هل تنبع رغباتنا من أعماق ذواتنا فعلاً؟

كانت "هانا" طالبة متفوقة في الثانوية، وكانت تخطط لدخول كلية الطب لكي تصبح طبيبة كما كانت تحلم منذ طفولتها، فقد كانت تشاهد المسلسلات الطبية وتعجب بشخصيَّة الطبيب الذي يعالج المرضى ويخفف من أوجاعهم، وقبل الدخول إلى كلية الطب أرادت الذهاب إلى إحدى المستشفيات القريبة من منزلها وقضاء يوم كامل في أحد الأقسام لترى الواقع عن كثب.



كانت تعرف أنَّ المستشفى لن تكون كما تراها في الأفلام والمسلسلات، ولكنَّها لم تتوقع أن يكون الفرق شاسعاً لهذه الدرجة، فقد تفاجأت بأنَّ أغلب الأطباء يعيشون حياة بائسة نوعاً ما؛ إذ تبدو عليهم علامات التعب وقلة النوم والهالات السوداء تحيط بأعينهم، وصحيح أنَّهم يستمتعون بلحظات الإنجاز، ولكنَّها قليلة جداً مقارنة بالضغط النفسي والتوتر اللذين يشكلان السواد الأعظم من حياة الأطباء.

هنا خرجت صديقتنا "هانا" من المستشفى وهي في غاية الإحباط، ثم أرادت تجربة أشياء جديدة تلقى فيها الحماسة والرغبة، فجرَّبت مجالات عدة، ولكنَّها ظلت تجد نفسها في حيرةٍ من أمرها، ماذا ترغب؟ وماذا تريد؟ لم تعد تعرف الإجابة.

ما هو الفرق بين الرغبات والاحتياجات؟

عندما يرغب الإنسان في شيء مثل شراء سيارة جديدة أو منزل جديد فإنَّه يسعى بكل ما لديه من طاقة ونشاط وجهد إلى جمع الثمن المطلوب، وصحيح أنَّه يرغب في هذا المنزل أو تلك السيارة، ولكنَّه قادر بشكل أو بآخر على التخلي عن هذه الرغبات أو تأجيلها؛ ذلك لأنَّها لا تتعلق ببقائه على قيد الحياة أو التخفيف من ألمه أو الحفاظ على صحته، وهذا ما يشكل الفارق بين الرغبة والاحتياج، فالأخير يتمثل برغبة ملحة ومنطقية (من وجهة نظر المراقب الخارجي)، على سبيل المثال الماء يحتاج والطعام احتياج، أما السيارة فهي تندرج ضمن إطار الرغبات أكثر من كونها احتياجاً.

قد يتمتع بعض الأشخاص برغبات فكرية أو ذهنية أو عقلية، مثل معرفة اللغز الذي يدور حول قضية ما، أو حل مسألة معقدة في مادة الرياضيات أو نهاية فيلم أو رواية، ويقول العديد من الباحثين عن هذا النوع من الرغبات إنَّه الأقل تأثراً بالعوامل الخارجية أو ما يقوله الأصدقاء والجيران، ومن ثم فهو الأكثر انتماء إلى الذات من الرغبات الأخرى.

يقول الفيلسوف "توماس أكويناس" الذي عاش في القرن الثالث عشر إنَّ الرغبة في امتلاك الأشياء المادية على اختلافها، أو الرغبة في الوصول إلى المعرفة أو الفهم أو السلطة وما يترتب على هذه الرغبات من سلوكات أو أفعال، هي ما يُعرف على المستوى الشعبي باسم "الإرادة".

هل تنبع رغباتنا من أعماق ذواتنا فعلاً؟

يقول المنظِّر الاجتماعي الفرنسي "رينيه جيرارد" إنَّنا بصفتنا بشراً نعتقد أنَّ رغباتنا تنبع من أعماق ذواتنا"، أو لنكن أكثر دقة "تنبع من صلب شخصيتنا الفريدة" التي لا ننظر إليها بعين الفرادة؛ أي إنَّها لا تتشابه أو تتوافق مع رغبات الآخرين التي قد ننظر إليها على أنَّها رغبات ذات مستوى أقل أو ذات اتجاه مخالف لرغباتنا، وهذا التفكير غالباً ما يكون ناجماً عن نسبة معينة من النرجسية موجودة لدى جميع الناس بنسبة ودرجات متفاوتة.

لكنَّ "جيرارد" أشار إلى أنَّ الرغبة في حقيقة الأمر تكون في معظم الحالات أشياء نفتقر إليها أو حاجات لا نمتلكها، ومن ثم لا يمكن أن تنبع من الذات؛ بل من النقص الموجود في الذات، وهذا النقص لا يمكن أن ندركه إلا عندما نقارن أنفسنا مع الآخرين من حولنا.

إنَّ الرغبة ليست شيئاً نستطيع التحكم به بشكل كامل - كما نعتقد جميعاً - وليست شيئاً يمكننا إنتاجه أو توليده أو صنعه بشكل ذاتي أو فردي؛ بل إنَّها - وفق تعريف جيرارد - نتاج لتفاعل العديد من العناصر والعوامل البيئية والاجتماعية والثقافية، إضافة إلى العناصر الذاتية التي تعد - أي العناصر الذاتية - هامة ولكنَّها ليست كل القضية.

شاهد بالفديو: 6 طرق في التعامل مع الضغط النفسي

الإنسان كائن عظيم لا يعرف ماذا يريد:

يصف "جيرارد" الإنسان بأنَّه كائن لا يعرف ماذا يريد ولا يعلم حقيقة رغباته، فهو يلجأ في معظم الحالات إلى من حوله كي يتخذ قراراته أو يحسم رأيه في قضية ما، وقد يحدث ذلك بشكل مباشر من خلال السؤال أو بشكل غير مباشر من خلال النظر إلى من حوله أو سماع أخبارهم.

في الحقيقة تتشكل الرغبات بشكل بسيط في البداية، لدرجة أنَّها قد تكون على شكل نسخ حرفي لرغبات الآخرين، قد يسميه بعض الناس سرقة وآخرون يسمونه استلهاماً، ودون الغوص في متاهة المصطلحات أو التسميات، دعونا نسأل أنفسنا بعض الأسئلة، هل شعرنا يوماً أنَّنا نحب لوناً معيناً على حساب آخر؟ ولماذا شعرنا في يوم من الأيام أنَّنا نحب أن نصبح أطباء أو مهندسين أو طيارين عندما كنا أطفالاً لا نعرف عن الحياة سوى القليل؟

لربما رغبنا في مهنة الطب حين كان أهلنا يتكلمون عن الطبيب الفلاني، ويمدحون مهارته وإنسانيته وإنقاذه لحياة الناس، أو لما كان يلقاه أحد أفراد العائلة لكونه طبيباً؛ إذ يلقى التأهيل والترحيب والاحترام أينما ذهب.

إقرأ أيضاً: 7 أسئلة هامّة لمعرفة ما تريد أن تُنجزه بحياتك

رغبة التقليد أو المحاكاة:

تحدَّّث "رينيه جيرارد" عن هذه المسألة، وأطلق عليها اسم رغبة التقليد أو المحاكاة، وهي تتضمن جميع ما نستلهمه من الثقافة العامة أو المجتمع الذي نعيش فيه، فإذا رغبنا في وظيفة معينة أو نمط محدد من الحياة، فقد يكون سبب رغبتنا في أنَّها صُممت بغرض الإيقاع بنا، وجعلنا نعمل من أجل أن ندفع المال أو الوقت أو الجهد في سبيل الحصول عليها.

مثال من الحياة الواقعية عن التأثيرات الاجتماعية في رغبات الإنسان:

لكي نعرف ما إذا كانت رغباتنا حقيقية؛ أي نابعة من صلب شخصياتنا أو من عمق احتياجاتنا، فيجب علينا أن نحدد النماذج التي تؤثر بنا وتملي علينا بشكل أو بآخر ما نرغب به، وأهم طريق لذلك هو تحديد الأشخاص الذين يوحون إلينا أو يلونون ما نراه فيما بعد مرغوباً.

أخبرني صديقي "حازم" أنَّه في مرحلة ما من حياته كان يرغب في شراء سيارة أحدث من سيارته، وكان يتحدث عن عملية الشراء هذه بقناعة كاملة لا يشوبها لبس، وكان يسرد دائماً الأسباب الموضوعية والمنطقية التي تجعل من شراء هذه السيارة الحديثة مرغوباً وفي الوقت نفسه منطقياً، فهو يملك المال ويود أن يملك سيارة حديثة تملك مرونة أكثر في الأماكن الجبلية الوعرة التي غالباً ما كان يرتادها في عطلته الصيفية مع العائلة.

لكنَّه عاد إلى أعماق ذاكرته، إلى أول مرة رأى فيها تلك السيارة الحديثة في مقطع فيديو على إحدى منصات وسائل التواصل الاجتماعي؛ إذ كان صاحبها يختبر مرونتها في الطرائق الجبلية الوعرة، وهذا ما أثار في نفسه الرغبة في امتلاك واحدة وتخيُّل نفسه في رحلة مع عائلته وهو يقود السيارة بكل سلاسة.

يؤكد "حازم" أنَّه قبل ذلك الفيديو لم تكن لديه أيَّة نية في شراء سيارة، ولم يكن يعرف بوجود هذا النمط الجديد، لقد كان منغمساً بشدة في عمله بالهندسة المعمارية، وبعد مشاهدته لذلك الفيديو بدأ دماغه بتكديس الأدلة التي تجعل شراء هذه السيارة الحديثة أمراً جيداً ومفيداً وفي المحصلة "مرغوباً".

لقد عرف "حازم" بعدها أنَّ كثيراً من رغباتنا هي صنيعة التأثيرات الاجتماعية والطريقة التي يتم فيها عرض المنتجات وتسويقها، الأمر الذي يفسر إصرار جميع الشركات على التسويق لمنتجاتها بطرائق جديدة ومثيرة للاهتمام والانتباه، ونحن بصفتنا بشراً نستمر في شراء المنتجات ذات التسويق الأفضل على الرغم من معرفتنا بأنَّ طرائق التسويق هي مصائد جذابة لنقودنا، ولكنَّ الرغبة في التقليد أو الرغبة في امتلاك ما يملكه الآخرون متجذرة في الدماغ البشري بطريقة يصعب علينا تغييرها.

إقرأ أيضاً: لماذا فقدت الرغبة في كل شيء؟ وكيف تستعيد تحفيزك؟

كيف يمكن تصنيف العوامل التي تتدخل في رغبات الإنسان؟

قسَّم الخبراء والباحثون العوامل أو النماذج التي تؤثر في رغبات الإنسان إلى نماذج قريبة وأخرى بعيدة:

1. النماذج القريبة:

تضم المحيط القريب من الإنسان، مثل أفراد العائلة والأصدقاء والجيران والأقارب وزملاء العمل، وأي شخص نستطيع التفاعل أو التواصل معه بشكل ملموس على أرض الواقع، وهم في غالبية الأحيان أشخاص قريبون منا على صعيد الرغبات؛ إذ تتقاطع رغباتهم مع رغباتنا، ويمكنك بطريقة أو بأخرى التأثير في رغباتهم، وغالباً ما ينتج عن تأثير النماذج القريبة رغبات منطقية نوعاً ما أو تتوافق مع نمط حياتنا، وليست بعيدة عما هو متوقع.

2. النماذج البعيدة:

تضم المشاهير أو نجوم السينما والفنانين والممثلين والإعلاميين الذين لا يمكننا التواصل معهم على أرض الواقع، وهم غالباً ما يظهرون علينا بحلة مثالية، لذلك قد يؤثرون بنا بطريقة أو بأخرى، وتعد النماذج البعيدة عوامل ذات تأثير أحادي الاتجاه؛ أي إنَّك تتأثر بها ولكنَّك لا تستطيع التأثير فيها، وليس بالضرورة أن تكون النماذج البعيدة موجودة على أرض الواقع، فقد يتأثر الإنسان بإحدى شخصيات الرواية التي يقرؤها.

الرغبة في التقليد وضياع الطاقة:

لأنَّ الرغبة قد تكون في بعض الحالات حباً في التقليد، فقد نرى أنفسنا ننجذب بشكل غير واعٍ إلى ما يريده الآخرون، وهذا قد يؤدي إلى منافسة غير ضرورية بين الأشخاص، الأمر الذي ينعكس على طاقتهم انعكاساً سلبياً؛ وذلك بسبب قلق المنافسة الذي عادةً ما يكون غير مجدٍ من الناحية العملية.

الرغبة في التقليد تجعل الناس يرغبون فيما يريده الآخرون بشكل غير إرادي؛ لذا قد تجد أبناءك يدخلون الجامعة بأفكار معينة، ثم يتخرجون منها بأهداف أخرى مختلفة تماماً؛ إذ إنَّ دماغ الإنسان يقوم بعملية جذب دائمة لرغبات الآخرين وأهدافهم، بدل التركيز على المسؤوليات والمهام والاحتياجات التي تخص الإنسان.

في الختام:

الرغبات هي نتاج لتأثير اجتماعي وثقافي وجيني والعديد من العوامل الأخرى، فإذا وُلدنا في بلد آخر فستكون رغباتنا مختلفة تماماً، وإنَّ فهمنا لهذه النقطة يجعلنا أكثر وعياً بشأن رغباتنا وأكثر تحكماً بها؛ إذ نجعلها تعمل لأجلنا دون أن نعمل لأجلها.




مقالات مرتبطة