من أعمال القلوب في الإسلام

قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ (سورة الشعراء، الآية: 89)، ففي يوم الحساب لا ينفع المال ولا البنون أحداً من عباد الله إلا المؤمن الذي أتى الله بقلب سليم من النفاق والشك والكفر والرذيلة أيضاً؛ لذلك من الضروري أن نلقي الضوء على جانب هام جداً من جوانب الإيمان بالله تعالى، وهو ما يتعلق بأعمال القلوب والذي غفل معظم الناس عنه، وانشغلوا بأعمال الجوارح فقط، لكن إن صَلُح القلب صَلُح الحال كله.



ما هي أعمال القلوب؟

هي أصل من أصول الإيمان بالله تعالى، ويمكن التعبير عنها بأنَّها أقوال وأفعال باطنية وخفية محلُّها قلب الإنسان، والتقصير في أي من أعمال القلب يُعَدُّ تقصيراً في عبادة الله تعالى؛ لأنَّ كمال العبادات يكون بالتكامل بين ظاهرها وباطنها؛ فمثلاً الصلاة لها ظاهر وهي الواجبات والأركان والسنن التي حددها الإسلام، ولها جزء باطني وهو الخشوع لله تعالى والإخلاص والمحبة.

أيهما أهم أعمال القلوب أم أعمال الجوارح؟ ولماذا؟

الأصل في العمل هو القلب؛ لذلك إذا ابتعد القلب عن العمل، فلا ينفع عمل الجوارح ولا يُثاب الفرد عليه؛ فمثلاً إن قام الفرد بالصيام أو الزكاة دون يقين بالله، لا يُثاب على عمله؛ لذلك أعمال القلب ككل أهم من أعمال الجوارح وأعظم عند الله، لكن قد تكون معصية من أعمال الجوارح أعظم من معصية من أعمال القلب، وذلك حسب العمل؛ أي لكل عمل أجر معين عند القيام به وعقاب معين عند التقصير فيه.

هل الملائكة تكتب أعمال القلوب؟

قال تعالى في كتابه الكريم ﴿إِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ﴾ [سورة البقرة، الآية 284]؛ أي إنَّ أعمال القلوب مثل أعمال الجوارح تسجِّلها الملائكة لأنَّ الله تعالى يُطلعهم عليها؛ إذ إنَّهم موكَلون بالكتابة، فقد قال الله تعالى ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَاماً كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)﴾ [الانفطار:10-12]؛ أي إنَّ الله تعالى وصف الملائكة بأنَّهم حفظة علينا وكَتَبة أيضاً.

أهمية وفضل أعمال القلوب:

يظن بعض الناس أنَّ أعمال القلوب لها أجر وثواب، وأما ما لم يقم بها الإنسان ليس عليه حرج، لكنَّ هذا الاعتقاد خاطئ تماماً؛ لأنَّ أعمال القلوب لها أهمية كبيرة على الفرد:

  1. إنَّ أعمال القلوب واجبة على كل إنسان كما هي أعمال الجوارح واجبة عليه.
  2. إنَّ التقصير في أعمال القلوب سبب لنيل الفرد العقاب من الله تعالى، والقيام بها سبب لنيله الأجر والثواب والرضى من الله.
  3. تُعَدُّ أعمال القلوب أصل العبادات البدنية وروحها؛ لأنَّ العمل الصالح إن لم يكن مقترناً بالنية، فالقيام به لا يعود بالفائدة على صاحبه.
  4. قال الله تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [سورة الحجرات، الآية: 13]؛ أي إنَّ الله تعالى يفرِّق بين عباده بقلوبهم وبما تحمله من محبة وإخلاص وصدق؛ لذلك فقد يعمل شخصان نفس الأعمال، لكنَّ أجرهما عند الله متفاوت ومنزلتهما عنده قد تكون مختلفة ومتباعدة بُعد السماء عن الأرض؛ وذلك لاختلاف ما يخفيانه في قلبيهما، وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، لكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"، فعلينا أن نتذكر دائماً أنَّ القلب هو محل نظر الله.

أمثلة عن أعمال القلوب:

عبادة الله تعالى هي فعل كل ما يرضيه من الأعمال والأقوال الخفية في القلب أو الظاهرة إلى العلن، وتوجد عدة أعمال قلبية ترضي الله، نذكر منها ما يأتي:

1. محبة الله تعالى:

محبة الله عزَّ وجل هي أعظم الأعمال القلبية وأكثرها فائدة؛ فقلب المؤمن يجب أن يتعلق بالله الذي خلقه ويرزقه في هذه الحياة، لا أن يتعلق بالدنيا ومفاتنها، والتعلق بالله تعالى يحتاج إلى الصبر والمجاهدة.

2. الإخلاص:

يجب على المؤمن أن يكون مخلصاً لخالقه في جميع الأقوال والأفعال أيضاً، فلا توجد قيمة للحب دون وجود الإخلاص لهذا الحب، فإنَّ عدم الإخلاص لله يعني التجرُّد من حبه، فيجب أن يبتغي المؤمن وجه الله تعالى في كل الأعمال التي يقوم بها بخلاف الذي يقوم بالأعمال الصالحة بهدف الشهرة ومحبة الناس ومدحهم له.

3. اليقين:

يعني الإدراك والتصديق ألا إله إلا الله؛ إذ إنَّ الأعمال الفاسدة أصلها الكذب والنفاق، أما الأعمال الصالحة أصلها اليقين والصدق؛ لذلك اليقين هو أصل أعمال القلب.

4. التفكُّر:

على الرغم من أنَّ التفكير من أعمال العقل، إلا أنَّه أيضاً عمل من أعمال القلوب الذي لا يتطلب جهداً من الإنسان، وله أثر نفسي عميق فيه؛ وذلك لأنَّ التفكر يزيد من إيمان المسلم ويقينه بالله عزَّ وجل؛ إذ إنَّه يلتفت إلى عظمة الله في خلق الكون وتنظيمه الدقيق، وهذا يؤدي إلى اطمئنان القلب وثقته بقدرة الله على كل شيء.

شاهد بالفيديو: فضل قراءة القرآن الكريم

5. الخشوع:

الخشوع هام جداً لإتمام أعمال الجوارح؛ وهذا يعني إذلال القلب لله سبحانه وتعالى بمزيج من الخشية والسكون، فلا بد من وجود هذين الأمرين ليتحقق الخشوع؛ فعندما يخشع القلب، يتبعه سكون في الجسد وقد تبكي العيون وترتجف الأطراف من شدة الخشوع؛ وذلك لأنَّ المؤمن يشعر أنَّ قلبه بين يدي الله تعالى فينسى كل ما حوله، وليتحقق الخشوع، يمكن تهيئة المكان ومنع كافة المشتتات الجانبية ويُقبِل على الله بقلب سليم.

6. التوكل:

وهو عمل من أعمال القلوب الهامة؛ وذلك لأنَّ فيه اعتراف الفرد بضعفه وهوانه أمام قدرة الله تعالى، وبأنَّه لا يمكنه تدبير أموره إلا بإذن الله وبأمره؛ لذلك إنَّ التوكل على الله تعالى هو نوع من أنواع الالتجاء له ليساعده على تدبير أموره وتصريف شؤونه.

7. الرضى:

وهو من أرفع أعمال القلوب، الذي يشمل الرضى بالله رباً، والرضى بقضاء الله وقدره، والرضى بما أقسم الله للفرد، والرضى بالطاعات.

8. التوبة:

لا يوجد إنسان لم يخطئ أو يرتكب ذنباً في حياته؛ لذلك إنَّ التوبة عمل عظيم من أعمال القلوب؛ وذلك لأنَّها العودة إلى الله تعالى بعد اقتراف الذنب، ولا تصدر التوبة إلا عن قلب يعلم خطورة الذنوب ومعصية الله ويخاف من غضبه؛ لذلك يسعى إلى اجتناب ما نهى الله عنه فيعود إليه مستغفراً طالباً للعفو وطامعاً في مغفرته ورضاه.

9. الزهد:

ويعني ألا يكترث الإنسان لمزايا الدنيا لأنَّه يعلم أنَّ الدنيا زائلة والبقاء لله تعالى وحده.

10. الشكر:

يجب على الإنسان أن يقدِّر النعم التي أعطاها له الله، والتي لا تُعَدُّ ولا تُحصى، فلا يغفل عن شكره عليها بقوله الدائم الحمد لله؛ وذلك لأنَّ الشكر هو سبب دوام النعم بخلاف الذي ينظر إلى ما يفتقد فقط.

11. محاسبة النفس:

الإنسان الواعي والمدرك لما يقوم به، يدرك أين أخطأ ومتى، فيشعر بالذنب إن فعل أمراً نهى الله عنه، ويحاسب نفسه باستمرار لتجنب الوقوع بالمعاصي.

أعمال القلوب لـ "ابن القيم":

تحدَّث العلامة "ابن القيم" عن أعمال القلوب؛ إذ قال: "أعمال القلوب هي الأصل، وأعمال الجوارح تبع ومكمِّلة، وإنَّ النية بمنزلة الروح، والعمل بمنزلة الجسد للأعضاء، الذي إذا فارق الروح فموتٌ، فمعرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح".

وقال أيضاً: "مَن لم يكن وقته لله وبالله، فالموت خير له من الحياة، وإذا كان العبد وهو في الصلاة ليس له من صلاته إلا ما عقل منها، فليس له من عمره إلا ما كان فيه بالله ولله".

وعن التزكية أنَّها لا تكون إلا عن طريق الرسل، قال ابن القيم: "وتزكية النفوس أصعب من علاج الأبدان وأشد، فمن زكَّى نفسه بالرياضة والمجاهدة التي لم يجيء بها الرسل، فهو كالمريض الذي يعالج نفسه برأيه، وأين يقع رأيه من معرفة الطبيب؟ فالرسل أطباء القلوب، فلا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا عن طريقهم، وعلى أيديهم، وبمحض الانقياد والتسليم، والله المستعان".

أما عن وجوب أعمال القلوب فقد قال: "فإنَّ العبد كثيراً ما يترك واجبات لا يعلم بها ولا بوجوبها، فيكون مقصراً في العلم، وكثيراً ما يتركها بعد العلم بها وبوجوبها إما كسلاً أو تهاوناً، وإما لنوع باطل أو تقليداً، أو لظنه أنَّه مشتغل بما هو أوجب منها، أو لغير ذلك".

إقرأ أيضاً: فوائد الصلاة الصحية والنفسية

آيات عن أعمال القلوب:

توجد عدة آيات قرآنية أنزلها الله إلينا، تتحدث عن أهمية أعمال القلوب للإنسان لتوعيتنا لما يجب علينا عمله، وسنذكر بعضاً منها:

  • قال تعالى: ﴿وَيَزِيدُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ هُدىً﴾ [سورة ص، الآية: 43]؛ أي إنَّ الله تعالى زاد إيمان ويقين الذين انشغلوا بالأعمال النافعة والصالحة وشكر لهم ذلك.
  • قال تعالى: ﴿قَالَتِ ٱلْأَعْرَابُ ءَامَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلْإِيمَٰنُ فِى قُلُوبِكُمْ﴾ [سورة الحجرات:14]؛ أي إنَّه يوجد فرق بين الانقياد الظاهر للإسلام وبين الإيمان الحقيقي الموجود في القلب وأصله الإقرار والتصديق واليقين بالله تعالى.
  • قوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً﴾ [سورة الكهف، الآية: 13]، وهنا زاد الله تعالى من هداية مَن آمن به وابتعد عما يغضبه؛ وزيادة الهداية تعني زيادة الإيمان بالله واليقين به، ومن ثمَّ التقليل من الوقوع في المعاصي واقتراف الذنوب.
  • قال تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ ٱللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ﴾ [سورة الرعد، الآية: 28]؛ أي إنَّ ذكرَ الله يؤدي إلى خشوع قلب الفرد وإلى صلاحه وإبعاد الغفلة عنه.
  • قوله تعالى: ﴿وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَوٰةِ وَٱلْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾ [سورة الكهف، الآية: 28]، فقد أمر الله بالصبر والدعاء في الصباح والمساء، وعدم السعي وراء الأهواء وملذات الدنيا واتباع الكفار ممن صار أمره في جميع أعماله ضياعاً وهلاكاً.
  • قال تعالى: ﴿فَٱعْلَمْ أَنَّه لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّهُ وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنۢبِكَ﴾ [سورة محمد، الآية: 19]، وأيضاً قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَن شَهِدَ بِٱلْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [سورة الزخرف، الآية: 86]؛ لذلك فإنَّ اليقين بالله هو المبتدأ في كافة أعمال القلوب.
  • قال تعالى: ﴿وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ ٱلْقَيِّمَةِ﴾ [سورة البينة، الآية: 5] ليكون الإخلاص والصدق هو الفارق الكبير عند الله تعالى بين الفرد المؤمن بالله وبين المنافق.
  • قال تعالى عن الخشية: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [سورة فاطر، الآية: 28]؛ لأنَّه لا يوجد خير من علم لا يؤدي إلى خشية الله تعالى.
  • قال تعالى: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ﴾ [سورة الزمر، الآية: 54] ويقصد الله تعالى بالإنابة رجوع الفرد إلى الله رجوعاً كلياً، وابتعاده عن شهواته ورغباته؛ وذلك ابتغاءً لمرضاة الله عزَّ وجل.
إقرأ أيضاً: آيات وأحاديث نبوية عن بر الوالدين

في الختام:

حثَّنا الإسلام على تطهير قلوبنا وبيَّن لنا أهمية أعمال القلوب من خلال العديد من الدلائل التي ذكرنا بعضاً منها آنفاً؛ لذلك لا تغفل عن هذا الأمر لأنَّه الأساس في قبول الأعمال والأساس في عدم قبولها أيضاً.

المصادر: 1،2،3،4،5،6




مقالات مرتبطة