ما هو علم النفس التطوري؟ وما أهم نظرياته؟

نخوض الحياة مسلِّمين بالكثير من الأفكار، معتبرين أنَّها بديهيات لا يجوز البحث فيها، كحبِّنا لشريك الحياة الطموح والمقتدر مادياً، وبحث الرجل عن المرأة الجميلة التي تملك صحة جيدة، وتعبيرنا عن السعادة والفرح أو الحزن والأسى.



لطالما اعتقدنا أنَّنا وُلِدنا كالصفحة البيضاء دون أي مرجعيات سابقة، وأنَّ ميلنا إلى الأخلاق والفضيلة ميل فطري بامتياز، وأنَّ ما يتعرَّض إليه الإنسان من ظواهر تربوية هو ما يخلق شخصيته وسلوكاته؛ ولكن ماذا لو كان كل ما نقوم به من سلوكات نابعاً عن جينات قد تطورت على مدار ملايين من السنوات؟ وماذا لو أنَّنا وُلِدنا ببرامج مسبقة لكل تفصيل من تفاصيل حياتنا، ولم نُخلَق صفحة بيضاء كما كنَّا نعتقد؟ وماذا لو أنَّنا محكومون بمادتنا الوراثية، وأنَّ الطفرة في المادة الوراثية التي تحقق أكبر نسبة نجاح في التكاثر هي مَن تنتقل إلى الجيل القادم وتحدد ما نحن عليه الآن؟ وماذا لو أنَّ التكيف النفسي لأسلافنا عبر ملايين السنين وما طوروه من آليات دفاعية من أجل الاستمرار والبقاء هي مَن تحدد الأسباب الكامنة وراء سلوكاتنا وتصرفاتنا؟

ما هو علم النفس التطوري؟

يدرس علم النفس التطوري العقل البشري، ويبحث في آليه عمله ووظائفه والترابطات ما بين الوظائف والبيئة المحيطة، مع مراعاة المثيرات والشروط التي تخلق بمجموعها السلوك البشري.

يجمع علم النفس التطوري ما بين علم النفس المعرفي والانتخاب الطبيعي، حيث عدَّ العقل البشري بداية على أنَّه برنامج واحد ذو غرض عام، ولكنَّ القدرة المذهلة للعقل البشري وما يتمتع به البشر من قدرة على القيام بالكثير من الوظائف معاً جعلت العلماء يذهبون إلى عدِّ العقل عبارة عن وحدات منفصلة تؤدِّي كل وحدة وظيفة محددة، مع وجود تناغم كبير وعظيم بين جميع الوحدات؛ وهو ما ينسجم مع فكرة الانتخاب الطبيعي التي تشجع فكرة صنع أنظمة محددة للقيام بوظائف محددة، بحيث تكون من السرعة والقوة ما يمكِّنها من أن تسبق البرنامج ذي الغرض العام.

تفترض البيولوجيا التطورية أنَّ الكائنات قد تطورت من خلال الانتخاب الطبيعي، أي المحافظة على الصفات التي تضمن لها البقاء والقوة، وإهمال تلك التي لا تفيدها في التكيف مع البيئة.

يفترض علم النفس التطوري أنَّ عقولنا أيضاً قد خضعت إلى البيولوجيا التطورية، وأنَّ الحالة النفسية للإنسان لا تعتمد على تجارب الإنسان فحسب، بل على برامج جينية قد تطورت عبر ملايين السنين، وهذه البرامج هي مَن حظيت بأفضلية البقاء حتى يومنا هذا.

كما يذهب علم النفس التطوري إلى افتراض أنَّ المشاعر والحالات العاطفية خاضعة إلى التطور أيضاً، وتقول أنَّ مصدر المشاعر النفسية هو ما اختبره أجدادنا القدماء، ومن ثم زيد عليها ما نتعرَّض إليه من تعقيدات اجتماعية.

إذاً، علم النفس التطوري فرع من فروع علم النفس، وهو يبحث في مجمل العمليات التي تسبب التغيرات التي تحدث طوال فترة حياة الإنسان من الولادة وحتى الشيخوخة؛ مثل حل المشكلات، واكتساب اللغة، والأخلاق، والسلوكات.

شاهد بالفيديو: 12 قانون في علم النفس إذا فهمتها ستُغيّر حياتك

ما هي نظريات علم النفس التطوري؟

1. نظرية بياجيه للتطور المعرفي:

تصف هذه النظرية التطور العقلي لدى الإنسان وهي نظرية تطويرية بيولوجية، وتفترض أنَّ التطور العقلي للإنسان يمر بأربعة مراحل:

1. 1. المرحلة الحسية الحركية:

تمتد هذه المرحلة من 0 إلى 18 شهر، ويتميز فيها الطفل بعدة مزايا هي:

  1. ثبات الإدراك: حيث يدرك ضرورة محافظة الشيء على ذاته، حتى في حال رؤيتنا له من زوايا مختلفة.
  2. إدراك الثبات: يتعلم الطفل أنَّ الأشياء موجودة حتى في حال عدم رؤيته لها؛ فمثلاً: في حال أخفت الأم المفاتيح عنه، يعلم أنَّها موجودة وإن لم يكن يدركها بحواسه.
  3. استعمال الرموز: حيث يحوِّل الأشياء هنا إلى رموز.
  4. التقليد: تتطور قدرة الطفل العقلية هنا، ويبدأ بتقليد الآخرين معتمداً على ذاكرته.
  5. اللغة: يبدأ الطفل استخدام اللغة، ممَّا يدل على نضج الطفل أكثر.

1. 2. مرحلة الذكاء ما قبل العمليات:

تمتد هذه المرحلة من عمر 18 شهر إلى 7 سنوات، وتقسَّم إلى مرحلتين:

  • مرحلة ما قبل التصور: تمتد هذه المرحلة من عمر 18 شهر إلى عمر 4 سنوات، ويتميَّز فيها الطفل بالقدرة على تخيل الأشياء دون أن يراها، ولكنَّه غير قادر على تصنيف الأشكال في مجموعات معينة؛ فإن أعطيته مجموعة أسماء من الحيوانات، فلن يستطيع وضعها في خانة واحدة تحت مصطلح حيوانات. من جهة أخرى، لا يملك القدرة على الإحساس بالحجم والكمية، ويرى العالم من وجهة نظره دون أي اعتبار لنظرة الآخرين، ويتعامل مع الجمادات على أنَّها ذات روح.
  • المرحلة الحدسية: تمتد من عمر 4 سنوات وحتَّى 7 سنوات، ويستطيع الطفل فيها تنظيم الأشياء في تصنيفات مختلفة، كما أنَّه يدرك الكل والجزء، ويعي الكمية والحجم؛ فإن وضعت الأم كمية الماء نفسها في كأسين مختلفين في الشكل، فسيُدرك أنَّ كمية الماء ذاتها ولكنَّ شكل الكأس هو ما يوحي بعكس ذلك. من جهة أخرى، يستمر الطفل في التمركز حول ذاته، كأن يغمض عينيه ويقول "ابحثو عني"، معتقداً أنَّ الآخرين لا يرونه لأنَّه يفكّر من وجهة نظره فحسب، ويربط بين حدثين ويعدُّ الأول سبباً للآخر لمجرد أنَّهما قد وقعا في الوقت نفسه، كأن يربط بين وجع رأسه وذهابه إلى بيت صديقه.

1. 3. مرحلة التفكير الملموس:

تمتد هذه المرحلة من عمر 7 سنوات حتى عمر 11 سنة، ويستطيع الطفل هنا تنفيذ العمليات المنطقية، كأن يربط بين حدثين يحققان قانون السبب والنتيجة، ويملك القدرة على التخطيط والتنظيم للأحداث التي سيقوم بها، ويحفظ الكمية والحجم، ويستطيع جمع الأشياء حسب الصفات أو المبادئ.

1. 4. مرحلة التفكير الرسمي:

تمتد هذه المرحلة من عمر 12 سنة فما فوق، ويتألق هنا تفكير الطفل، ويستطيع التفكير في المستقبل، ويتمكَّن من صياغة حلول عديدة لذات المشكلة؛ كما أنَّه يفهم النظريات ويملك القدرة على إعطاء أمثلة وشرح أشياء مجردة، كما أنَّه يملك القدرة على التفكير الاستنتاجي.

لقد أوصى بياجيه أنَّ تفكير الطفل مختلف تماماً عن تفكير البالغ، لذا يجب على الأهالي الانتباه إلى هذه الخاصية؛ ومن جهة أخرى، اعتقد بياجيه أنَّ الدافعية للتعلم هي عملية داخلية، ولا تخضع إلى ما يعطيه الأهل من مكافآت وتعزيزات؛ وحضَّ على ضرورة وجود فجوة مثلى ما بين المرحلة التطورية التي يكون فيها الطفل والمهمات التعليمية المقدمة له، بمعنى أن يكون هناك توازن ما بين الاستيعاب والملائمة؛ أي أن نقدِّم للطفل تمرينات أعلى بقليل من قدرته، بحيث يتطور ويصبح أكثر قوة.

لم يحبذ بياجيه فكرة التسريع في عملية التعلم؛ ذلك لأنَّه عدَّ أنَّ النضج الفيزيائي والعقلي هام جداً لعملية تطور الطفل، ومن بين الانتقادات الموجهة إلى بياجيه أنَّه لم يهتم بالجانب العاطفي لدى الطفل، علماً أنَّ له صلة وثيقة بالتطور العقلي لديه؛ كما أنَّه لم يهتم بالفروقات الفردية بين الأطفال، بل اهتم بالنقاط المشتركة في التطور العقلي بينهم.

إقرأ أيضاً: ملخص كتاب "علم نفس النجاح" لـ بريان تريسي

2. النظرية الاجتماعية للتطور العقلي:

تُسمَّى هذه النظرية بنظرية التعلم الاجتماعي، وينوِّه فيها فيجوتسكي على أهمية البيئة الاجتماعية في تطور الفرد من الناحية العقلية، أي أنَّه يركز على الخارج في عملية التطور وليس على الداخل.

يفترض فيجوتسكي أنَّ القدرات التي يكتسبها الطفل تظهر على مرحلتين، الأولى على المستوى الاجتماعي والثانية على المستوى الشخصي؛ حيث يكتسب الطفل اللغة من البيئة المحيطة به في المرحلة الأولى من تعلمه، ثم تصبح هذه اللغة جزءاً منه ويبدأ التفكير بواسطتها، وتتحول إلى أمر شخصي.

أكَّد فيجوتسكي على أهمية الاهتمام بمنطقة التطور القريبة للطفل، أي أن يكون المدى مثالياً بين قدرة الطفل على حل المشكلات بنفسه وبين منطقة التطور المحتملة (أي المنطقة التي يستطيع فيها الطفل حل المشكلات بمساعدة البالغ).

إقرأ أيضاً: نصائح تربوية لتنمية شخصية طفلك وتطويرها

3. نظرية فرويد لتطور الشخصية:

يعدُّ فرويد من أشهر مفكري القرن التاسع عشر، وقد قدَّم أكثر النظريات المثيرة للجدل في مجال تطور الشخصية، وعدَّ أنَّ أحداث الطفولة هي أصل كل مشكلة نفسية قد يعاني منها الإنسان.

قسَّم فرويد مستويات الإدراك إلى:

  1. اللاشعور: وهو ما لا يمكن إدراكه إلَّا في شروط معينة، وهو مخزن الغرائز البدائية للإنسان، حيث لا قانون ولا قيود ولا منطق، ولا يُعترَف إلَّا بحالة الإشباع الفوري لتلك الغرائز للوصول إلى المتعة.
  2. ما قبل الشعور (الأنا العليا): وهو الجزء المتحفظ، ومخزن الخير والعدل والمثاليات والضمير.
  3. الشعور (الأنا): وهو ما تفكر فيه، ويشكل حالة وسيطة ما بين الحيوان والملاك السابقين، فيحاول أن ينفِّذ غرائزه ولكن بأسلوب متحفظ وراقي؛ ذلك لأنَّ ضميره سيعاقبه في حال تغليبه الجانب الحيواني على الملائكي.

في حال استطاع الشعور تحقيق التوازن بين الجانبين الملائكي والغرائزي، سينعم الإنسان بالسلام الداخلي؛ أمَّا في حال عدم القدرة على تحقيق التوازن، فسيسطر القلق والكبت والحزن على الإنسان، وقد يحتاج إلى معالج نفسي لكي يبحث في لاوعي المريض وينقل مكبوتاته من اللاوعي إلى الوعي.

قسَّم فرويد مراحل تطور شخصية الإنسان، ووجد أنَّ أي خلل يصيب الإنسان في أثناء انتقاله من مرحلة إلى أخرى سيسبب له الكثير من المشكلات المستقبلية، وهذه المراحل هي:

3. 1. المرحلة الأولى الفموية:

تمتد هذه المرحلة من الولادة حتى عمر السنة، ويستخدم الطفل فيها الشفاه واللسان في الرضاعة، ومن ثم يستخدم العض حين بزوغ الأسنان لديه؛ إذ إنَّه يستكشف كل شيء من خلال فمه.

سيُصاب مَن يتعرض إلى مشكلات في هذه الفترة من حياته، كالفطام المبكر أو المتأخر، بسلوكات فموية مضطربة عندما يكبر، حيث يميل الإدمان على الأكل، أو التدخين، أو قضم الأظافر أو الأقلام، أو الكلام التّهكمي؛ ومن جهة أخرى، يميل مَن تعرض إلى التساهل والتمديد في وقت الرضاعة، إلى أن يكون خبيراً في الطعام والحلويات، وذا حس فكاهي.

3. 2. المرحلة الشرجية:

تمتد من عمر السنة إلى عمر ثلاث سنوات، ويكتشف فيها الطفل قدرته على السيطرة على رغباته غير المتوافقة مع المجتمع، والفوز برضا الوالدين (السلطة).

يميل مَن تعرض إلى تدريب قاسٍ من قبل الأهل على استخدام المرحاض إلى الاحترام الشديد للسلطة وحب الانضباط، وقد يصبح عنيداً أو بخيلاً لتمسكه بأفكاره وأمواله؛ في حين يميل مَن تعرض إلى التدريب السهل من قبل الأهالي إلى الكرم والفوضوية.

3. 3. المرحلة الوذرية:

تمتد من عمر الثلاث سنوات وحتى عمر الخمس سنوات، ويركز الطفل خلال هذه المرحلة على المنطقة التناسلية ويدرك الاختلافات بين الجنسين، وتتشكل في هذه المرحلة عقدة أوديب لدى الذكر (عندما يميل الذكر إلى التعلق المرضي بوالدته، ويغار عليها من أبيه)، وعقدة الكترا لدى الأنثى (عندما تميل الأنثى إلى التعلق المرضي بأبيها وتغار عليه من والدتها).

تنحل هذه العقد من خلال تحديد الطفل لهويته، فيتبنَّى صفات الأب (لدى الذكر)، وصفات الأم (لدى الأنثى).

يُصاب الطفل بأمراض نفسية (اكتئاب، قلق) في حال بقاء الخلل في هذه المرحلة، وقد يميل الطفل في مرحلة المراهقة إلى الاختلاط الشديد مع الجنس الآخر، أو إلى العفة التامة في حال عدم التطور الطبيعي في المرحلة الوذرية.

3. 4. مرحلة الكمون:

تمتد هذه المرحلة بين عمر الخامسة وحتى سن البلوغ، ولا يحدث فيها أي تطورات نفسية وجنسية، ويعتقد فرويد أنَّ كل الدوافع الجنسية خلال هذه المرحلة توجِّه إلى النشاطات المختلفة (مدرسة،أو هوايات، أو أصدقاء).

3. 5. المرحلة التناسلية:

تمتد من البلوغ حتى النضج، ويبدأ فيها المراهق في توجيه الغريزة الجنسية تجاه الجنس الآخر، ويعدُّ فرويد أنَّ مَن يمر بأمان من هذه المرحلة يكون مؤهلاً لإقامة علاقة عاطفية ناجحة مستقبلاً.

من الانتقادات الموجَّهة إلى فرويد أنَّه ركَّز على الفرد دون التطرق إلى تأثير البيئة والمجتمع والثقافة، ولم يستند على أساس علمي في تجاربه، ولم يعطِ المرأة حقها كما الرجل، حيث عُدَّت فرضياته مناهضة للمرأة.

إقرأ أيضاً: اضطراب الهوية الجنسية عند الأطفال: تعريفه، وأسبابه، وطرائق علاجه

4. نظرية التكيف التطوري:

بدأت نظرية التكيف التطوري الظهور في سبعينات القرن الماضي، معتمدة على نتائج المدرسة السلوكية التي أكدت على أنَّ سلوكات البشر ناتجة عن البيئة وحدها ومقدار التعزيزات والمكافآت، ولكنَّها لم تنكر وجود إمكانات فطرية غير محددة يتمتع بها الإنسان مثل القدرة على التعلم، والتي تعدُّ أساساً لتطوير السلوك الاجتماعي للفرد خلال فترة المراهقة.

من ثم اتحد علماء النفس مع علماء البيولوجيا واكتشفوا أنَّ هناك درجات متفاوتة في قدرات التعلم بين الكائنات، ولا يمكن أن يُفسَّر ذلك إلَّا بوجود تكيف تطوري.

كما أجرى الألماني الفيزيولوجي "إريك هولست" أبحاثاً على السلوك الفطري لثعابين البحر، فقطع الصلة بين الدماغ والحبل الشوكي لثعابين البحر، ولم تعد قادرة على السباحة وفقاً للمدرسة السلوكية القائمة على التعلم والتعويد؛ ذلك لأنَّ الحبل الشوكي لن يستطيع إرسال المعلومات أو المهارة المُتعلَّمة إلى الدماغ ومنه إلى العضلات؛ ولكن استمرَّت في الواقع ثعابين البحر في السباحة، وفُسِّر ذلك من خلال تكون برنامج عصبي في النخاع الشوكي عن طريق الانتخاب الطبيعي.

5. نظرية المادة الوراثية:

أجرى ديفيد باس -بروفيسور في علم النفس في جامعة تكساس، وصاحب كتاب "علم النفس التطوري"- مقابلات مع رجال ونساء من 37 مجتمعاً مختلفاً في الثقافة والعادات والتقاليد، وكان هدفه هو معرفة معايير اختيارهم لشركاء حياتهم كلٌّ حسب ثقافته ومعتقداته، وأشارت نتائج دراسته إلى التشابه الكبير في المعايير بين جميع الثقافات؛ ممَّا يعني وجود برامج تطورية في انتقاء الشريك تجمع ما بين معظم البشر وتحدد سلوكاتنا.

استند ديفيد باس في فرضياته على نظريته: "يحدد حجم الاستثمار في الذرية استراتيجية كلا الجنسين"؛ لكن كيف ذلك؟

إنَّ المحرك الأساس لسلوكات الإنسان وفقاً لعلم النفس التطوري هو التكاثر، وذلك بهدف تمرير مادته الوراثية وبقائها في أفضل صورة ممكنة.

تعدُّ الأنثى انتقائية جداً في اختيار شريك حياتها، وذلك بسبب حجم استثمارها في الذرية أكبر من الرجل، فهي تحمل الجنين لمدة 9 أشهر، وتتعب كثيراً في تربية الطفل بعد الولادة وفي تعليمه؛ ولكي تضمن الأنثى حياة كريمة لطفلها، تهتم جداً بموارد الزوج، وقدرته المالية على سد احتياجات الأسرة؛ وفي حال أنَّها لم تهتم بما لديه من موارد مالية حالية، فستهتم حكماً بخطته المستقبلية وطموحاته المتعلقة بالموارد المالية.

من جهة أخرى، لكي تتأكد من استعداده لبناء علاقة طويلة الأجل معها، تفرض شروطاً صعبة عليه، لكي يُدرك أنَّها ثمينة وليس من السهل الوصول إليها.

في حين يعدُّ استثمار الرجل في الذرية ضئيلاً جداً؛ بالتأكيد، يقدِّم الرجال دوراً تربوياً وإرشاداياً خلال عملية الزواج، ولكنَّهم قادرون عملياً على الزواج من امرأة أخرى والإنجاب في أي وقت كان، وقد يفضِّل الرجل أن يعدد في الزوجات في حال كانت موارده المالية كبيرة بهدف نشر مادته الوراثية وزيادة مردوده الإنجابي؛ في حين تميل الأنثى إلى الاكتفاء بزوج واحد على أن يكون مناسباً؛ ذلك لأنَّها لن تستطيع استثمار أكثر من طفل كل 9 أشهر.

أيضاً، تختلف سيكولوجية الغيرة بين كلٍّ من الرجل والأنثى، حيث تغار المرأة في حال اكتشافها خيانة زوجها العاطفية بنسبة أكبر بكثير من غضبها لخيانته الجسدية، حيث تعطيها الخيانة العاطفية شعوراً بأنَّ الالتزام طويل الأجل بينها وبين زوجها قد تعرض إلى الكسر، مما يعني احتمالية انقسام الموارد بينها وبين المرأة الثانية؛ في حين يثور الرجل في حال اكتشاف خيانة زوجته الجسدية له بنسبة أكبر بكثير من غضبه لاكتشاف خيانتها العاطفية.

يميل الرجل إلى أن يملك ابناً ذكراً، لأنَّ فرصة نشر الجينات لدى الذكر أكبر بكثير من الأنثى في حال تعدد شركائه، ولكنَّ المردود الإنجابي لدى الأنثى ثابت؛ كما يهتم الأبوان بابنهم لأنَّه الضمان الوحيد لبقاء استمرار مادتهم الوراثية، فهو يحمل نصف المادة الوراثيّة لكلٍّ من الأم والأب.

يوجد علاقة طردية بين مقدار المادة الوراثية المشتركة بين الأشخاص وبين الخدمات التي يقومون بها لبعضهم الآخر دون مقابل؛ فعلى سبيل المثال: تبلغ نسبة المادة الوراثية المشتركة بين الأب وابنه 50%، بالتالي سيوفر الأب لابنه حماية مطلقة وغير مشروطة، في حين ستقل الخدمات المقدمة من قبل العم لأنَّ المادة الوراثية المشتركة بينه وبين الابن 12.5% فقط؛ أي كلما زادت نسبة المادة الوراثية بين شخصين، ازداد الاهتمام وتقديم الخدمات بلا مقابل.

يقع الأب تحت فرضية عدم التأكد، لذلك تكون الأم أكثر حناناً وحباً لابنها من الأب؛ ذلك لأنَّها غير واقعة تحت فرضية عدم التأكد، وواثقة 100% من أنَّ هذا الولد ابنها ويحمل مادتها الوراثية.

الخلاصة:

يستحق علم النفس التطوري البحث والدراسة، فهو يدخل في جميع مفاصل الحياة، ويحلل سلوكات الجماعات والتكيفات التي سمحت بهذا التعقيد في التعامل اليومي في شتى مجالات الحياة؛ وإنَّه لأمر مثير للاهتمام أن نعلم أنَّنا محكومون بمادتنا الوراثية، وأنَّنا نتاج ناجح لصراع أجدادنا من أجل البقاء قبل ملايين السنين.

 

المصادر: 1، 2، 3، 4، 5، 6، 7




مقالات مرتبطة