هل هناك ما يسمى بنموّ ما بعد الصدمة؟

تُصادق ظاهرة نمو ما بعد الصدمة على المثل القائل: "الضربة التي لا تقتلك تقويك"، وتتمثل بالتغيُّرات الإيجابية الناتجة عن أحداث صادِمة، فطبقاً لدراسةٍ حديثة، يعيش هذه الحالة الناس الذين مروا بمرحلة قاسية من الجائحة.



ركزَت الدراسة المنشورة في الصحيفة البريطانية للطب النفسي (British Journal of Psychiatry) على استبيان كان قد وُجِّه إلى 385 من أولياء الأمور لأطفال في المملكة المتحدة والبرتغال ممَّن مروا بتحديات غير مسبوقة بسبب الجائحة (على سبيل المثال: تعليم أولادهم في المنزل أو نقصان دخلهم أو إصابة أحبتهم بكوفيد-19). وعندما سُئِل هؤلاء فيما إذا أثَّرَت ظروف جائحة كورونا إيجاباً فيهم، فإنَّ 88% منهم أجابوا بـ "نعم"، مشيرين إلى التحسن الذي ظهر في علاقاتهم الأسرية وفي تقديرهم للحياة والنضوج الروحي وفي اكتشاف فرص جديدة ولاحظ القائمون على الدراسة بأنَّ لدى الذين قد رأوا هذا الجانب المشرق سلامةٌ نفسية أكثر من أولئك الذين لم يروه.

ومع أنَّ هذه الدراسة محدودةٌ بشكل ملحوظ إلا أنَّ نتائجها ليست بجديدة، فطبقاً لـ "كارلا ماري مانلي" (Carla Marie Manly) الحاصلة على شهادة دكتوراه في علم النفس السريري ومؤلِّفة كتاب "الفرح الناتج عن الخوف" (Joy From Fear)، فقد ظهر مصطلح "نمو ما بعد الصدمة" في تسعينيات القرن المنصرم. ومع هذا، تقول "مانلي": "ضمن مجال العلاج النفسي بحد ذاته فقد كانت فكرة استخدام الصدمة لتعزيز النمو الذاتي موجودةً قرابة أكثر من قرن"، وأشارت بأنَّ المفهوم يرجع إلى أقدم من ذلك؛ باختصار، فقد أُعطِي الفرد المتعرِّض للصدمة الدعم اللازم ليفهم التجربة الصادمة وليعيد صياغتها وليستفيد منها ليحسِّن من ذاته ومن علاقاته ونظرته للحياة.

نمو ما بعد الصدمة والجائحة:

تقول عالمة النفس السريري "إيمي داراموس" (Aimee Daramus): إنَّ الجائحة هي خير مثال لهذا النوع من النمو، وتضيف: "تنتج الصدمة غالباً عن تغيُّر غير مرغوب به لإحساس المرء بهويته - كخسارة عمل مُعتبَر أو فقدان عزيز - أو إحساسه بالواقع، فقد غيَّر "كوفيد-19" من واقع معظم الناس في وقت قصير جداً".

وبطبيعة الحال فليس كل من عايش فترة الجائحة قد تعرَّض للصدمة. تقول الدكتورة "مانلي": "لا يستجيب الأفراد جميعاً للأحداث الصادمة بالطريقة نفسها، حيث يمكِن لشخص أن يُصدَم بشدة من حدث مأساوي، بينما لا يتأثر شخص آخر بالحدث نفسه على الإطلاق، ويمكِن لما يصدمك أنت ألَّا يحرك ساكناً عند غيرك وهو أمرٌ يعتمد كثيراً على ماضي المرء وأسلوب حياته وخصاله الشخصية، حيث تعتمد قدرة الشخص على جعل الصدمة تدفع به قدماً على عوامل عديدة، بما فيها نمط الشخصية ومستوى الدعم والصدمات السابقة وعوامل محيطة".

وتقول العاملة الاجتماعية المُعتمَدة "تاتيانا تي ميلينديز" (Tatiana T. Melendez): إنَّ أولئك الذين اختبروا نمو ما بعد الصدمة يميلون لأن يكونوا أكثر تفاؤلاً وإيماناً بالفرص الجديدة وانفتاحاً للتغيير.

إقرأ أيضاً: لماذا يمكن أن يكون نمو ما بعد الصدمة أساس ازدهارك في عام 2021؟

هل يمكِن تعلُّم اكتساب نمو ما بعد الصدمة؟

تؤمن "ميلينديز" بإمكانية تعلُّم نمو ما بعد الصدمة، حتى أولئك ممَّن ليست لديهم الخصال المذكورة سابقاً، حيث تقول: "يتمحور التعافي من الصدمة حول الانتقال الذهني، ويملك العديد من الناس إدراكاً مشوَّهاً؛ مما يمنعهم من رؤية الفرص الموجودة في العالم، كما يمكِن من خلال العلاج أن يتعلم المرء إيجاد قصص جديدة لدعم نمو ما بعد الصدمة، ولكن هذا على فرض أنَّ الناس جميعاً قد حصلوا على نوع معيَّن من العناية التي تتوافق معهم. وتظهر هنا عوامل عدَّة ضرورية للتفريق بين مَن مرَّ بنمو ما بعد الصدمة وبين من لم يفعل، كالحصول على نوعٍ خاصٍ من العناية. "يحدث نمو ما بعد الصدمة بشكلٍ أكثر بكثير لمَن حصلوا على علاج نفسي ذي مستوىً عالٍ"، كما تقول الدكتورة "مانلي".

ومع هذا يوصي الخبراء باستراتيجيات عدَّة لتحفيز نمو ما بعد الصدمة، بادئ ذي بدء: مقاومة تجاهل الصدمة وتزييف السعادة والانغلاق. تقول الدكتورة "مانلي": "يرغب مجتمعنا بتحقيق شفاء فوري، وبهذا يخبروننا عادةً بأنَّنا يجب أن نتخطى الأمور السيئة، ونتجاهل آلامنا وأن نقلِّل من شأن مصاعب الحياة وتحدياتها، ومن الضروري أن نتمهل ونقدِّر الصدمات وتأثيراتها".

ومن ثمَّ بحسب تعبير الدكتور "داراموس" فيمكِنك رؤية نفسك بمثابة "شخصية" في إحدى القصص وأن تقيِّم كيف لهذه الشخصية أن تمضي قدماً خلال الجائحة، حيث تقول: "يمكِن أن تسأل نفسك إن كانت قِيَمك ومبادئك السابقة لا تزال تصلح لك ولطريقة عيشك، ومن ثمَّ ترى ما تريد أن تُحدِثه من تغييرات". كيف لك أن تعرف إن كان هذا مفيداً؟ تقول الدكتورة "مانلي": إنَّ علامات نمو ما بعد الصدمة كثيرةٌ ولكن يمكِن لها أن تتضمن زيادةً في فهم الذات وتحسُّناً في السلامة الذهنية وشعوراً إيجابياً بانتماء الفرد للعالم؛ وبمعنى أدق، "تتضمن علامات نمو ما بعد الصدمة استمتاعاً أكبر بنشاطات الحياة اليومية وشعوراً بالسلام الداخلي وتحسُّناً بنوعية النوم، بالإضافة إلى أكلٍ أكثر صحة التقليل من المظاهر الإدمانية والازدياد في الوعي العاطفي والتحكم على العواطف وتحسُّن العلاقات بالآخرين"، وتضيف بأنَّ أهم ما في نمو ما بعد الصدمة هو القدرة على النظر فيما بعد إلى صدمة الجائحة كسبب من أسباب التغيرات الجيدة في حياتك.

ومع أنَّه من المحتمل لأي شخص أن يختبر نمو ما بعد الصدمة فليس من الضروري لكل شخص أن يفعل. تقول الدكتورة "داراموس": "إن كنتَ تعاني حالياً من اضطراب الكرب التالي للصدمة النفسية (PTSD)، أو كنتَ تعاني من الغضب، أو الألم الجسدي، أو القلق، أو الاكتئاب، أو من مشكلات أخرى في أثناء محاولاتك للوصول لنمو ما بعد الصدمة، فحاوِل أن تتواصل مع شخص مختص ليساعدك على إدارة ردة فعلك للصدمة قبل أن تتابع عملية النمو، حيث يصاحب الصدمة فقدان القدرة على الاختيار في الحياة، ويمكِن للضغط على شخص - حتى على نفسك - كي تنمو بطريقة معيَّنة أن يكون مضراً؛ لأنَّه يعزز ذلك الشعور بفقدان القدرة على الاختيار".

وتضيف الدكتورة "مانلي" بأنَّ العمل على نمو ما بعد الصدمة ما يزال مستمراً (وبشكل مثالي تحت إشراف محترفين متدربين) بدلاً من أن يكون أمراً قطعياً. فيجب على المرء أن يعمل بشكل واعٍ على مواجهة أي من الأمور الناتجة عن الصدمات بمجرد ظهورها، وكلما بذلتَ جهداً ذاتياً أكبر سواءً بقراءة كتاب أم بالكتابة أم التأمل أم الذهاب إلى مجتمعات للدعم أو إلى معالج نفسي، كان نموك أقربَ للكمال.

المصدر




مقالات مرتبطة