هل تسعى إلى تحقيق هدفك؟ ولماذا لا يجب أن تبدأ بالشغف؟

هل الشغف هو الهدف؟ باختصار: لا؛ حيث يقص علينا فيلم ليالي تالاديجا (Talladega Nights) المُنتَج عام 2006 قصة "ريكي بوبي" نجم سباق ناسكار (NASCAR) للسيارات الذي فقد ثروته وزوجته وشهرته، واضطر إلى الكفاح لاستعادة كل شيء.



تُظهر المحاكاة الرياضية الساخرة الممثل الكوميدي ويل فيريل (Will Ferrell) بدور "ريكي بوبي" الذي يسعى إلى نيل رضى والده عديم المسؤولية وقاسي القلب "ريس بوبي" الذي لعب دوره الممثل غاري كول (Gary Cole).

قال ريس بوبي في بداية الفيلم لابنه: "تذكَّر دائماً أنَّك إذا لم تكن الأول، فأنت الأخير"، ليصبح هذا شعار حياة ريكي ويوصله إلى قمة سباق ناسكار؛ وبعد سنوات، يلتقي ريكي مع والده ويواجهه بهذه النصيحة.

بينما كان ريكي يشرح كيف اتبع نصيحة والده، قاطعه ريس قائلاً: "هذا لا معنى له على الإطلاق، فأنت يمكنك أن تكون الثاني أو الثالث أو الرابع أو حتى الخامس"، فيسأله ريكي وهو في حيرةٍ من أمره: "ما الذي تتحدث عنه؟ لقد عشت حياتي كلها بناء على تلك النصيحة"؛ وبينما كان يتساءل عمَّا يجب أن يفعله بعد ذلك، أجابه ريس: "حسناً، هذا هو السؤال الهام، أليس كذلك؟".

وعلى غرار ريكي، يمتلك جميعنا معتقدات توجه حياتنا وتحدد أعمالنا، وقد تأتي هذه المعتقدات التوجيهية من أماكن عديدة، كطريقة نشأتنا ومكانها وما تعلمناه وقرأناه، كما قد يكون بعضها جيداً وبعضها الآخر ضاراً وغير منطقي ويمنعنا من عيش حياتنا بأفضل طريقة ممكنة.

يريدنا المجتمع أن نصدق أنَّ الشغف هو أهم شيءٍ في الحياة، لكنَّه ليس كذلك؛ حيث يدفعنا هذا المعتقد إلى التفكير في أنَّنا يجب أن نعمل فقط في الوظائف التي نحبها، أو أنَّنا لا نستطيع الزواج ما لم يكن موعدنا الأول خيالياً؛ بمعنى آخر: إذا لم يكن الشغف موجوداً منذ البداية، فلا يستحق  الأمر أن نستمر في القيام به، إلَّا أنَّنا ندرك حين نتوقف ونفكر مقدار زيف هذا المعتقد؛ فأنت لن تشعر بالسعادة في كل دقيقة من يوم عملك، وقد تكون بدايات أفضل العلاقات صعبة.

قد تبدو نصيحة "اسعَ إلى تحقيق شغفك" نصيحة جيدة، ولكنَّ النتائج قد تكون خطيرة؛ هذا لأنَّ شغفك قد يقودك في الاتجاه الخاطئ لأشهر وسنوات، وربَّما لعقود حتى.

المشكلة في أن نسعى خلف شغفنا وحده:

يُساء اليوم استخدام كلمة الشغف ويُبالَغ فيه، وقد يكون لها معانٍ كثيرة إلى الحدِّ الذي يجعلها بلا معنى على الإطلاق؛ فإذا سألت الناس عن معنى الشغف، سيقول معظمهم: "إنَّه شيءٌ تحب فعله حقاً" أو "إنَّه شيءٌ تتحمس له"، أو قد يذهب الأمر إلى أسوأ من هذا فيقولون: "إنَّه شيءٌ يجعلك سعيداً"؛ ونتيجةً لذلك نقول أنَّنا شغوفون بالقهوة، ولكنَّ استمتاعنا بتناولها لا يعني أنَّ علينا أن نبدأ بمشروع مقهى؛ كما نقول أنَّنا شغوفون باللياقة البدنية، ولكنَّ استمتاعنا بالتمرينات الرياضية لا يعني أنَّ علينا أن نبدأ مشروع صالة رياضية؛ وقد نقول أنَّنا شغوفون بالجولف، لكنَّ الحقيقة أنَّها هوايتنا المفضلة فقط، ولا يعني هذا أنَّ علينا أن نشارك ببطولة برو جولف (Pro Golf).

نحن هنا نُسيء استخدام كلمة شغف لشرح ما نستمتع بالقيام به في الحياة؛ فماذا تعنيه إذاً كلمة "شغف"؟ يُعرَّف الشغف على أنَّه "العاطفة التي لا يمكن السيطرة عليها"، وهذا مثير للإعجاب، أليس كذلك؟ إذا أردت استبدال كلمة "شغف" في المحادثة بتعريفها في القاموس، فستبدو غريبة لأنَّها ترد في القاموس بمعنى "اتباع مشاعرك التي يمكنك بالكاد السيطرة عليها"، وتكون هذه نصيحة فظيعة لشخص يبحث عن عمل، وتبدو بطاقات التخرج والخُطب التي تقول: "لا تفعل شيئاً ما لم يكن لديك تجاهه مشاعر لا يمكن السيطرة عليها" أقل عمقاً.

لنجعل الأمر مضحكاً أكثر، سنورد لهذه الغاية بعض العبارات والنصائح الشائعة التي نسمعها عن العاطفة:

  • "جد شغفك واتبعه".
  • "لا تفعل أي شيء ما لم تكن شغوفاً به".
  • "حوِّل شغفك إلى مصدر رزق".

تبدو كل هذه المقولات جيدة جداً، لكنَّها ستتحول إلى نصائح فظيعة عندما تُستبدَل كلمة شغف بتعريفها الوارد في القاموس:

  • "اعثر على عاطفتك التي يمكنك بالكاد السيطرة عليها واتبعها".
  • "لا تفعل أي شيء ما لم يكن لديك تجاهه عاطفة لا يمكنك السيطرة عليها".
  • "حوِّل العاطفة التي يمكنك بالكاد السيطرة عليها إلى مصدر رزق لك".

لن تُكتب هذه الاقتباسات المُنقَّحة على الملصقات المُلهمة أو بطاقات المعايدة بعد ذلك، فهي تبدو سخيفة لأنَّها سخيفة بالفعل.

شاهد بالفيديو: اقتباسات مُلهمة من رائد التنمية البشرية جيم رون

"اتبع شغفك" = نصيحة رهيبة:

يقول هاري بريجز (Harry Briggs)، أحد أكبر المستثمرين: "إذا أردت متابعة البحث عمَّا تستمع به فقط، فقد يكون هذا مؤشراً للكسل لا مؤشراً لشغف حقيقي"، ويوافقه المستثمر الملياردير ونجم برنامج "شارك تانك" (Shark Tank) مارك كوبان (Mark Cuban) ذلك بقوله: "اتبع شفغكَ، هي بالتأكيد النصيحة الأسوأ التي يمكن أن تقدمها أو تنالها".

إذا بدأت شيئاً ما بشغف، فقد لا تختبر الإنجاز الحقيقي أبداً، وينتهي بك الأمر بوضع سلمك على الجدار الخاطئ؛ لكنَّك تشعر بمعنى الإنجاز الحقيقي إذا وضعت شغفك في سياق ما تجيد القيام به، ويمكنك هكذا أن تستخدم هدفك لمساعدة الآخرين.

الأمر سيان، فكما لا يمكنك البدء بشيءٍ بشغف، كذلك لا يمكنك الاعتماد على الشغف أيضاً؛ فالشغف كالنار تماماً، يمكنه أن يغذي التغيير الإيجابي أو يدمر الشخص والناس من حوله.

رغم أنَّ العلماء في زمن جاليلو (Galileo) كانوا شغوفين بفكرة أنَّ العالم كان مُسطحاً، إلَّا أنَّهم كانوا مخطئين؛ وكان أدولف هتلر (Adolf Hitler) شغوفاً بفكرة تفوق أبناء عرقه، إلَّا أنَّه كان مخطئاً أيضاً؛ وكان بناة سفينة تيتانيك شغوفين بفكرة أنَّ سفينتهم غير قابلة للغرق، لكنَّهم كانوا مخطئين كذلك.

لنفكر في السؤال الذي طرحه الباحثون على الطلاب في جامعة ستانفورد في عام 2018: "هل الشغف شعورٌ ثابت أم أنَّه ينمو بمرور الوقت؟".

لقد اعتمد الباحثون في هذا البحث على دراسة مجموعتين من الناس؛ اعتقدت المجموعة الأولى أنَّنا نُولَد ومعنا شغف كبير لا يتغير، أمَّا المجموعة الثانية فقد اعتقدت أنَّ الشغف ينمو بمرور الوقت.

كانت المجموعة الأولى التي اعتقدت أنَّ الشغف لا يتغير أكثر عرضة إلى الاستسلام حين تسوء الأمور؛ ذلك لأنَّ في اعتقادهم أنَّ القيام بأمر أنت شغوف به سيكون أسهل، حيث ينطوي اعتقادهم على أنَّه إذا لم يكن الأمر سهلاً، فهو على الأرجح لا يمثل شغفهم؛ أمَّا المجموعة الثانية التي اعتقدت أنَّ الشغف ينمو مع مرور الوقت، فقد كان احتمال تخطيها للنكسات وخيبات الأمل وتحقيق أهدافها كبيراً، وخَلص الباحثون إلى أنَّ "حث الناس على العثور على شغفهم قد يدفعهم إلى وضع كل بيضهم في سلة واحدة، ولكنَّهم يُسقِطون تلك السلة عندما يصبح حملها أصعب".

بمعنى آخر: إنَّ بناء حياتك حول الشغف وحده يُعدُّ أمراً خطيراً؛ ذلك لأنَّك ستستمر بالقفز من تجربة إلى أخرى ومن إثارة إلى أخرى للبحث عمَّا يثير شغفك؛ وعندما تجد أخيراً ما أنت شغوف به وتتلاشى المشاعر الغامضة، فستمضي قُدماً للبحث عن إثارة جديدة فحسب.

لا يُعدُّ الشغف شيئاً مشوقاً ولا هواية، بل إنَّه الشيء الذي يسحبك ويُلهمك عندما تحدده بطريقة صحيحة وتمنحه الوقت الكافي للنمو؛ كما أنَّه يدفعك نحو الأداء الأفضل والنمو الأسرع والعيش لفترة أطول؛ فالشغف ليس هدفاً بحد ذاته، لكنَّه قد يصبح المنصة التي يمكنك استخدام هدفك من خلالها.

إقرأ أيضاً: كيف تحوّل شغفك إلى طاقة إيجابية؟

ينمو الشغف بمرور الوقت:

لا يمكنك في بحثك لاكتشاف الخطوة التالية أن تبدأ بشغف؛ ذلك لأنَّ الشغف ببساطة ينمو معك؛ لذلك لا يبدأ الناجحون بشغف، بل يبدؤون بالبحث عن ذواتهم الحقيقية وعمَّن يمكنهم تقديم العون له.

أمسى والت ديزني (Walt Diseny) شغوفاً بترفيه الأطفال في كل مكان، ولكنَّه لم يبدأ من هنا؛ كان والت ديزني مبدعاً بالفطرة عندما كان شاباً، ورغم اهتمامه بالرسم، إلَّا أنَّه كان بحاجة إلى تنمية مهاراته في التصوير والأعمال التجارية، وقد استغرق تنمية تلك المهارات والتفكير في "ميكي ماوس" الفريد خمس سنوات.

لقد نما شغفه الحقيقي مع نمو مهاراته، واستطاع من هنا تطوير رؤية ديزني لاند (Disneyland)؛ وقد بدأت تلك الرؤية في الثلاثينات، لكنَّه لم يشتري العقار حتى عام 1953؛ ولم يكن الشغف وحده هو ما دفعه إلى إنشاء ديزني لاند، بل كان الشغف الذي نما في السياق الذي يخدم الهدف هو ما حوَّل حلم شاب إلى حدث ضج به العالم.

ينمو الشغف معك، ويتطور بتطور مهاراتك وتحسين قدراتك في العمل؛ وكلما حسَّنت قدراتك، ازدادت قدرتك على مساعدة مزيد من الناس؛ وكلما كان عدد الأشخاص الذين تساعدهم في تجربة التحوُّل أكبر، أصبحتَ أكثر شغفاً بعملك.

جلس مايك رو (Mike Rowe) في برنامجه أعمال قذرة (Dirty Jobs) مع منظف خزانات صرف صحي ناجح جداً، وكان الرجل يكسب الملايين من فعل ما لا يمكن لمعظمنا فعله أبداً؛ فقال الرجل: "نظرت حولي لأرى أين يتجه الجميع، ثم سلكت الطريق المُعاكس، وأصبحت جيداً في عملي، وبدأت بعدها الازدهار، وأدركت في أحد الأيام أنَّني كنت شغوفاً بنفايات الآخرين".

بمعنى آخر، قد لا يكون الشغف متواجداً منذ البداية، لكنَّه سيأتي مع مرور الوقت ومع بذل الجهد وتطوير المهارة.

تحديد شغفك الجاذب:

 يبدأ شغفك باجتذابك عندما يصبح مركز اهتمام الآخرين، فيصبح أكثر من مجرد هواية، ويختلف عن مجرد كونه عامل تسلية لأنَّه يسحبك من سريرك ويلهمك في الليل ويتحداك لفعل شيءٍ يتجاوز قدراتك؛ فهذا "الشغف الجاذب" هو ما يحفزك ويحافظ على قوة الزخم لديك ويمنحك الوضوح عندما تكون في أمس الحاجة إليه.

إذاً، كيف تجد شغفك الجاذب ومن ثم تستخدمه كوقود لإذكاء نار هدفك؟ لدينا هنا أربعة أسئلة لاكتشاف ماهية لعبة الشغف الجاذب:

1. ما هي المشكلة التي لديك شغف لحلها؟

نجيد جميعاً حل المشكلات، وسواء كنت نادلاً أم ناشر كتب أم أستاذاً جامعياً أم أحد الوالدين في المنزل، فأنت تحل المشكلات، ويأتي الشغف هنا من رؤية تأثير حل المشكلات في الآخرين؛ ولكن انتبه إلى نوعية المشكلات التي لديك شغف لحلها؛ هل هي مشكلات صغيرة ومُحددة أم كبيرة ومُعقدة؟ هل هي مشكلات محلية أم دولية؟

كلما ازداد الوضوح المتعلق بالمشكلات التي تستمع بحلها، ازداد الشغف الذي ستشعر به عند مساعدة الآخرين.

2. ما هي التجربة الأكثر إنجازاً التي سبق وأن أديتها؟

فكر في وقت شعرت فيه بالرضا الشديد عن مساعدة قدَّمتها للآخرين؛ ماذا كنت تفعل؟ وما الذي كنت تساعدهم به؟ وما هي التجربة التي جعلتك تشعر بالفرح؟ كلما تمعنت أكثر فيما يرضيك، أصبحت أكثر شغفاً وتحفيزاً.

3. هل أنت على استعداد للتضحية من أجل شغفك؟

  يكمن الاختبار الأفضل للشغف في تحديد ما ستتخلى عنه لأجله، إذ يناديك الشغف العظيم للصعود إلى الأعلى، ويلهمك للقيام بشيء أعظم في الحياة، شيء يصبح الإرث الذي تشتهر بسببه؛ وفي حال لم تكن على استعداد للتضحية بالوقت أو الموارد أو الشهرة لأجله، فقد يكون شغفك في الواقع مجرد هواية.

إقرأ أيضاً: العزيمة: ما هي؟ وكيف تتحلى بها من أجل حياة ناجحة؟

4. هل يتعلق شغفك بمن أنت وما تحبه أم باستخدام ما لديك لمساعدة الآخرين؟

يمتاز الشغف المتمركز حول الذات بأنَّه قصير العمر، بينما يمتاز الشغف الذي يركز على الآخرين بالاستمرار مدى الحياة؛ فكلما ركزت شغفك على مساعدة الآخرين، حققت إنجازاً أكبر وأصبحت أكثر شغفاً بذلك؛ حيث يسير الإنجاز والشغف معاً جنباً إلى جنب.

نعم، إنَّ الشركات الكبرى والقادة العظماء متحمسون، إلَّا أنَّ ما يبنونه ليس السبب في جعلهم ينطلقون، بل الآخرين الذين يساعدونهم والعالم الذي يغيرونه؛ فهم شغوفون باستخدام ما لديهم لمساعدة الآخرين.

 

المصدر                                                                  




مقالات مرتبطة