نظرية "اضرب مَن يضربك": أسلوب لاسترداد الحق أم منهج تدميري للطفل؟

في وسطٍ يُنظَر فيه إلى العنف على أنَّه "قوة"، وإلى التسامح والذوق والأدب على أنَّها "ضعف"؛ وفي خضم ثقافةٍ تُشجِّع على العنف تحت شعارات "اضرب مَن يضربك"، "خُذ حقَّك بيدك"، "إيَّاك أن تسامح وتضعف"؛ يتولَّد هنا مجموعة من الأسئلة المهمة: "كيف سيواجه الآباء تحدِّي التربية الكبير في ظلِّ هكذا ثقافةٍ مُشوَّشة؟ كيف لهم أن يُربُّوا أولادهم تربيةً متوازنة، بحيث يضمنون خلق إنسانٍ سليمٍ لا يكون عنيفاً أوعدوانياً، ولا يكون ضعيفَ الثقة بنفسه ومهزوزاً؟ كيف لهم أن يقنعوا أولادهم أنَّ الحق لا يُؤخَذ بالعنف، وأنَّ هناك طرائقَ ذكيةً وراقيةً أكثر من أجل استرداد الحق؟ كيف لهم أن يُحافِظوا على فطرة الطفل البريئة الحقيقيَّة من دون تشويهٍ وتشويش؟".



سنخوض سويةً من خلال هذا المقال الغني في أسباب العنف عند الأطفال، وكيف تتصرَّف الأم في حال مجيء طفلها إليها وهو يبكي من ضرب زميله المدرسي له.

فطرة الطفل إيجابيَّة:

يعتقد الكثيرون أنَّ صفات العدوانيَّة والقسوة ناتجةٌ عن التركيب الوراثي والجيني للعائلة، في حين أنَّ هذا الاعتقاد خاطئٌ تماماً، حيث يُولَد الطفل في قمَّة الإيجابية والخير والبراءة، ففطرته تفرض عليه ذلك، لكن ما يكتسبه من أبويه هو ما يُحدِّد شخصيَّته لاحقاً.

أسباب العنف لدى الأطفال:

نلاحظ انتشار العنف بين الأطفال، وباتت مقولة "اضرب مَن يضربك" أكثر نصيحةٍ تدعو إليها معظم الأمهات؛ لكن قبل أن نُناقش إن كانت هذه النصيحة مُجديةً أم لا، دعونا بدايةً ندرس السبب الحقيقي الكامن وراء مظاهر العنف، وما سبب تكوُّن الأطفال العنيفين.

1. غياب لغة الحوار مع الأطفال:

عندما يتبنَّى الآباء أسلوب التربية البدائي، معتقدين أنَّ التربية تتجسَّد في توفير الطعام والملبس للأولاد، إضافةً إلى إلحاقهم بمدرسة الحي، غير واعين أنَّ التربية أسمى وأخطر مَهمَّةٍ على وجه الأرض، وأنَّ اللدونة العصبية التي يتمتَّع بها الدماغ تكون في أوجها عند السنوات الأولى للطفل، بحيث يكون قادراً على استيعاب الكثير من المهارات، والعادات الصحيَّة، والأفكار، واللغات، والقيم، والمشاعر، والمعلومات، والفنون، والرياضات، وغيرها؛ وأنَّ عليهم استثمار هذه المرحلة الحرجة لزرع كلِّ ما هو مفيدٌ ويدعم شخصيَّة طفلهم. من جهةٍ أخرى، لا يكونون مُدركين لأهمية الحوار مع الطفل، ومناقشته في قضايا الخير والشر والقيم والأخلاق، وتبيان أنَّنا مخيَّرون في هذه الحياة، لكنَّ النتائج التي سنحصل عليها ستكون بناءً على اختياراتنا.

إضافةً إلى ذلك، قد يُعانِي الطفل من معاملةٍ عنيفةٍ من قبل أحد والديه، أو أن يكون شاهداً على تعنيف الأب لوالدته، أو غيرها من المشاهد الزوجية غير السليمة؛ إذ من شأن هذا الأمر أن يخلق طفلاً عنيفاً وغير سوي.

إنَّ "التربية بالحريَّة" و"ثقافة التعلُّم من الخطأ" يحتلَّان المرتبة الأولى في أساسيات التربية الناجحة، فواجب الأهل توجيهيٌّ فقط، أي: تبيان الأمر وشرح حسناته وسيئاته، وليس تقييد الطفل وكبح شخصيته والتفكير عنه. على سبيل المثال: يوجد كوبٌ من الماء الساخن ويريد الطفل أن يلمسه، على الأمِّ أن تشرح له مساوئ الأمر وتقول له أنَّه حرُّ التصرُّف. فإن اقتنع، كان هذا جيداً؛ وإن لم يقتنع وجرَّب لمسه وتألَّم قليلاً، فعلى الأم ألَّا تثور وتغضب على الطفل لأنَّه لم يسمع كلامها، ولا أن تركض إليه وتضمَّه إلى صدرها وتُخفِّف عنه؛ لأنَّه سيتعلَّم بذلك أنَّ أمَّه ستكون بقربه عند الخطأ وستساعده؛ بل يجب أن تتعامل وكأنَّ شيئاً لم يحدث، وتقول له عن بُعد: "تحمَّل مسؤولية فعلتك، لقد نصحتك ولم تقتنع، أنا أحبك، ولكن عليك أن تكون مسؤولاً عن تصرُّفاتك"؛ وبذلك تبني شخصاً متوازناً وقادراً على تحمُّل نتائج أفعاله، ويلجأ إلى التفكير قبل اتخاذ أيِّ خطوةٍ في حياته.

أمَّا تربية الإكراه والإجبار فلن تخلق إلَّا أطفالاً عنيفين أو عنيدين أو كذَّابين أو مهزوزين، كتعبيرٍ منهم عن حريتهم المفقودة، فقد رُبِّيوا على أساس أنَّهم آلاتٌ لتنفيذ الأوامر فقط، وفي حال لم تُنفَّذ الأوامر فسيُعاقَبون أشد العقوبات، وسيُعنَّفون لفظياً وجسدياً.

أمَّا في تربية الحريَّة، إن أخطأ الطفل، فسيُعاقَب لكن بحب، كأن يقول له الأب: "أنت ابني، وأنا أحبك، لكنَّني سأعاقبك لأنَّك تصرَّفت بشكلٍ خاطئ، وستبقى في المنزل ولن تذهب معنا في الرحلة"، وهنا يتحدَّث الأب عن تصرُّف الابن دون التعرُّض إليه بأيِّ لفظٍ من الألفاظ السلبية.

2. غياب التربية الجسدية:

إنَّ الطفل الضعيف جسدياً سيكون عرضةً أكثر من غيره إلى العنف. فعلى الأم أن تعتني بغذاء طفلها، بحيث يكون طعامه صحياً وغنياً بكلِّ العناصر الضرورية لنموِّه. ومن جهةٍ أخرى، عليها الاهتمام بالرياضات لتنمية عضلاته وزيادة ثقته بنفسه وجسده، فالاهتمام بالصحة الجسدية والعقلية والروحية هامٌّ جداً؛ لأنَّ الصحة كلٌّ واحدٌ لا يتجزَّأ.

3. سوء تعامل المدرسة:

بوجود نظامٍ تعليميٍّ لا يُراعِي المعايير العالمية من حيث عدد الطلاب المفروض في الصف الدراسي، حيث أصبحت المدارس تستوعب أكثر بكثيرٍ من طاقتها؛ تحوَّل كلٌّ من الطالب والمُعلِّم إلى كائناتٍ مُعرَّضةٍ إلى الضغط النفسي الشديد، ممَّا أسفر عنه ممارساتٌ عنيفة، سواءً من قبل المُعلِّم أم الطالب. يُضاف إلى ذلك، ضعف دور الإرشاد النفسي في المدارس، حيث لا يُمارِس المُرشِد الاجتماعي دوره في مراقبة الطلاب، واكتشاف حالات العنف، وعلاج الأسباب؛ ومن جهةٍ أخرى، فقدان هويَّة المدرسة التربويَّة، بحيث أصبحت مكاناً للتعليم المجرَّد، من دون مراعاة شِقَّي التربية والأخلاق.

إقرأ أيضاً: المدرسة: تاريخها، أنواعها، فوائدها، ودورها في المجتمع

4. البيئة المحيطة بالطفل:

من المحتمل ألَّا يُعانِي الطفل من العنف في أسرته، لكنَّ أصدقاءه المُقرَّبين يتعاملون معه بأسلوب العنف، وهنا سيتبنَّى الطفل هذا السلوك السلبي؛ لذلك على الأهل أن يكونوا حذرين في مسألة انتقاء الطفل لأصدقائه، بحيث يكونون إيجابيين وسليمين نفسياً.

5. العنف اللفظي:

يعدُّ العنف اللفظي سبباً أساسياً من أسباب العنف الجسدي عند الأطفال، فعند توبيخ الطفل ووصفه بأبشع الألفاظ وأسوئها؛ سيتحوَّل إلى طفلٍ عديم الثقة بذاته، وإلى إنسانٍ عدوانيٍّ وعنيفٍ كنتيجةٍ لكلام أبويه السلبي.

إقرأ أيضاً: ملخص كتاب "كلمات نقتل بها أولادنا" لجوزيف وكارولين مسينجر

6. فقدان الأبِّ أو الأمِّ أو انفصالهما:

يجعل الحرمان من الحنان والإشباع العاطفي الطفل عرضةً إلى العنف، كرسالةٍ منه إلى أنَّه موجود، وبحاجةٍ إلى الاهتمام والاحتواء. كما في حالة وفاة الأب أو الأم، أو انفصالهما، أو وجودهما معاً لكنَّهما مُنفصِلان عاطفياً.

7. تدخُّل أكثر من طرفٍ في تربية الطفل:

يتدخَّل الكثير من أفراد العائلة في تربية الأمِّ لطفلها، مثل جدَّة الطفل وجدِّه، وغيرهما من أفراد العائلة، ويبدؤون بإعطاء الملاحظات حول أداء الأمِّ وتربيتها، ممَّا يجعل الأم قنبلةً موقوتةً في وسط خجلها من أن تفرض شخصيتها عليهم، وتصب بالتالي غضبها على طفلها، وتبدأ بتعنيفه.

إقرأ أيضاً: العدوانية عند الأطفال: أسبابها، طرق علاجها

التعامل مع العنف بين الأطفال:

عندما يلتحق الطفل المُمَارَس عليه العنف من قبل أبويه بمدرسته، فإنَّه سيُمارِس العنف على غيره من الأطفال، وسيختار أولئك الأطفال الضعفاء جسدياً، والأصغر منه سناً، كتمثيلٍ لحالته في المنزل، حيث يكون هو العنصر الضعيف وأمُّه أو أبوه العنصر القوي.

يوجد طرفان في العنف: الطرف المُمارِس للعنف، والطرف المُمارَس عليه العنف.

1. علاج الطفل العنيف (المُمارِس للعنف):

يجب التعاون والتكامل ما بين المدرسة والمنزل لعلاج هذا الطفل:

  • في المدرسة: على المرشد النفسي أن يقوم بدوره على أحسن وجه، ويراقب سلوك الطلاب العنيفين، ويبحث في أسباب العنف، ويتواصل مع الآباء للوصول إلى معلوماتٍ تفصيليةٍ أكثر، ولمعرفة إن كان السلوك مقتصراً على المدرسة أم يتعدَّاها إلى المنزل أيضاً.
  • في المنزل: على الأم أن تراقب سلوك ابنها، فإن شعرت أنَّه عنيفٌ معها، أو أنَّه يلجأ إلى التخريب كوجهٍ من أوجه العنف، عندها عليها أن تبحث وتقرأ أكثر عن العنف، وعن أسلوب التربية الناجحة، لكي تتفادى أخطاء تربيتها؛ وأن تُولِي اهتماماً لتكوين شخصية ابنها القياديَّة السليمة، وذلك من خلال الحوار معه عن القيم والأخلاق والخير والشر والنتائج التي نحصدها كنتيجةٍ لأفعالنا، ومن خلال احتوائه واحترام حريته، وتبنِّي ثقافة "الخطأ والمحاولة من جديد"، وأسلوب العقاب بدون عنف، ومن دون المساس بشخصية الطفل، حيث يُركَّز على الفعل وليس على الطفل.

من جهةٍ أخرى، على الأمِّ أن تُدرِك أهمية زرع الثقة في طفلها، كأن تجعله يُعبِّر عن نفسه بمنتهى القوة والجرأة، وأن تُنمِّي مواهبه، وتُقوِّي بنيته الجسدية، كأن يشترك في رياضاتٍ تنافسيةٍ مفيدة. وعليها أن تبقى متماسكةً وواثقةً أمام طفلها، فالأمُّ التي تُظهِر ضعفها لطفلها، وفقدانها للسيطرة عليه؛ ستجعل تصرفات طفلها العدوانية تزداد، لأنَّه فقد الثقة بأمِّه وبقدرتها على تربيته. فعوضاً عن ذلك، عليها عند وصولها إلى حدٍّ عالٍ من العصبيَّة والانفعال، ألَّا تفعل أيَّ شيء، بل أن تنفرد مع ذاتها وتبكي مثلاً، ثمَّ تظهر من جديد أمام طفلها قويةً وواثقة.

2. علاج الطفل المُعنَّف (المُعرَّض إلى الضرب من قبل زميله):

عندما تقولين لطفلك المُعنَّف: "اضرب مَن يضربك"، فهل تكونين قد عالجتِ المشكلة؟

أنتِ بذلك عزَّزتي لديه ثقافة أنَّ الذراع والقوة العضليَّة وسيلةُ التعبير الوحيدة عند الغضب، وشجَّعتيه على مزيدٍ من العنف، في الوقت الذي من الضروري فيه أن نُخفِّف من حدة العنف بين الأطفال؛ ونَسَفْتِ كلَّ مبادئ الرقيّ والتحكُّم بالانفعالات.

فبدلاً من ذلك، عليكِ أن تقولي لابنك أنَّه "قوي"، وأنَّه تعرَّض إلى الضرب ليس لأنَّه ضعيف، بل لأنَّ الطرف الآخر يعاني من مشكلةٍ ما، وأنَّ لديه أسلوباً خاطئاً في التعاطي، كما تقولين له أنَّ عليه أن يُعبِّر عن ذاته عند تعرُّضه إلى الضرب، كأن يقول لزميله المُعتدِي: "هذا تصرُّفٌ خاطئ" بصوتٍ عالٍ، ثمَّ يذهب إلى المُعلِّمة ويُقدِّم شكوى عن الحادثة، وفي حال عدم تعاونها، فليذهب إلى المدير ويُقدِّم شكواه حتَّى يُعالَج الموضوع.

علميه ألَّا يتنازل عن حقِّه، وأن يُعبِّر عن نفسه بقوةٍ وجرأة، وهنا تكونين قد خلقتي طفلاً مُسالِماً وليس ضعيفاً، طفلاً متوازناً وليس عدوانياً.

وفي حال عدم معالجة الموضوع، تستطيعين الذهاب إلى المدرسة بنيَّة إيجاد حل، وليس بنيَّة إحداث مشكلةٍ إضافيةٍ والتهجُّم على الأساتذة والإدارة، كأن تبادري بالتواصل مع أمِّ الطفل العنيف لعلَّها تكون غير قادرةٍ على التعامل مع طفلها، وتساعدينها من خلال نقاشكما الراقي في التعامل مع طفلها العنيف.

الخلاصة:

أولادنا أمانةٌ لدينا، وسنُسأل عنهم أمام رب العالمين، فاقرؤوا في أساليب التربية النَّاجحة قبل اتخاذ قرار إنجاب الأطفال؛ لأنَّ التربية أعظم وأقدس مَهمَّة على وجه الأرض، وتتطلَّب منَّا الكثير من البحث والدراسة والتطبيق، فمن خلالها تُصنَع الأمم وترتقي الشعوب.

 

المصادر: 1، 2، 3




مقالات مرتبطة