مخاطر المثالية

المثالية هي موقف فلسفي يفترض وجود حقيقة أعلى وأكثر كمالاً خارج العالم المادي الذي نختبره من خلال حواسنا، وفي حين أنَّ هذه النظرة للعالم كانت مؤثِّرة طوال تاريخ الفلسفة، إلا أنَّها يمكن أن تؤدي أيضاً إلى مجموعة من المشكلات والتحديات عند تطبيقها على العالم الحقيقي، ففي هذا المقال سنستعرض أبرز مخاطر المثالية، مثل قدرتها على أن تؤدي إلى توقعات غير واقعية وتجاهل الاعتبارات العملية ورفض التسوية والتفاوض؛ لذلك إذا كنت من المهتمين، فتابع معنا.



ما هو مفهوم المثالية عموماً؟

المثالية هي مفهوم فلسفي يشير إلى أنَّ الواقع أو على الأقل الواقع الذي يمكننا معرفته وفهمه هو في الأساس عقلي أو روحي بطبيعته؛ وهذا يعني أنَّ العالم الذي نختبره لا يتكون من مادة وطاقة فيزيائية بحتة؛ بل يتشكل وتحدده أيضاً الأفكار والوعي.

تتمثل إحدى الأفكار الرئيسة للمثالية في فكرة أنَّ العقل أو الوعي ليس مجرد مستقبل سلبي للمدخلات الحسية، ولكنَّه يعمل بنشاط على تشكيل وهيكلة تجربتنا للواقع، وهذا يعني أنَّ ما نعدُّه حقيقة موضوعية هو في الواقع نتاج وعينا الذاتي.

يجادل المثاليون بأنَّ العالم ليس مجرد مجموعة من الأشياء والأحداث المنفصلة والمستقلة؛ بل هو بدلاً من ذلك كلٌّ موحد ومترابط، وتؤكد هذه النظرة الشاملة للواقع على أهمية العلاقات والسياق بدلاً من التركيز فقط على الظواهر المعزولة.

إضافة إلى ذلك ترى المثالية أنَّ الواقع ليس ثابتاً، ولكنَّه بدلاً من ذلك يتطور باستمرار؛ وهذا يعني أنَّ ما نختبره بصفته واقعاً ليس ثابتاً؛ بل يتم تشكيله وتحويله باستمرار من خلال أفكار ووعي الأفراد والمجتمع ككل.

عموماً تمثل المثالية منظوراً فريداً للواقع يؤكد أهمية الوعي والعلاقات والتنمية في تشكيل فهمنا للعالم من حولنا، وفي حين أنَّه قد لا يكون وجهة نظر مقبولة عالمياً، إلا أنَّه ما يزال مفهوماً فلسفياً رائعاً ومثيراً للتفكير الذي يتحدانا لإعادة التفكير في افتراضاتنا بشأن طبيعة الواقع.

بمعنى آخر إنَّ المثالية هي منظور فلسفي يؤكد الحقيقة المطلقة للأفكار أو المفاهيم العقلية على الواقع المادي، وفي حين أنَّ المثالية لها بعض نقاط القوة والمزايا، إلا أنَّ لها أيضاً العديد من الجوانب السلبية أو القيود.

علاقة اللاعملية مع المثالية:

تعد اللاعملية جانباً سلبياً للمثالية؛ وذلك لأنَّ المثالية تميل إلى التركيز على المثل والمفاهيم المجردة بدلاً من الحقائق العملية للواقع، وغالباً ما يعطي المثاليون الأولوية لرؤيتهم للمثل الأعلى على الخطوات العملية اللازمة لتحقيق هدفهم، وهذا يمكن أن يجعل من الصعب ترجمة الأفكار المثالية إلى إجراءات ملموسة يمكن تنفيذها في العالم الحقيقي.

في بعض الحالات قد تكون الأهداف المثالية غير متوافقة مع الحقائق العملية، مثل الموارد المحدودة أو القيود السياسية، وعلى سبيل المثال قد يكون الهدف المثالي المتمثل في تحقيق المساواة الكاملة لجميع الناس غير واقعي من الناحية العملية؛ وذلك نظراً للتحديات المتمثلة في تحقيق توافق واسع النطاق، ومعالجة التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الراسخة.

إضافة إلى ذلك قد يؤدي التركيز المفرط على المثل المجردة في بعض الأحيان إلى عدم الاهتمام بالمخاوف العملية، مثل القضايا الاقتصادية أو البيئية، ويمكن أن يؤدي هذا إلى نشوء فجوة بين التطلعات المثالية وحقائق الحياة اليومية، ويمكن أن يجعل من الصعب إحداث تغيير ذي مغزى، في حين أنَّ المثالية يمكن أن تكون ملهمة ومحفزة، فمن الهام الموازنة بين الأهداف المثالية والاعتبارات العملية من أجل تحقيق تغيير ذي مغزى في العالم.

علاقة المثالية بشعور صعوبة تحقيق الأهداف:

يمكن أن تجعلك المثالية أحياناً تشعر بأنَّ أهدافك مستحيلة؛ وذلك لأنَّ الأهداف المثالية تميل إلى أن تكون سامية، وتتطلب في كثير من الأحيان تغييرات كبيرة في المواقف أو السلوك أو القيم الاجتماعية، وقد يضع المثاليون معايير عالية لأنفسهم أو للمجتمع، وقد يكون من الصعب تحقيقها من الناحية العملية.

عندما تستند أهدافك إلى رؤية مثالية للعالم، فقد تواجه مجموعة من التحديات التي يمكن أن تجعلك تشعر وكأنَّك بعيد عن تحقيق تطلعاتك، وقد تشمل هذه التحديات الحواجز السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، فضلاً عن القيود الفردية مثل الوقت أو الموارد أو الخبرة.

إضافة إلى ذلك عندما تستند أهدافك إلى مبادئ مثالية، فقد تصارع الفجوة بين رؤيتك للكمال وواقع العالم، ويمكن أن يخلق هذا إحساساً بخيبة الأمل أو الإحباط أو السخرية، وخاصة إذا كان التقدم نحو أهدافك بطيئاً أو غير موجود بتاتاً.

شاهد بالفديو: كيف تصبح شخصاً مثالياً مُعتدلاً؟

كيف يمكن للمثالية أن تسلبك مرونتك؟

المثالية هي سمة شخصية تتميز بالرغبة القوية في الكمال والمعايير العالية للأداء، وللكمال سمة إيجابية في بعض السياقات، وله أيضاً سمة سلبية، مثل الافتقار إلى المرونة في التعامل مع الناس، وفيما يأتي بعض طرائق المثالية التي يمكن أن تحرمك من مرونتك في التعامل مع الناس:

إقرأ أيضاً: نعمة عدم الكمال

1. تفكير الكل أو لا شيء:

غالباً ما ينطوي السعي إلى الكمال والمثالية على التفكير بمنطق الأبيض والأسود؛ إذ تكون الأشياء إما مثالية أو ليست جيدة بما فيه الكفاية، وهذا يمكن أن يجعل من الصعب رؤية ظلال اللون الرمادي في المواقف التي تتطلب ذلك، وقد يكونون عرضة للحكم على الأشخاص بقسوة بناءً على عيوب أو أخطاء صغيرة.

2. الصلابة:

قد يكون للمثاليين أفكار جامدة وغير مرنة بشأن الكيفية التي يجب أن تكون عليها الأشياء، وقد يكونون غير مستعدين للتنازل أو التكيف مع الظروف المتغيرة، وهذا قد يجعل من الصعب التواصل مع الناس في بيئة اجتماعية ديناميكية متغيرة، وقد يسعى المثاليون من أجل تعديل توقعاتهم أو سلوكهم لتلائم احتياجات أو تفضيلات الآخرين، وهذا قد يؤدي إلى توتر أو صراع في العلاقات.

3. التوقعات العالية:

غالباً ما يكون للمثاليين توقعات عالية جداً لأنفسهم وللآخرين، وقد يتوقعون أن يلبي الناس معايير مستحيلة أو يتوافقوا مع رؤيتهم المثالية لكيفية أن تكون الأمور، ويمكن أن يثير هذا إحساساً بالضغط أو القلق لكل من الساعين إلى المثالية والأشخاص الذين يتفاعلون معهم، ويمكن أن يؤدي إلى الشعور بخيبة الأمل أو الإحباط أو الغضب عند عدم تلبية التوقعات.

4. النقد الكثير:

قد ينتقد المثاليون الناس بشدة، وهذا قد يمتد إلى تفاعلاتهم مع الآخرين، وقد يكونون سريعين في الحكم والعثور على خطأ في أشخاص آخرين، وخاصة إذا كانوا يرون أنَّهم لا يميلون إلى معاييرهم العالية، ويمكن أن يؤدي هذا إلى بيئة سلبية أو معادية قد يصعب على الناس التعامل فيها، وقد تؤدي إلى علاقات متوترة.

عموماً يمكن للمثالية أن تحرمك من مرونتك في التعامل مع الناس، من خلال اختلاق مواقف جامدة وغير مرنة وتوقعات عالية وميل نحو النقد القاسي وإصدار الأحكام على الآخرين، ولتجنب هذه العواقب السلبية، من الهام تنمية موقف أكثر مرونة وتقبلاً تجاه نفسك والآخرين.

شاهد بالفديو: 6 أمور تسرق منك السعادة إياك والقيام بها

ما هو رأي "أفلاطون" في فكرة المثالية؟

كان "أفلاطون" أحد أبرز فلاسفة اليونان القديمة، وكان لآرائه الفلسفية تأثير كبير في تطور الفكر الغربي، وكانت إحدى أهم مساهمات "أفلاطون" في الفلسفة هي نظريته عن المثالية.

تفترض مثالية "أفلاطون" أنَّ العالم الذي نختبره من خلال حواسنا هو مجرد انعكاس أو نسخة غير كاملة من عالم أعلى وأكثر كمالاً للواقع أسماه "عالم الأشكال أو الأفكار"، ووفقاً لـ "أفلاطون" فإنَّ عالم الأشكال هذا أبدي لا يتغير ومتعالٍ، وهو مصدر كل المعرفة والجمال الحقيقيَين.

اعتقد "أفلاطون" أنَّ العالم المادي الذي نختبره ليس سوى ظل أو تقليد غير كامل لعالم الأشكال، ولقد جادل بأنَّ الأشياء والمفاهيم التي نواجهها في العالم المادي ليست سوى نسخ غير كاملة، وعلى سبيل المثال الكرسي الذي نواجهه في العالم المادي ليس سوى نسخة معيبة من الشكل المثالي للكرسي الموجود في عالم المثاليات.

كان لمثالية "أفلاطون" تأثير عميق في الفلسفة الغربية، وكانت موضوع كثير من الجدل والتفسير على مر القرون، واعتنق بعض الفلاسفة مثالية "أفلاطون"، بينما رفضها آخرون أو سعوا إلى تعديلها بطرائق مختلفة، ومع ذلك تظل نظرية المثالية لـ "أفلاطون" جزءاً هاماً ومؤثراً من التقاليد الفلسفية الغربية.

من هم الفلاسفة الذين وافقوا "أفلاطون" على نظرته عن المثالية؟

كانت نظرية المثالية لـ "أفلاطون" مؤثرة طوال تاريخ الفلسفة، واتفق العديد من الفلاسفة مع بعض أو كل جوانب وجهة نظره، ومن بين أبرز الفلاسفة الذين شاركوا في مثالية "أفلاطون":

1. أفلوطين:

كان "أفلوطين" فيلسوفاً في القرن الثالث الميلادي، وقد طوَّر نظاماً فكرياً يُعرف باسم "الأفلاطونية الحديثة"، ولقد آمن بالتسلسل الهرمي للوجود مع كون الحقيقة المطلقة هي السائدة، وهو ما يتجاوز كل المفاهيم والأشكال، وكان مثل "أفلاطون" يعتقد أنَّ العالم المادي هو مجرد ظل أو انعكاس لهذه الحقيقة الأسمى.

إقرأ أيضاً: 8 صفات يتميّز بها أصحاب تقدير الذات المنخفض

2. إيمانويل كانط:

"كانط" فيلسوف ألماني من القرن الثامن عشر معروف بنظامه المؤثر للمثالية المتعالية، ويعتقد "كانط" أنَّ معرفتنا بالعالم تتشكل من خلال هيكل عقولنا الذي يفرض فئات ومفاهيم على البيانات الحسية التي نتلقاها، ولقد جادل بأنَّنا لا نستطيع معرفة العالم إلا كما يبدو لنا وليس كما هو في حد ذاته، وأنَّ الواقع النهائي يتجاوز فهمنا.

3. برادلي:

كان "برادلي" فيلسوفاً بريطانياً من القرن التاسع عشر، وقد طوَّر شكلاً من أشكال المثالية يُعرف بالمثالية المطلقة أو المثالية الميتافيزيقية، ومثل "هيجل" كان يعتقد أنَّ الحقيقة المطلقة هي كيان واحد شامل يشمل كل شيء موجود، ولقد جادل بأنَّ العالم المادي هو مظهر من مظاهر هذا الكيان، وأنَّ جميع التناقضات والتعارضات الظاهرة في العالم يمكن حلها في هذا الواقع الأعلى.

في الختام:

كانت المثالية موقفاً فلسفياً مؤثراً عبر التاريخ، لكن يمكن أن يكون لها أيضاً مخاطر جسيمة عند تطبيقها على العالم الحقيقي، ويمكن أن يؤدي السعي إلى تحقيق الكمال إلى توقعات غير واقعية وتجاهل للاعتبارات العملية، وفي حين أنَّه من الهام السعي من أجل عالم أفضل والتمسك بالمثل والمبادئ، يجب علينا أيضاً أن ندرك حدود المثالية والحاجة إلى حلول عملية للمشكلات المعقدة.

من خلال تبني نهج أكثر توازناً وواقعية، يمكننا بذلك العمل من أجل حلول العالم الواقعي التي تأخذ في الحسبان حقائق الطبيعة البشرية والقيود المفروضة على أنظمتنا الحالية، وفي النهاية يجب أن نجد طريقة لموازنة مُثُلنا مع الاعتبارات العملية للعالم الذي نعيش فيه.




مقالات مرتبطة