة التي يفكر بها الشخص ويتصرف على أساسها، وهذا يسبب له مشكلات في علاقاته وعمله وحياته الشخصية والعائلية ومحيطه عموماً، وإنَّ الهوس هو واحد من أهم أعراض اضطراب ثنائي القطب وأكثرها شيوعاً، وهو من العوامل المسببة للهلوسة وأنواع أخرى من الاضطرابات الإدراكية.

ما هو هوس الشهرة؟

أما عن هوس الشهرة فيمكن تعريفه على أنَّه الرغبة الملحة لشخص بأن يكون معروفاً بين الآخرين، الأمر الذي يؤثر في طريقة تفكيره وتعاطيه مع الأمور، ومن ثمَّ فإنَّه يؤثر في علاقة الشخص بأسرته ومحيطه وعمله، فجلُّ تفكيره مركز ومنصب على حصد المزيد من الشهرة ومعرفة عدد أكبر من الناس به، وهذا يدفعه إلى تسخير أيَّة علاقة يكون طرفاً فيها لتزيد من شهرته، أو إنشاء علاقات بهدف توسيع هذه الشهرة، أو القيام بتصرفات غريبة ليُحدِثَ بلبلة تلفت أنظار الناس إليه فيعرفونه على أساسها.

إنَّ هوس الشهرة هو هاجس يدفع الإنسان إلى فعل أي شيء لمجرد أن يعرفه الناس ويصبح مشهوراً، ويمكن أن يقدم في سبيل ذلك الكثير من التنازلات والمساومات.

هوس الشهرة في علم النفس:

إنَّ علم النفس المعني والمتخصص بتفسير السلوكات والتصرفات البشرية ورصد أبعادها والأسباب الموجبة لها أَوْلى هوس الشهرة جانباً من اهتمامه، وإنَّ الشهرة بحسب علم النفس حاجة بشرية فطرية طبيعية، فالبشر جميعاً ميالون إلى لفت انتباه الآخرين وتحصيل اهتمامهم بشكل غريزي يلبي فطرتهم الاجتماعية والعاطفية، أما عندما يتحول تركيز المرء كله نحو حصد اهتمام الآخرين وتصدُّر أحاديثهم وأقاويلهم، فهذا ما يدعى "هوس الشهرة".

إنَّ هوس الشهرة في علم النفس هو عقدة نفسية اجتماعية سلوكية تدفع الإنسان إلى احتقار الآخرين والاستعلاء عليهم والتعامل معهم بازدراء على الرغم من أنَّ تركيزه كله مصبوب على استحواذ اهتمامهم، وإنَّ الفئة المصابة بهوس الشهرة تتغذى على ازدرائها الآخرين، وتظن أنَّها ترفع من قدرها حين تحط من أقدارهم، فالشهرة معيار تفاضل حاسم بالنسبة إليهم يقسم الناس إلى طبقتين؛ طبقة المشاهير من أمثالهم التي يتعاملون معها باحترام، وطبقة الناس العاديين الذين لا يستحقون من وجهة نظرهم أي احترام.

هنا يتحول الشخص إلى مريض الشهرة الذي يكوِّن اضطراباً ثنائي القطب يجمع بين مرض الهوس وأعراض الاكتئاب، فالشخص إذا ما فشل في تصدُّر أحاديث الناس واهتماماتهم يسقط في حضيض الهامشية التي تشكل رعباً بالنسبة إليه، فهو يتغذى على رؤية نفسه في صدارة أحاديث الجماهير، وإنَّ هوس الشهرة في علم النفس يحتاج إلى تدخُّل من قِبل طبيب أو معالج نفسي لمساعدة المصاب به على التخلص من هذا المرض والعودة إلى الحالة الطبيعية من التوازن والصحة النفسية.

مما لا بد من قوله أنَّ هوس الشهرة قد تصاعد في الآونة الأخيرة؛ والسبب وراء ذلك هو وجود المنصات الموجهة للجماهير ومواقع التواصل الاجتماعي التي تمنح الشخص المشهور عائدات مادية - ونقصد بالمشهور هنا ذلك الذي يلقى محتواه رواجاً بين أوساط المتابعين - فبعض المنصات مثل "يوتيوب" تمنح صاحب القناة أرباحاً مرتبطة بعدد المشاهدات.

كما أنَّ أصحاب القنوات والمواقع التي تستقطب الكثير من المتابعين تُستخدم بوصفها أداة إعلانية لبعض أصحاب الشركات، فنرى من مشاهير النساء كثيرات يروجن لمواد تجميلية تابعة لشركة ما أو لملبوسات شركة ما، الأمر الذي يجعل من زيادة عدد المتابعين ما يشكل تناسباً طردياً مع زيادة الدخل، وهذا ما يدفع الأشخاص بقوة نحو هوس الشهرة، فيفعلون أي شيء لكسب المزيد من المتابعين.

إقرأ أيضاً: 6 معلومات هامة عن الاضطراب الوجداني ثنائي القطب

أسباب هوس الشهرة:

إنَّ أسباب هوس الشهرة هي أسباب نفسية بحتة ومنها ما يكون مادياً في بعض الأحيان، فكما ذكرنا آنفاً أنَّ المواقع تعطي الشخص الذي يلاقي محتواه متابعة جماهيرية عارمة أرباحاً مادية، الأمر الذي يجعله يبذل الكثير من الجهد ليكتسب المزيد من الشهرة، ومن ثمَّ المزيد من المشاهدات التي تؤدي إلى كسب المزيد من المال، ومن أشهر المواقع التي تمنح أصحاب المشاهدات العالية عوائد مادية نذكر (dailymotion) و(vimeo).

لا ننسى بالتأكيد موقع "يوتيوب" الأكثر شهرة بين الشباب العربي الذي أدى دوراً كبيراً في تفشي هوس الشهرة وأصبح من أهم أسباب هوس الشهرة؛ وذلك بسبب المبالغ التي يدفعها مقابل المشاهدات العالية بصرف النظر عن نوع المحتوى المقدَّم وجودته وملاءمته للمعايير المجتمعية أو الأخلاقية.

أما عن أسباب هوس الشهرة النفسية فمردُّها بشكل أو بآخر كغيرها من سائر الاضطرابات النفسية إلى مرحلة الطفولة، هذه المرحلة التي يتخطاها المرء عمرياً خلال سنوات قليلة، ولكنَّ آثار المواقف والصدمات فيها ترافقه إلى الأبد، وغالباً ما عانى المصابون بهوس الشهرة من النفي والتهميش في طفولتهم وكثيراً ما واجهوا مشاعر انعدام الاهتمام ونقص الحب والعاطفة، الأمر الذي شكَّل لديهم فراغاً عاطفياً وهاجساً لجذب اهتمام الآخرين تحول بعد تذوقهم لطعم الشهرة عمداً أو عن طريق المصادفة إلى هوس الشهرة الذي يمكن تشبيهه بالنار التي تحاول الامتداد وابتلاع كل شيء.

إقرأ أيضاً: الاضطرابات النفسية حسب تصنيف الجمعية الأمريكية للأطباء النفسيين

أضرار هوس الشهرة:

يمكن تقسيم أضرار هوس الشهرة إلى قسمين؛ أضرار هوس الشهرة على الصعيد الشخصي للمشهور، وأضرار هوس الشهرة على المجتمع.

1. أضرار هوس الشهرة على الصعيد الشخصي للمشهور:

إنَّ أبلغ أضرار هوس الشهرة على الصعيد الشخصي للمشهور يكون عبر ربط قيمته لذاته بعدد المتابعين لديه أو عدد الناس الذين يعرفونه فيفقد استحقاقه بقيمة ذاته لمجرد كونه إنساناً، ومن أضرار هوس الشهرة على المشاهير نذكر حالات التوتر والقلق التي يعانون منها بشكل دائم والتي تتصاعد كلما ازدادت حدة المنافسة على شهرتهم بين الجمهور أو كلما تناقصت أعداد جماهيرهم، فضلاً عن فقدانهم لبوصلة التعامل الطبيعي والعلاقات الصحية مع عامة الناس كونهم يتعاملون معهم بازدراء وفوقية.

يمكن أن يتسبب هوس الشهرة بدفع الشخص إلى إلحاق الأذى بغيره من المشاهير المنافسين سواء كان بالقدح والذم والتشهير أم باختلاق الشائعات، وقد تتفاقم الأمور حتى تصل إلى مستوى الأذى الجسدي المتعمد، فالشخص الذي يعاني من هوس الشهرة قد يفعل أي شيء من أجل اجتذاب الأضواء أو الحفاظ على الشهرة الخاصة به وتوسيعها.

قد يدفع هوس الشهرة الإنسان إلى تقديم تنازلات شخصية عديدة من أجل بلوغ المجد الزائف في الشهرة، وقد تكون التنازلات على شكل تقديم محتوى سخيف أو لا أخلاقي يتنافى مع رؤية الشخص أو معايير المجتمع فقط لمجرد جذب المشاهدين، وتصوِّر لنا الدراما كثيراً من الحالات التي تدفع الإناث المهووسات بالشهرة إلى مقايضة أجسادهن ومبادئهن مقابل الأضواء.

2. أضرار هوس الشهرة على المجتمع:

إنَّ أضرار هوس الشهرة على المجتمع نلمسها اليوم جميعاً عندما نضطر إلى مراقبة محتوى المواقع التي تتدفق بشكل إعلاني أمام أبنائنا في أثناء وقت الشاشة المخصص لهم، وهو تماماً ما نعانيه في كل مرة نتصفح مواقع الإنترنت ونغلق الأجهزة محبَطين، فإنَّ المحتوى الهابط أو السخيف أو اللاأخلاقي أو الباذخ أو العنيف أو الاستعراضي الفاضح وما يتركه من آثار سلبية في نفوس المتابعين يُعَدُّ من أضرار هوس الشهرة على المجتمع.

هذا الهوس قد يدفع الأشخاص إلى تقديم محتوى عشوائي وغير مدروس فقط من أجل جذب الجماهير متجاهلين الأثر السلبي والانطباع السيئ الذي سيخلفه في نفوسهم، وهذا يفسر انحراف الأجيال عن الطريق القويم أو عن المحتوى الهادف المفيد الفعال وميل قسم كبير منهم نحو السخافة أو التفاهة التي تنشرها قنوات مصابي هوس الشهرة.

شاهد بالفيديو: سلبيات مواقع التواصل الاجتماعي

في الختام:

إنَّ هوس الشهرة هو واحد من أمراض العصر النفسية، فمنذ مدة ليست بالبعيدة كانت الشهرة منوطة بأشخاص قدموا إضافات ثرية للبشرية وعُرفوا على أساس أفعالهم الحميدة بين الناس فاكتسبوا احترامهم، أما اليوم وبسبب منصات التواصل الاجتماعي فتحولت الهواتف المحمولة إلى منابر تبث محتوياتها بشكل عشوائي ومكثَّف وبتنافسية عالية، الأمر الذي جعل الشهرة هوساً حقيقياً بالنسبة إلى الكثيرين من ضعاف النفوس، ونحن في ختام هذا المقال لا بد لنا أن نوجه تحية شكر وعرفان لكل من نال الشهرة ببصمته الإيجابية فاستحق التفاف الناس حوله، ثم استغل شهرته لإضاءة حياة الآخرين وأفكارهم والقيام بأعمال الخير وتقديم العون لهم.




مقالات مرتبطة