نماذج التفكير الاستراتيجي

عندما يحين وقت التخطيط الاستراتيجي، قد يكون من الصعب معرفة أيّ منهجيّةٍ تختارها لمنظمتك. فمنذ نشره في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، جرى تطوير مئات المنهجيات والأطر الاستراتيجية واستخدامها من قِبَلِ المنظمات من جميع الأنواع والأحجام؛ وذلك على وعد بأن تكون وصفة للنجاح الاستراتيجي للمؤسسات والمنظمات. يعد اختيار إطار للتفكير الاستراتيجي أمراً هاماً، لكنَّ أهميته لا تقارن بالعمل الذي ينطوي عليه تنفيذ الاستراتيجية، وهو أحد أكبر التحديات التي تواجهها المؤسسات. لذا لا تبدأ عملية التخطيط دون فهمٍ جيّدٍ للأداء الحالي للمؤسسة، ومعرفة قدراتها وإمكاناتها وفرص نموها. وغياب هذه الخطوة الحاسمة قد يجعل كلّ جهود التخطيط الاستراتيجي هباءاً منثوراً؛ فقد تعيش العديد من المنظمات في أثناء عملية التخطيط حماسةً شديدة، بيد أنَّها قد تندثر ويختفي ذلك النشاط والطاقة ما إن توضع الخطة.



وبصفتك قائداً، يجب أن يُدرك القادة أنَّ هذه المرحلة بحاجةٍ إلى الانضباط من أجل إدارة التغيير وتنفيذه؛ فلا يُتوقّع من المنظمة تغيير الطريقة التي عملت بها دائماً دونَ متابعةٍ دقيقةٍ وتواصل منتظم من قِبلِ القادة.

وهنا الحديث عن عاملِ الأساس في نجاح التخطيط الاستراتيجي: وهو التفكير الاستراتيجي؛ حيث يعدّ أمراً بالغَ الأهميّة لجميع المنظمات وخاصّةً عند تنفيذ خططها الاستراتيجية. الغريب في الأمر أنَّه بالكاد يعدّ مفهوماً منهجياً، ونادراً ما يتمّ الاعتراف به؛ وللاعتراف به وفهمه، يجري تشجيع الناس على إنشاء نماذج له بغية تسهيل فهمه أولاً، ولخدمة غاياتٍ وأغراضٍ تسويقه ثانياً - مثلما جرى مع الكثير من المفاهيم والتصوّرات الإدارية حين تمت نمذجتها.

يرى الكثير من المفكرين أنَّ التفكير الاستراتيجي كمفهوم لا يمكن صياغته بشكلٍ كافٍ الآن، وذلك لأنَّه بمجرّد أن يتحوّل إلى نموذجٍ جامد سيفقد جوهره وعناصر خصوصيته وهي التعقيد والمفارقة والبداهة. مع ذلك؛ فإنَّنا نسعى إلى وضع إطارٍ عام للتعريف به واستعراض أبرز النماذج للتفكير الاستراتيجي واقتراح نموذج يجمع بينها؛ فتحاً لآفاق الباحثين وتشجيعاً على المزيد من التحفيز وبذل الجهود في هذا الاطار.

على مدار الخمسة وعشرين عاماً الماضية، حدّدت الدراسات افتقاد كبار القادة للتفكير الاستراتيجي كعنصرٍ أساسيٍّ في الأداء التنظيمي وفي مهاراتهم الأساسية. ويعتبر التفكير الاستراتيجي بمثابة نهجٍ لتحسين عملية صنع القرار في الشركات وتزويدهم بأداة بَنَّاءَة. يقول "بون" (Boon): "لا يوجد اتفاق في الأدبيات على ماهية التفكير الاستراتيجي". استخدم عددٌ من المؤلفين هذا المفهوم بالتبادل مع التخطيط الاستراتيجي أو الإدارة الاستراتيجية. في حين يُعرِّف "أبراهام" التفكير الاستراتيجي في مقاله "Stretching Strategic Thinking" بأنَّه: "عملية إيجاد طرق بديلة للمنافسة وتوفير قيمة للعميل". يمكن أن يكون التفكير الاستراتيجي بمثابة منصة لتصميم نظام عمل المنظمة مستقبلاً وتخطيط توجهاتها.

استخدمت عبارة "التفكير الاستراتيجي" بشكلٍ خاطئٍ مراتٍ عديدة للإشارة إلى "التخطيط الاستراتيجي" أو إلى "الإدارة الاستراتيجية". وفي رأي "مينتسبيرغ" (Mintzberg) التفكير الاستراتيجي هو: "عملية تخليق ذهنيّة قد تخلق مظهراً قوياً للعمل من خلال الإبداع والملاحظة".

يعرف "بون" التفكير الاستراتيجي بأنَّه: "عملية ينظر المديرون من خلالها إلى الأزمات وعملية الإدارة اليومية بشكلٍ كلّيّ ويكتسبون نهجاً مختلفاً تجاه المنظمة وبيئة العمل المتغيرة". في حين يرى "هيراكليوس" (Heracleous) التفكير الاستراتيجي بأنَّه: "عملية متباينة إبداعية تتعلق بالآفاق التي يمكن لقادة المنظمة تشكيلها والوصول إليها".

ولتحقيق ذلك، من الضروري أن يكون القادة أكثر دراية بالعمليات اليومية كي يركزوا على الهدف المتمثّل في استراتيجية العمل المقصودة.

تمّ اقتراح عينات مختلفة في بعض النماذج لتأسيس التفكير الاستراتيجي من قبل مُفكّري الإدارة الاستراتيجية وذلك لنمذجة مفهوم التفكير الاستراتيجي. وقبل استعراض بعض النماذج المطروحة، فلنبدأ "بنموذج بون" لعناصر التفكير الاستراتيجي.

1. نموذج بون (Boon):

يقترح "بون" ما يلي:

يضع "بون" التفكير الاستراتيجي في 3 مستويات مختلفة:

  • المستوى الفردي.
  • المستوى الجماعي أو فريق العمل.
  • المستوى المؤسسي والتنظيمي.

على المستوى الفردي؛ يرى "بون" أنَّ صانعي القرارات الاستراتيجيّة لديهم قدرةٌ على تخيّل الأشياء ورؤيتها على شكل تصورات أكثر بكثير بالمقارنة مع من يفتقرون إلى هذه القدرة. بينما على مستوى الجماعي أو فرق العمل؛ يُعَرِّفُهُ بأنَّه: عدم التجانس والصراع في المجموعة؛ وعلى المستوى التنظيمي فإنَّه يعرّف كمزيجٍ من الثقافة التنظيمية، والهيكل التنظيمي ونظامٍ واضحٍ للمكافآت والتعويضات.

بينما يعتقد "غريتس" (Graetz) في نموذجه أنَّ عناصر التفكير الاستراتيجي موجودة في النصف الأيمن من الدماغ؛ وهي: الإبداع والاستكشاف وخلق بيئة عملٍ مبتكرة. هذه مكونات الاستراتيجية -برأي غريتس- أو بمعنى آخر أدوات التفكير الاستراتيجي. كما يعتقد أنَّ دور التفكير الاستراتيجي هو محاولة الابتكار وتصوّر مستقبل جديد مختلف للمؤسسة، والذي قد يؤدي إلى إعادة تحديد الاستراتيجيات الرئيسة للشركة.

استخدم "هنري مينتسبيرغ" (Mintzberg) استعارة "الرؤية" لوصف تعقيد التفكير الاستراتيجي. ففي رأيه إنَّ معظم الناس يعتقدون أنَّ الرؤية هي: "التطلع قدماً" وهذا صحيح، لكن لا يمكننا التطلّع إلى الأمام ما لم تكن لدينا القدرة على النظر إلى الوراء، ذلك لأنَّ مستقبل المؤسسة يُبْنَى على الماضي ويستفيد منه.

تدّعي مجموعةٌ أخرى أنَّ التفكير الاستراتيجي هو "الإفراط في المشاهدة" نفسه، بمعنى أنَّه تفكير تحليلي. أو يستخدم مصطلح التدقيق الشديد (scrutinizing) بمعنى أدق. والآن يمكننا أن نتطلّع إلى الأمام وننظر إلى الوراء ونُكوّن نظرة عامة ثم نقوم بتدقيق ذلك كله ثم نضيف إليه الجانب الإبداعي الذي يثري الصورة الكلية.

بالمقارنة مع غيرهم، يرى المفكرون الاستراتيجيون الأمور من منظورٍ مختلف. ولإكمال وجهة النظر، يعتقد مينتسبيرغ أنَّ التفكير الاستراتيجي هو مزيجٌ من النظر إلى الوراء والتمحيص والتطلّع إلى الأمام والنظر حولك وصولاً إلى تكوين منظورٍ شامل. وإن جمعنا ذلك كله؛ نجد أنَّ المفكّر الاستراتيجيّ الحقيقيّ هو الشخص الذي يمكنه ربط جميع الرؤى معاً وبناءُ تصوّرٍ لهم في ذهنه.

إقرأ أيضاً: ما هي المهارات الأساسية للقائد الاستراتيجي؟

2. نموذج كوفمان (Kaufman):

لا يرى "كوفمان" (Kaufman) التفكير الاستراتيجي سوى "استجابةً للمشكلات اليومية". حيث يركز التفكير الاستراتيجي في رأيه على خلق مستقبلٍ أفضل من خلال عملية "بناء المستقبل" وكذلك على زيادة أهداف القيمة في المجتمع من خلال الحصول على نتائج مربحة.

يحدد كوفمان ستة عوامل أساسيّة كعوامل نجاح تجذب التفكير الاستراتيجي.

فيما يلي العوامل:

  1. تغيير نماذج التفكير الحالية، والتي تنطلق من مناطق الراحة والأمان وتوسيع حدود التفكير والمجازفة والتخطيط والتنفيذ والتقييم والتحسين المستمر.
  2. التمييز بين الأهداف وطرائق تحقيقها.
  3. ربط القائد بين مستويات التحليل المختلفة "Mega" و"Macro" و"Micro" والانتقال السلس بينها من أجل تخطيط يراعي كافة المستويات.
  4. تحديد "هدف كلّي" وإعادة بناء صورة المستقبل بناءً عليه.
  5. وضع رؤية مناسبة للمؤسسة.
  6. تعريف متطلبات المؤسسة للنجاح على أنَّها فجوات بين النتائج الحالية والنتائج المتوقعة، وليس الهوّة المتصوّرة بين البيانات والعمليات.

3. تطوير نموذج مينتسبيرغ (Mintzberg):

تمّ تطوير منظور مينتسبيرغ (Mintzberg) الفنّي حول التفكير الاستراتيجي إلى نموذج مفاهيمي، وفيه عُرِّفَ التفكير الاستراتيجي باعتباره طريقة محددة للتفكير، بخصائص ملموسة. في هذا النموذج، يتمّ اقتراح 5 عناصر للتفكير الاستراتيجي كما يلي:

فحسبما يوضّح النموذج، فإنَّه رغم كون التفكير الاستراتيجي ينشأ من أشخاص، بيدَ أنَّهم بحاجةٍ إلى بيئةٍ تنظيميةٍ تدعم التفكير الاستراتيجي والحديث.

4. نموذج موريسي:

ابتكر "جورجيل موريسي" نموذجاً لتحليل التفكير الاستراتيجي؛ فقد درس التفكير الاستراتيجي على المستويين الفردي والتنظيمي. فأوضح أنَّ التفكير الاستراتيجي الفردي يستخدم الحُكم التجريبي لتوضيح الطريق المناسب إلى مستقبل المنظمة. بينما على المستوى التنظيمي، فإنَّ تنسيق العقول الإبداعيّة حول وجهة نظرٍ مشتركة تجعل المنظمة قادرة على ابتكار وترتيب إجراءات تسعى في النهاية إلى إرضاء جميع المستفيدين.

التفكير الاستراتيجي يُوحِّدُ قيم الأفراد والمؤسسات ويوسع الآفاق الاستراتيجية للمنظمة، ويستند على الأدلة المادية بشكلٍ كبير، مستعيضاً بذلك عن تحليل البيانات. واستناداً إلى بعض العناصر مثل الوعي بالصناعة والمعارضين والنقد الذاتي، نجد أنَّ التفكير الاستراتيجي يشتمل على الوعي بالمشكلة الرئيسة للشركة، والتعلّم استناداً إلى التجارب السابقة.

5. النموذج المطوّر:

وبعد أن استعرضنا مجموعةً من نماذج التفكير الاستراتيجي؛ فإنَّنا نشرح بشيءٍ من الإسهاب النموذج المتطور للتفكير الاستراتيجي. يمكن للمرء أن يستنتج أنَّ العناصر الأساسية للتفكير الاستراتيجي هي: التفكير في الأنظمة والإبداع والتفكير الإبداعي ووجود رؤية للمنظمة، وأخيراً خلق المعرفة العملية. نحن هنا بصدد مناقشة آثار هذه العناصر على التفكير الاستراتيجي بشيءٍ من التفصيل:

5. 1. التفكير بالأنظمة:

هو واحدٌ من الأجزاء المهمّة من التفكير الاستراتيجي. فالنظام في مجمله يحتوي على خاصيتين على الأقل: أولاً، يؤثر كلّ جزءٍ من أجزائه على آلية أو خصائص النظام بأكمله؛ وثانياً أنَّه لا يمكن لأيٍّ من هذه الأجزاء التأثير بشكلٍ مستقلٍّ على النظام بأكمله فهي مكمّلةٌ ومتفاعلةُ بعضها مع بعض. في التفكير الاستراتيجي، يساعد التفكير بالأنظمة على تشكيل وجهة نظرٍ مختلفة ومتمايزة عن المنظمة. والتفكير المنهجيّ هو وسيلةٌ لرؤية الصورة الكليّة: بمعنى آخر، يخلق التفكير المرتبط بالنظام إطاراً مفاهيمياً لتمثيل نماذج أوضح، ويوضح كيف يتمّ تغييرها بشكلٍ فعّال.

يستند التفكير الاستراتيجي على وجهة رؤية الأنظمة وتفاعلها. ويجب أن يفكّر المفكر الاستراتيجي في نموذج بصورته الكلية دائماً، وفي كيفية ارتباط الأجزاء، ويفهم تفاعلهم وتأثيرهم المتبادل جيداً. ففي المؤسسات؛ لا يمكننا أن ننظر إلى تأثير العمليات بمعزلٍ عن الإدارة المالية أو الحسابات، أو ننظر إلى الشؤون الفنية بمعزل عن العمليات أو الشؤون الإدارية أو القانونية؛ فالمفكر الاستراتيجي يستطيع أن يرى مشكلةً أو فرصةً في جزءٍ من النظام وانعكاس أيٍّ منهما على النظام برمته.

يتطلّب هذا التفكير أن يتجاوز القائد الاهتمام بالشؤون اليومية والانغماس فيها، إلى الانتباه إلى حقيقة أنَّ مختلف القضايا مرتبطةٌ بعضها ببعض، وكيفية التأثير المتبادل فيما بينها، وكيف يؤثر أيَّ حل في أحد الأجزاء التنظيمية على الأجزاء الأخرى. كما يجب أن يَفْهَمَ التعاون الداخلي بين الأجزاء، والذي يتكوّن من الفهم المتبادل للعوامل الداخلية والخارجية. وأن يناقض مدى ملاءمة استراتيجية الشركة التسويقية مع الاستراتيجية التشغيلية للشركة وارتباطها مع الأجزاء الأخرى.

5. 2. الإبداع والتفكير الإبداعي:

يُعدُّ الإبداع مبدأً أساسياً في التفكير الاستراتيجي؛ فالمهارات الإبداعية استنباط عدّة حلولٍ بديلة لمشكلةٍ متطوّرة، وتحديد العلاقات المتداخلة فيما بينها. يعتقد كثير من المفكرين أنَّ التفكير الإبداعي عنصر أساسيّ في تطوير الاستراتيجيات والخطط الفريدة للمؤسسات، إذ جرى التأكيد على أنَّ التفكير الإبداعي يشكّل قيمةً مضافةً في المنظمات، وميزة تضاف إلى مزاياه. ولهذا السبب قد يكون هناك بعض الخلافات بشأن التخطيط الاستراتيجي والتفكير الاستراتيجي في الإدارة الاستراتيجية للمنظمة، ويبدو أنَّ الإبداع جزءٌ لا غنى عنه لكلٍّ منهما. يصحّ هذا حتى وإن لم يكن هنالك تعريفٌ مقبولٌ للتفكير الاستراتيجي، وذلك لأنَّ الإبداع يُعدُّ دائماً عنصراً من عناصره.

كما أوصى أنتوني وآخرون باختيار المخططين الاستراتيجيين وفقاً إلى إبداعاتهم العقلية وتقنيات الإبداع لديهم لتعليم القادة الاستراتيجيين. وجرى تطوير تقنيات مختلفة لتحسين التفكير الإبداعي. وغالباً ما يؤكّد تعليم الإبداع على أهميّة الإنتاج والاهتمام بالحلول المختلفة التي تميل إلى زيادة جودة حلّنا النهائي.

يتكون الإبداع من مزيجٍ من عناصر ثلاث: التمّكنْ من التخصص في مجالٍ معيّن وتوظيف مهارات التفكير الإبداعي والتحفيز.

والسؤال هنا: هل يمكن للقادة التأثير على هذه المكونات؟ الإجابة هي نعم؛ فالقادة والمفكرون الاستراتيجيون يكون لهم تأثيرٌ إيجابيٌّ أو سلبيٌّ من خلال خلق بيئة عملٍ مناسبة من حيث التحفيز أو التثبيط، وتشجيع الإبداع واحتضان المبدعين. يجب على المفكّر الاستراتيجي البحث عن وجهات نظر جديدة لخلق ميزة تنافسية؛ فواحدٌ من شروط الإبداع هو بناء أرضيّةِ تفاهم مشتركة بين الجميع، إضافةً إلى القدرة على الربط بين الموضوعات والمشكلات التي تبدو غير ذات صلة وإيجاد الروابط الخفيّة بينها.

وفي المقابل؛ يؤكّد المفكّر "بيتر سنجي" (Peter senge) أنَّ النماذج الذهنية (الخرائط الذهنية) هي تلك الفرضيات الذهنية العميقة التي تؤثر على نظرتنا إلى العالم؛ والتي غالباً ما تكون نماذج عقلية غير مرئية تقلّل بشكلٍ كبيرٍ من مستوى الوعي لدينا. فالنماذج الذهنيّة لا تؤثر على أداء الأفراد فحسب؛ بل وعلى السلوك التنظيمي للموظفين بصورةٍ كبيرة - خاصة في مرحلة التنفيذ. ففيها تواجه وجهات النظر الجديدة الفشل، ذلك لأنَّها تتعارض والنماذج الذهنيّة والتخيّلات الداخليّة التي تحدّ من قدراتنا وتمنعنا من التفكير خارجها.

وفي عالَمٍ تنافسيٍّ سريعِ التغيّر من الأعمال والاستراتيجية، لا يكون الإبداع ظاهرةً عشوائية، بل بمنزلة ضروراتٍ فيما يتعلّق بالبقاء في السوق وإيجاد الميزة التنافسية. حيث تبحث العديد من المنظمات عن طرق جديدة لإيجاد وجهات نظرٍ مبتكرة حول المنتجات والسوق والتحديات والمعارضين. ولفهم طريقة التفكير هذه، من الضروري الجمع بين الإبداع وعملية التفكير الاستراتيجي الذي يسمح للموظفين والمنظمات الاستفادة بشكلٍ أكثر فاعلية والاستفادة من قوّة التفكير بأفضل طريقة.

إقرأ أيضاً: 6 عقبات تقف في طريق التفكير الإبداعي

5. 3. وجود رؤية:

هو الجزء الثالث من التفكير الاستراتيجي. ففيما يتعلّق بأهميّة "الرؤية"، يكفي القول أنَّ أحدث النظريات في مجال القيادة تؤكد على أنَّ أهمّ أدوار القادة هي وضع رؤية للمؤسسة، واختيار محتواها بناءً على احتياجات المؤسسة والموظفين والحاجة إلى إلهامهم وتحفيزهم لمتابعة تنفيذها.

تُعَرَّفُ رؤية المنظمة بأنَّها المسار والتوجه الذي يُساعد المنظمة على زيادة نجاحها. مفهوم "الرؤية" يتأكد في المنظمات المتعلمّة -فالرؤية فيها تُعدُّ دليل إجراءات المؤسسة- كما أنَّ مفهوم الرؤية يحفز الموظفين ويضمن أنَّ العمليات التنظيمية تتوافق مع وجهة نظرها. لذا تعتبر "الرؤية" هدفاً مشتركاً يجعل الموظفين متّحدين (واتكينز ومارسك، 1992).

تعني "الرؤية" -فيما تعني- وجود المعرفة وطريقة التفكير المستندة إلى الخيال وتصور المستقبل. وفي تعريفات أخرى، تمّت الإشارة إلى "الرؤية" على النحو التالي:

  • الرؤية (1): الطريقة المثالية لتحديد الأهداف والغايات التنظيمية.
  • الرؤية (2): خطة لتحقيق الأهداف المستقبلية للمنظمة.
  • الرؤية (3): خيال المستقبل الذي يتكوّن من قيم وأهداف المنظمة.
  • الرؤية (4): التعبير الواضح عن المصير الذي يجب أن تتحرّك المنظمة تجاهه.

إنها تُعبِّرُ عن مستقبلٍ أكثر نجاحاً وملائمةً من الوضع الحالي بطرائق كثيرة. يعتقد البعض أنَّ هذه الرؤية قد جرى إنشاؤها، بينما يعتقد الآخرون أنَّها موجودةٌ ولكن يجب على القادة اكتشافها. كما يجب أن يكون لدى المفكّر الاستراتيجي فهمٌ واضحٌ للهدف النهائي، ورؤيةٌ إيجابيّةٌ وواقعيّةٌ لمستقبل المنظمة، بحيث توجهها جيداً، وتمهّد الطريق للتركيز على جميع الأنشطة داخلها.

يؤمن "مينتسبيرغ" (Mintzberg) أنَّ المفكر الاستراتيجيّ المؤهّل هو الشخص الذي يمكنه أن يربط جميع وجهات النظر ويصور تضافرهم في ذهنه. يجب أن تكون النظرة الجيدة هي مزيجٌ من وجهات نظر مختلفة إلى تصوّر المستقبل وتصوره بطريقةٍ مواتية.

إقرأ أيضاً: كيف أنجح في وضع رؤية ملهمة واستراتيجية للفريق؟

5. 4. خلق المعرفة العملية:

هو العنصر الرابع في التفكير الاستراتيجي. التعلّم عند "بيتر سينج" (Senge): عبارة عن عمليّة يتمّ من خلالها تطوير قدرات أعضاء الفريق بطريقةٍ تحقق النتائج كما يحبّ الجميع رؤيتها. التعلّم عمليّةٌ مستمرّةٌ تُستَخدَم بشكلٍ استراتيجيّ وتنمو باستمرار. يعتقد ريفانس (Revans) -وهو مؤسس المعرفة العملية- أنَّه ونظراً لأنَّ مفهوم المعرفة العملية بسيط، فلا يمكن للمرء الحصول على تعريفٍ متفرّدٍ معيّن له. فوصف المعرفة العملية على النحو التالي: عملية التعلّم المستمرّة، والتفكير والدعم من قبل المراكز الأكاديمية.

وبصورةٍ مماثلة، يعرف (Inglis) المعرفة العملية بأنَّها: "عملية تأمّلٍ مشتركة مع الفريق لإيجاد حلول والعمل فيما بعد لتطوير الأعضاء والمهارات التنظيمية".

وفي رأي تروست (Torset 2001)، يجب أن يكون لدى أعضاء التفكير الاستراتيجي ميلٌ ومعارف وقدرة على التفكير بطريقةٍ استراتيجية، وهذه العوامل تعتمد على الجوانب النفسية والتنظيمية والاستراتيجية الفردية للأعضاء.

يجب أن تشمل خطة "خلق المعرفة العملية" جميع المستويات التنظيمية. ونتيجةً لذلك فإنَّ المنظمة تحقّق النتائج التالية: استراتيجيات نمو جديدة، وزيادة مستوى التفكير الاستراتيجي، وقيادة التغيير، وتشكيل فريق العمل في الشركة، تحقيق الابتكار الاستراتيجي، وتطوير رؤية ثاقبة على مستوى الإدارة التنفيذية، وأخيراً كيفية تطوير وتعزيز إبداع الموظفين.

تقدّم المعرفة العمليّة حلولاً للمشكلة من خلال: طرح سؤالٍ واضحٍ حول المشاكل وتحديدها وتحديد الاستراتيجيات والإجراءات لحلّها. وأحد الجوانب الهامة لهذا التعلّم هو التعلّم من العميل. تُعدُّ دراسة السوق لمعرفة سلوك العميل وإيلاء الاهتمام لشكواه والفهم العميق لرغباته؛ إحدى أهمّ القيم التي تشكّلها خلق المعرفة العمليّة. ومع مرور الوقت، تزيد نتائج هذه الدراسات من التركيز على الاستراتيجيات وتخلق مفاهيم ناجحة جديدة تخدم العملاء والموردين والمعارضين.

كما تعدُّ التجربة أداةً مهمّةً للتعلّم من بيئة الأعمال. وللقيام بذلك، يجب على كلّ منظمّةٍ القيام بالإجراءات اللازمة للتخطيط لأعمال بسيطة منخفضة المخاطر وتنفيذها. وتدريجياً، فإنَّه يجعل الفهم الكامل لعوامل العمل ويتمّ تشكيل آثارها في عقل الاستراتيجيين. يعتبر هذا الفهم أحد الأسس الهامة في تكوين التفكير الاستراتيجي (هامل، 1994). ويعدد هاندفوردالسو خصائص التفكير الاستراتيجي على النحو التالي: تعلم القدرة، بشكلٍ عكسيٍّ نحو العمل والتطبيق العمليّ (هاندفورد، 1995).

اقترح كابلان ونورتون (1996) أيضاً أربعة عوامل أساسية لتنفيذ الاستراتيجية بنجاح، أحدها "التغذية الراجعة" ودورها في التعلّم الاستراتيجي. وقد استخدم "كون ومارسيك" نموذجاً للتعلّم العمليّ لتسريع الابتكار الاستراتيجي في المنظمات المتقدمة. وفيه ينْصَبّ التركيز على تطوير مجموعةٍ من القدرات المعرفية للابتكار الاستراتيجي، والتي تشمل: التحكم عن بعد والتفكير الاستراتيجي والتفكير النقدي والتفكير المتباين والقدرات المعرفية وتوجيه التعلّم المرن.

وفيما يتعلّق بالابتكار الاستراتيجي، يتألّف مشروع التعلّم عن العمل من مرحلتين: الأولى هي وضع استراتيجية باستخدام التعلّم العملي، والمرحلة الثانية هي استخدام تعلّم العمل لتنفيذ الاستراتيجية. يُدَرِّسُ التعلّم في أثناء العمل القدرات الاستراتيجية للمؤسسة على المستويات الفردية والجماعية والتنظيمية (كون ومرسيك، 2005).

مازال العلماء والمفكرين يحاولون فهم ووضع نمذجةٍ واضحة، ورؤيةٍ جديدة للتفكير الاستراتيجي. وقد أظهرت الأبحاث أنَّه قد جرى الاهتمام بالتفكير الاستراتيجي من زوايا مختلفة. فجرى استخدام التفكير الاستراتيجي في بعض المجالات مثل خلق القيمة والإبداع والابتكار، وإنشاء ميزة تنافسية واكتشاف الاحتياجات التي لم يتمّ الوفاء بها. والنموذج الممثّل في هذا الاستطلاع هو النموذج المطوَّر لنموذج بون، والذي يشمل هذه العناصر الأربعة: تفكير النظام، والإبداع، وتعلّم المشاهدة والتعلّم. هذه هي أربعة عناصر رئيسة للتفكير الاستراتيجي.

أظهر فحص آراء "بيتر سينج" (1990) و"هاندفورد" (1995) و"كون ومارسيك" (2005) أنَّ تطوير التفكير الاستراتيجي يعتمد على تطوير قدرة التعلّم العملي لأعضاء المنظمة. وبناءً على هذا المسح، يمكن للمرء أن يقدّم التعلّم العملي كعنصرٍ رابعٍ في نموذج التفكير الاستراتيجي. الهدف من تمثيل هذا النموذج هو تزويد الدراسات المستقبلية بالخلفيات المطلوبة لتحقيق نظريّةٍ شاملةٍ في مجال التفكير الاستراتيجي.




مقالات مرتبطة