يكشف هذا السؤال الجوهري عن مشكلة عميقة تُعاني منها شركات ومسوقون كثر اليوم، وفي سباق محموم على المنافسة في السوق، ينسى هؤلاء المسوقون أنَّ معركتهم الحقيقية، ليست مع المنافسين؛ بل مع تحدٍ واحد وهو بناء علاقة أصيلة ومستدامة مع العميل، بالتالي تشتت هذه المراقبة المُفرطة البوصلة وتُحوِّل الرؤية إلى ضباب، لتقتل في النهاية أثمن ما تملكه العلامة التجارية، وهو ثقة جمهورها.
لا يقلِّد التسويق الاستراتيجي الفعال الآخرين؛ بل على ابتكار مسارك المخصص.
يقتل التركيز على المنافسة الرؤية ويهزم بناء العلامة
"إذا نظرت إلى ما يفعله منافسوك، ستفعل الشيء نفسه، لكن إذا نظرت إلى ما يريده عملاؤك، فستُبدِع شيئاً مختلفاً تماماً." - "جيفري سلاك" (Jeffrey Slack)
لو تأملت ما كتبه "جيفري سلاك" لن تجد صعوبة في استنتاج أنَّ الاهتمام المبالغ فيه بالمنافسين، ليس مجرد مضيعة للوقت؛ بل هو إقرار ضمني بأنَّك لا تمتلك رؤية تسويقية مخصصة بك. وفي الوقت الذي تستهلكه في تقليد الآخرين، فإنَّك تُرسل رسالة واضحة لجمهورك: أنت لست مُميزاً عن الآخرين، ولست سوى نسخة من النسخ المتعددة الموجودة في هذا العالم الفسيح،. هذا السلوك يُحوِّلك من قائد إلى تابع، من مبتكر إلى مُقلِّد، ويُفقدك أية فرصة في تميز العلامة عن الآخرين.
اهتم بما يقدِّمه الآخرون بدلاً من أن تُسخِّر طاقتك في فهم جمهورك، واحتياجاته، وأحلامه، لتنتهي بمنتج أو خدمة تُشبه مئات المنتجات والخدمات الأخرى في السوق.
تعرقل هذه العقلية عملية بناء العلامة التجارية من أساسها، فالعلاقة مع العميل لا تُبنى على تقليد الأقوى؛ بل على تقديم قيمة فريدة لا يمكن للآخرين أن يُقدموها. عندما يكون هدفك هو تجاوز المنافسين، فإنَّك تضع معاييرك على ما يُقدِّمونه هم، لا على ما هو أفضل لجمهورك، والنتيجة هي أنَّك تُصمِّم حملاتك التسويقية لتُرضي المنافسين بدلاً من العملاء، مما يُؤدي إلى فقدان الثقة وتلاشي الولاء.
يقتضي التسويق الاستراتيجي منك أن تكون الرائد، لا التابع.
شاهد بالفيديو: 7 استراتيجيات بيع للتغلب على المنافسين
الحل الأول: حدد نقاط قوة وركز عليها
"التفوق ليس فعلاً؛ بل عادة." - أرسطو
تتردد عبارة على ألسنتنا دائماً وهي: "أن نعرف شيئاً بسيطاً عن كل شيء". على الرغم من أنَّ هذه العبارة برأيي تصلح للحياة الاجتماعية فقط، ولكن في مجالات التخصص المحددة أعتقد أنَّه بدلاً من أن تُضيِّع وقتك في محاولة أن تكون "الكل للكل"، ركِّز على أن تكون "الأفضل في شيء واحد". فتحديد نقاط قوتك والتركيز عليها، هو أساس التسويق الاستراتيجي الذي يُرسخ مكانتك في ذهن العميل، وحين تُعرف بما تُقدِّمه بامتياز، تُصبح مرجعاً في مجالك.
لنأخذ مثالاً بارزاً من الولايات المتحدة: "واربي باركر" (Warby Parker)، فعندما دخلت الشركة سوق النظارات، كانت المنافسة شرسة. لكن بدلاً من محاولة مُنافسة الشركات الكُبرى على السعر أو عدد التصميمات، قدَّمَت (Warby Parker) تجربة فريدة لخدمة العملاء، فقد ابتكروا خدمة "التجربة المنزلية المجانية"، بالتالي يُمكن للعملاء طلب 5 نظارات لتجربتها في المنزل لمدة 5 أيام من دون أية رسوم، فلم تكن هذه الميزة موجودة في السوق.
بنت الشركة العلامة التجارية على أساس الشفافية، والجودة العالية بأسعار معقولة، والتوصيل السريع. وهذا التركيز لم يجعلهم مجرد بائعين للنظارات؛ بل جعلهم رواداً في تجربة الشراء، وأثبت أنَّ الرؤية التسويقية الواضحة والمُركزة هي الأداة الأقوى في المنافسة في السوق.
الحل الثاني: ابتكر عناصر جديدة بدل التقليد
"التقليد ليس إبداعاً." - مثل قديم
ما رأيك لو أطلقنا العنان لخيالنا لنعود إلى الوراء قليلاً، ونتخيل حياتنا الحالية نقلد فيها فقط ما اخترعه الآخرون من دون إبداع أو تجديد. ستجد نفسك في الخيال تركب تلك السيارة القديمة التي يتكاثف الدخان من ورائها وكأنها قطار، أو في أحسن الأحوال ستركب سيارة كتلك التي اخترعها "هنري فورد"، ولن تجد سيارات الفورمولا ون بهذه السرعة والجمال؛ لأنَّها ستكون نسخة مقلدة عن تلك النسخة التي أنتجها "إنزو فيراري".
يُدخلك التقليد في دائرة مُفرغة من المنافسة على السعر، مما يُقلل هوامش الربح ويُفقدك أي تميز العلامة، وإنَّ الحل الحقيقي، يكمن في الابتكار، بدلاً من أن تُحسِّن منتجاً موجوداً، فكِّر في تصميمه بالكامل أو ابتكار فئة جديدة، وهذا هو جوهر التسويق الاستراتيجي.
مثال عن ذلك: "دايسون" (Dyson) من المملكة المتحدة. عندما كانت سوق المكانس الكهربائية مُقتصرة على التصاميم التقليدية التي تعتمد على الأكياس، جاءت (Dyson) بفكرة المكانس الخالية من الأكياس. فهي لم تُحسن المنتج فحسب؛ بل صمَّمته بالكامل، وركزت على تصميم مبتكر يعتمد على تقنية الإعصار، مما أدى إلى أداء أفضل وتجربة استخدام مُريحة. لم يكتفوا بذلك؛ بل توسعوا إلى مُجففات الأيدي، ومجففات الشعر، ومروحات الهواء بتصاميم مُبتكرة تُشبه القطع الفنية.
منحهم هذا الابتكار الريادة في المنافسة في السوق، وجعلهم معروفون بتميزهم في الهندسة والتصميم، لا بتقليد الآخرين، وإنَّ بناء العلامة التجارية ليس بالضرورة أن يكون عن طريق تقليد الأقوى؛ بل يمكن أن يكون من خلال ابتكار ما لا يتوقعه أحد.
الحل الثالث: اجعل المنافس مصدر إلهام لا نسخة
"الإلهام هو مثل شرارة صغيرة، يجب عليك أن تشعلها بيدك." - بيكاسو
ليست المنافسة شراً بالضرورة؛ إذ يمكن أن تكون حافزاً لك، شريطة أن تنظر إليها بعين المبتكر لا المقلِّد، وانظر إلى المنافسين لا لتقلّدهم؛ بل لترى الفجوات التي تركوها في السوق، والاحتياجات التي لم يُلبوها بعد. فهذه الفجوات هي فرصتك الحقيقية لبناء العلامة التجارية المخصصة بك.
المثال الأوضح على ذلك هو "سبوتيفاي" (Spotify) من السويد، عندما دخلت الشركة سوق الموسيقى، كانت هناك أسماء عملاقة، مثل "آي تيونز" (iTunes)، ولكنَّ (Spotify) لم تُقلِّد نموذج البيع التقليدي، بل استلهمت من حاجة الجمهور إلى الوصول الفوري للموسيقى من دون الحاجة إلى شرائها.
ابتكروا نموذج البث المُباشر القائم على الاشتراك، ويعد هذا الأمر رؤية تسويقية جديدة تماماً؛ إذ لم يكتفوا بذلك؛ بل قدموا ميزات فريدة، مثل "الاستماع المُخصص"، و"الاكتشاف الأسبوعي"، والتي تُقدم قوائم تشغيل مُصممة خصيصاً لكل مستخدم.
شوبيفاي (Spotify) لم تُنافس (iTunes) على السعر؛ بل غيَّرت قواعد المنافسة في السوق بأكملها، وهذا هو الفرق بين أن تكون تابعاً وأن تكون رائداً بفضل التسويق الاستراتيجي الذي يُركز على الإبداع لا التقليد.
في الختام
لا يبدأ التسويق الاستراتيجي الناجح من مراقبة الآخرين؛ بل من فهم نفسك. فالقوة الحقيقية لأية علامة تجارية، تكمن في رؤية تسويقية واضحة ومُختلفة، وقدرة على بناء العلامة التجارية التي تُقدم قيمة حقيقية لجمهورها.
لا تقارن نفسك بالمنافسين؛ بل قارِن نفسك بأمْسِك، وكُن أفضل من ذي قبل، وارتقِ فوق توقعاتك المخصصة لتُقدم شيئاً فريداً، وتُثبت تميز العلامة في عيون عملائك. تذكَّر دائماً أنَّ المسوق بلا رؤية، يُركز على المنافس، بينما المسوق الذي يمتلك الرؤية يُركز على العميل؛ لذا اختر بحكمة، واختر أن تكون الأفضل في مسارك، لا الأفضل في سباق الآخرين.
أضف تعليقاً